Culture Magazine Monday  12/03/2007 G Issue 190
عدد خاص
الأثنين 22 ,صفر 1428   العدد  190
 

قريب بما يكفي، وبعيد بما يرضي
عبدالله إبراهيم *

 

 

وقع التعارف المباشر بيننا، عبدالله الغذامي وأنا، في صالة فندق (القدس الدولي) في عمّان- الأردن، ظهيرة يوم 26-7-1998م. قدمت أنا من ليبيا حيث كنت أدرس في إحدى جامعاتها بدعوة من وزارة الثقافة الأردنية للحديث عن (بناء السرد في الرواية الأردنية). وقدم الغذامي من الرياض في دعوة للمشاركة في إحدى الندوات الأدبية الموازية لمهرجان جرش الثقافي.

أبهجنا اللقاء غير المدبر أمام موظفة التسجيل في الفندق، فتركناها وشغلنا بأمرنا، تعارفنا من قبل عبر الكتب، فبدونا في تلك اللحظة وكأننا نعرف بعضنا من زمن بعيد، وتوجهنا عصرا بسيارة المضيفين إلى (المركز الثقافي الملكي) حيث القيتُ محاضرتي، إذ أبدى الغذامي حرصه على حضورها، ولزم الصمت في قاعة عجت بالسجال إثر المحاضرة، وحينما انتهيت اعتذرت من المضيفين لدعوة العشاء، وفضلت مصاحبة صديقي الجديد - القديم، فعدنا إلى الفندق معاً، وأمضينا طرفاً من الليل في حديث شائق دار كثير منه حول طه حسين، ثم داومنا اللقاءات طوال الفترة التي مكثناها معاً، وحضرنا في إحدى الأمسيات حفلة موسيقية لـ(نصير شمه) في المسرح الشمالي بمدينة جرش، وخلال السنوات الثلاث اللاحقات تبادلنا الرسائل طوال السنة الأخيرة لوجودي في ليبيا، ثم بعد ذلك في جامعة قطر.

ترك اللقاء في نفسي انطباعا عميقا بصدق الغذامي، ونبله، فسلوكه جزء من ثقافته، ووعده صادق كما خبرته بنفسي، وأفكاره المتواصلة تصيبه بالأرق، ولهذا كان يميل للهدوء والتأمل، وقد دفع ثمن مواقفه الفكرية في وسط اجتماعي (وجامعي) يتوجس كثيرا من التغيير.

ثم التقينا في البحرين في 5-5-2001 ضمن ندوة كرّست عن مشروعه حول(النقد الثقافي) شارك فيها عدد كبير من الباحثين، وأقيمت في متحف البحرين الوطني، وكنت المتحدث الأول في الجلسة الافتتاحية، فقدمت نقدا منهجيا صارما لمشروعه الخاص بالنقد الثقافي، ظهر لاحقا في كتابي (المطابقة والاختلاف) وفي كتابين نقديين ظهرا بعد ذلك في كل من المنامة والرياض حول جهوده النقدية. وطوال اقامتنا في فندق (الخليج) في المنامة لم ألمس لديه تململا من نقد يفكك مشروعه، فقد مضينا في حواراتنا محتفظين في الوقت نفسه بعلاقة شخصية أراها رفيعة المستوى. ولطالما فصلت بين المستويين الشخصي والفكري في أي نقد أقوم به، ويخيل لي أن الغذامي يتبنى الأسلوب نفسه. كنا قريبين عن بعضنا بما يكفي، وبعيدين بما يرضي.

ولكي أعبر عما اعتقده من إنصاف للغذامي ناقدا، فلابد من التأكيد بأنه ظهر في مرحلة التمخضّات الكبرى التي عرفها النقد العربي الحديث، مرحلة الثمانينيات من القرن العشرين. وإذ أصفها بذلك الوصف، فلأنها شهدت بداية انهيار نسق في التفكير النقدي القديم، وبداية ظهور نسق مختلف جديد. وليس من الخطأ القول بأن الظواهر المختلفة والجديدة تنبثق من تناقضات الأشياء القديمة التي بدأت تتأزم وتُظهر عجزا في تفسير موضوعاتها، وقد ضمرت روح الفاعلية والجدوى فيها، وبدأت قوالبها الجامدة تحول دون الوفاء بوعودها. ولم يتم كل ذلك بمعزل عن الموجّهات الثقافية السائدة في العالم آنذاك؛ فنحن نعترف بأن كثيرا مما يشكّل الثقافة العربية الحديثة، يستند إلى (مرجعيّات مستعارة).

على أن ذلك لا يعني غياب الأسباب الذاتية المتصلة بذبول نسق من التفكير والبحث عن آخر. لقد تفاعلت أسباب كثيرة فأفضت إلى ذلك التمخّض الذي كان من نتيجته حركة استبدال واسعة في كثير من المفاهيم الأيدلوجية والثقافية والأدبية. إذ تداخلت في أول الأمر القيم والمنظورات والمواقف، ثم تصارعت، وحصل التباس كبير بين التيارات الفكرية القديمة والجديدة. وكان التفكير الجديد يوصف بأنه مروق يُسبُّ من أجله المرء، ويُشهّر به، ويلاقي عَنتاً في الوسط التعليمي الذي يعيش فيه، وقد يُلعن ويُكفّر. ويبعد من جامعته إذا كان أستاذا كما وقع لكثيرين لأنه يسمّم أفكار الآخرين بالحداثة والعلمانية وسواها من التهم الجاهزة.

بدأت بمتابعة الغذامي منذ أصدر كتابه (الخطيئة والتكفير،1985) جاءني به من عدن صديق يماني حينما كنت في جامعة بغداد، فوجدت الكتاب يحمل عنوانا غامضا وواضحا، يُظهر ويحجب، يستر ويفضح، يقول ويمتنع عن الإفصاح، يكشف ويوارب، وذلك في خضم انهماك الثقافة النقدية بفضِّ النزاع بين أصحاب المناهج الخارجية التي تحيل الأدب على المؤثرات الخارجية، وأصحاب المناهج الداخلية التي تقول بالنسق المغلق للنصوص، وتغيّب أبعادها المرجعية في التحليل، وكان الحماس الأيدلوجي- المعرفي لتلك المناهج في ذروته.

قدّم الغذامي عرضا موسعا لما بعد مرحلة الأنساق المغلقة، شارحا بتفصيل تعريفي على غاية من الأهمية آنذاك ما يمور في الساحة النقدية العالمية من مناهج سيموطيقة، متوقفا بصورة خاصة على منهج التفكيك- الذي مازال منذ ذلك الوقت يصطلح عليه بـ(التشريحية) - وسرعان ما أصبح الكتاب من كلاسيكيات النقد العربي الجديد، إذ ما زالت تتوالى طبعاته مع أن النقد قد غادر كثيرا ما عرّف به الكتاب، الأمر الذي يدل على حيوية الأفكار والأسلوب فيه. ولم يربط الغذامي نفسه ربطا آليّاً بالمناهج المغلقة كما فعل ذلك كثير النقاد العرب في الثمانينيات من القرن الماضي. فقد كانت خطوته الأولى مقترنة بالاقتراب إلى النقد من خلال الأنساق الجديدة المفتوحة، ومحاولة الإفادة من ذلك في دراسة الأدب العربي. تلك كانت بداية صحيحة.

فيما بعد برهن الغذّامي على صواب اختياره؛ فقد جاءت كتبه الأخرى تدعم ذلك الاختيار النقدي، ونختار منها: (تشريح النص-1987) و(الموقف من الحداثة -1987) و(ثقافة الأسئلة-1992) و(القصيدة والنصّ المضاد-1994) و(رحلة إلى جمهورية النظرية-1994) و(المشاكلة والاختلاف-1994) و(المرأة واللغة- 1996) و(ثقافة الوهم-1998) و(تأنيث القصيدة والقارئ المختلف-1999) ثم (النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية-2000) وغيرها من الكتب عن الحداثة في السعودية، وسطوة الصورة، وغير ذلك.

تكشف هذه الكتب من عنواناتها، بصورة ما، أن الغذّامي لم ينحبس في موضوع، ولم تأسره قضية واحدة، والمتتبّع له يعرف جيدا أهمية النقلات الفكرية التي قام بها، وبخاصة التفاته إلى قضية الأنوثة في الثقافة العربية، وهو مشروع يندرج ضمن مشاريع النقد الثقافي التي تتطلع إلى تفكيك المركزيات الأساسية في تاريخنا وثقافتنا وحياتنا: المركزية الغربية، والمركزية الدينية، ومركزية الذكورة. الأولى متصلة بالبعد الثقافي وطبيعة العلاقة بالآخر، والثانية بالبعد العقائدي، والأخيرة بالبعد الاجتماعي. إلى ذلك كان الغذّامي يغني أفكاره وتصوراته، ويعمّق تحليلاته وينوّعها.

ولعل أكثر ما أثار السجال أفكار الغذامي حول وظيفة النقد الثقافي، إذ يرى بأن الوظيفة الجمالية للنقد أسرتْه في سياج مغلق، واحتج على تلك الوظيفة التي تتركّز في أن النقد اقتصر على نوع من القراءة الخالصة والتبريرية للنصوص الأدبية. وهو يريد له أن ينخرط في كشف العيوب النسقية المختبئة خلف النصوص أو فيها، ومن ذلك يريد القول بأن المهمة التقليدية للنقد أفضت إلى نوع من (العمى الثقافي). وسنفهم بأن الوظيفة التي يقترحها ستقود إلى (البصيرة الثقافية).

العمى والبصيرة- وهو عنوان كتاب بول دي مان- يتساجلان في أطروحة الغذّامي حول النقد الثقافي، وهو ينتصر منذ البداية للبصيرة النقدية النافذة التي لا تتردد في كشف العيوب النسقية في الثقافة والسلوك. وهو قبل هذا يعزو إلى الشعر صنع الاستبداد وإشاعته في حياتنا. ومع أننا لا نوافقه على أن الشعر أهم ما في الثقافة العربية - إذ نجد ذلك في المرويات السردية- لكننا نشاطره الرأي بأن الشعر، والشروط الذوقية التي قامت بتصفيته وتنقيته، والمحضن الثقافي الذي أسهم في قوله أو إنشاده أو روايته أو تدوينه، أو تداوله، قد أدت إلى (شعرَنة الذات وشعرَنة القيم). شعرنة القيم أي تحميلها بالأبعاد الشعرية. فهو يعتبر ديوان العرب مدوّنة لا تقدر بثمن تضخّ عبر الزمن منشطاتها النسقية في تضاعيف الشخصية العربية، إلى حد جعلها شخصية (متشعرنة).

يؤكد الغذّامي كثيرا على الأهداف التي يتوخّاها من النقد الثقافي، لكنه أبعد ما يكون عن الادعاء بأنه هو المبشِّر الأول به؛ ولأجل هذا قدم عرضا وافيا لما اصطلح عليه(الذاكرة الاصطلاحية) للمشروع. فقام بتشكيل سياق ثقافي لهذا النمط من الممارسة النقدية، فبدأ بكيفية فهم العمل الأدبي، تلك الكيفية التي مرت بسلسلة متواصلة من التصورات، بداية بـ(ريتشاردز) مرورا بـ(بارت) وصولا إلى (فوكو) حيث أصبحت الممارسة النقدية تهدف إلى (تأسيس وعي نظري في نقد الخطابات الثقافية والأنساق الذهنية). ثم تطور الأمر في حقبة المابعديات: ما بعد البنيوية، وما بعد الحداثة، وما بعد الاستعمار، إلى راهن الثقافة حيث (التاريخانية الجديدة) و(النقد الثقافي). وخلال هذه المسيرة التي استغرقت معظم القرن العشرين، تبلور للنقد الثقافي هدف يتمثل في مجاوزة النص بمفهومه التقليدي واعتباره مادة خاما تستخدم لاستكشاف أنماط معينة من الأنظمة السردية، والإشكاليات الأيدلوجية، وأنساق التمثيل، وكل ما يمكن تجريده من النص. فالنص ليس الغاية القصوى للدراسات الثقافية، وإنما غايته المبدئية: الأنظمة الذاتية في فعلها الاجتماعي في أي تموضع كان. لا يقتصر الأمر على قراءة النص في ظل خلفيته التاريخية ذات الأنماط المصطلح عليها، فالنص والتاريخ منسوجان ومدمجان معا كجزء من عملية واحدة، والدراسات الثقافية تركّز على أن أهمية الثقافة تأتي من حقيقة أن الثقافة تعين على تشكيل وتنميط التاريخ.

يريد الغذامي أن يقوم النقد الثقافي بوظيفة فكّ الارتباط بين المؤثّر والمتأثّر، بين سلبية الأثر الذي تركه الشعر والشخصية العربية، ومن خلال ذلك يقرر بأن الوظيفة التقليدية للنقد قد كرّست تلك العلاقة. كرستها لأنها شُغلت فقط بالأبعاد الجمالية لها. لم تجرؤ أبدا على اختراق الحجب التي تقع ما وراء ذلك. كانت ممارسة مصابة بالعشو. بشكل من الأشكال كانت عمياء، غير قادرة على التمييز؛ لأنها تفتقر إلى الوظيفة النقدية الجذرية التي تقوم بتنشيط دائم للمضمرات الدلالية القابعة خلف الغلالة الجمالية للنصوص. استخدمُ كلمة تنشيط، وأميلُ إلى القول إنها كامنة هناك متحفّزة كالجّني المأسور في قمقم. لم يقترب النقد إلى ختم الرصاص. كان خائفا على الدوام من الأعمال الفظيعة والمخرّبة التي سيقوم بها ذلك الجني المأسور. يسكننا خوف مبالغ فيه من الفوضى، ولهذا نلوذ دائما بالتفكير التقليدي والقيم والعلاقات النسقية، قصدتّ تجنب المخاطرة والاكتشاف والميل إلى الأمان الذي هو في نهاية المطاف المحضن المناسب للشخصية الامتثالية والولائية.

هذه المهمة لوحدها تعتبر ناقصة، لكي تكتمل لابد من التوسّع بمهمة النقد ليشمل نقد المؤسسة المنتجة للثقافة التي تروّض العقل والذوق والسلوك، وتُسبغ على الثقافة صيغا نمطيّة، وتصطنع قيما ثقافية هزيلة، وتشيع ضروبا من الإنتاج الثقافي الدعائي الذي يسهم في إذابة فاعلية الأسئلة، وحجر المزعجة منها، وإقامة الحد على الجريئة التي يدفعها الفضول المعرفي إلى كشف المسكوت عنه. تلك هي الدوغمائية بعينها.

ترهن المؤسسةُ الثقافية التي تقيم علاقات متواطئة مع مؤسسة السلطة ومؤسسة المجتمع النسقي المثقَّف لسلسلة من القيود والشروط والضوابط لا ينفذ من خلالها أحد يمكن أن تنطبق عليه صفة مثقف، تلك الصفة التي كانت دائما تحيل على منظومة متنوعة وشاملة من المواقف والمنظورات غير المنصاعة لمركز يصادر تطلعات الآخرين وإرادتهم ورغباتهم. ما نحتاج إليه هو: نقد الوظيفة التقليدية للنقد، والمؤسسة التي تحرص على تثبيت تلك الوظيفة. النقد الثقافي لو مورس كما ينبغي له، يبطل مفعول ذلك النشاط المخدّر والمدمّر لتلك المؤسسة ونقدها.

النقد الثقافي مشروع ثقافي فوق أن يُطرى ويمدح بالصيغة التقويمية التقليدية. في الواقع هو يشجع ناقديه على الانخراط في ممارسة النقد الثقافي نفسه، فتسري فيهم أهدافه فورا. إنه باعث على الحوار والجدل، والأفكار والآراء والتأويلات والنتائج، وطرائق التحليل والاستنتاج التي احتواها وتوصل إليها، واتّبعها، تثير خلافا يصبّ في نهاية المطاف في صالح الهدف الذي يريد أن يحققه مشروع نقدي مثل هذا: تصحيح علاقتنا بالماضي من خلال نقده، وتحديد انساق القيم الخدّاعة المتخفيّة في ثقافتنا وحياتنا، والعمل على تفكيك عُراها وأواصرها تمهيدا لتغييرها. إنه مشروع يضع في اعتباره، وبنفس الدرجة، نقد الواقع ونقد التمثيلات الرمزية المسماة أدبا. ليس مهماً لمشروع مثل هذا أن نسلّم بما تضمنه وانتهى إليه، الأهم بالنسبة له أن يكون مفتاحا يسهم في فك الأقفال الصدئة التي تحول دون الدخول المرن في عالم الماضي وعالم الحاضر على حدّ سواء.

* ناقد واكاديمي عراقي


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة