Culture Magazine Monday  12/03/2007 G Issue 190
عدد خاص
الأثنين 22 ,صفر 1428   العدد  190
 

أسئلة الناقد الاستثناء
د. مصطفى الضبع

 

 

ما إن تشرع في الحديث عن رجل فذ فأنت واقع في مجال المقارنة، مقارنته بسياق العصر ورجاله تجديداً لمقولة قديمة، منذ أن قيض لي أن أقع على مقولة أفلاطون بالسؤال الفاسد وقعت في أسر التفكير في أمور تقع في دائرة المعاينة ولا تخرج مطلقاً عن مجال السؤال الفاسد الذي يتسبب يومياً في الكثير من كوارثنا الخاصة أعني تلك التي تشكل مدار حياتنا العربية، هكذا رحت أتابع هؤلاء الذين يراهنون على إنضاج وعينا العربي بالأسئلة الدالة.

لست أشير صراحة هنا وبشكل مباشر إلى كتاب الغذامي (ثقافة الأسئلة) فلئن كان الكتاب يقع في واسطة العقد تقريباً في سياق نتاج صاحبه (الكتاب السادس) فإن أسئلة الناقد بدأت منذ كتابه الأول (الخطيئة والتكفير) الصادر في طبعته الأولى قبل ذلك بسبع سنوات، أولها - من وجهة نظر خاصة - سؤال البحث عن النموذج من البنيوية إلى التشريحية، بعدها لم تتوقف الأسئلة تتوالى، تتجمع وتفترق، تتقاطع وتتوالى، تتلاقى خيوطها من عمل سابق إلى آخر لاحق، تتلاحق جداول وروافد متجلية بصورة غير مباشرة حتى تلتقي في مصب مباشر (ثقافة الأسئلة) ذلك الذي يمثل منعطفاً له قيمته في رحلة الناقد، يكفي الإشارة إلى عدد من النقاط ذات الوظيفة التأكيدية:

- أن مفردة ثقافة بكل ما تحمل من وعي بمجتمعها المنتجة فيه قد ظهرت للمرة الأولى في سياق الصيغ المشكلة لعناوين أعمال الناقد، وأنها كانت إرهاصاً لظهور المفردة بوصفا طرحاً مستقلاً في ثلاثة أعمال لاحقة شكلت مع الكتاب السابق رباعيته (حتى الآن)، في هذا السياق: ثقافة الأسئلة (1992)، رحلة إلى جمهورية النظرية: مقاربات لقراءة وجه أمريكا الثقافي (1994)، ثقافة الوهم (1999)، النقد الثقافي (2000).

- أن الكتاب كان منعطفا له أهميته في سياق تحول الناقد من مقاربة النص المكتوب بأفقه الواسع إلى حد ما إلى مقاربة الواقع بوصفه نصا بمعناه الأوسع غير المحدود، وهنا تكمن أهمية الانطلاقة الجديدة حيث وسع الناقد مفهومه للنقد الذي لم يعد في منظومته مجرد مقاربة للنص بقدر ما هو مقاربة للواقع.

- أن الكتاب كان إرهاصا له طبيعته لما تبلور لاحقا من نظرية النقد الثقافي وفكرة الأنساق التي طرحها الناقد بجرأة تامة أثارت حوله غبار المشكلات التي لم تنته ربما حتى يومنا هذا، هنا تجدر الإشارة إلى الحراك الذي أحدثه الكتابان عند من يهتمون بالجديد (أعني: ثقافة الأسئلة، والنقد الثقافي).

- أن مقدمة الكتاب تتضمن تأكيد ما ذهبنا إليه سابقا من أن الناقد مهموم بطرح الأسئلة منذ كتابه الأول: ومنذ صدور (الخطيئة والتكفير) عام 1405(1985) وأنا في حال مواجهة مع الأسئلة، وجاءت كتاباتي الصحفية ومشاركاتي المنبرية استجابة وتفاعلا مع هذا المد الاستطلاعي والاستفهامي، ونتج عن هذا كتابي (الموقف من الحداثة ومسائل أخرى) الذي يتضمن بعض تلك المشاركات، ولقد صدر عام 1407(1987) وجاءت بعده سلسلة من المقالات والمشاركات منها مجموعة مقالات بعنوان (أسئلة الكلمة) بلغت بضع عشرة مقالات.

- إن الوشيجة قائمة بين الكتابين من طرف خفي يشير إليه فهم العنوانين بطريقة تبادلية فإذا كان العنوان الأساسي (ثقافة الأسئلة) يتبعه عنوان مفسر (مقالات في النقد والنظرية) فلدينا أربع مفردات أساسية في العنوانين (ثقافة - الأسئلة - النقد - النظرية) يمكنك بطريقة ضم المؤتلفات أن تنتج منها (ثقافة النقد وأسئلة النظرية) إذ تكون الثقافة أقرب إلى النقد والأسئلة أقرب للنظرية، وهو ما يعني أنك واجد طريقا إلى العنوان الآخر (أعني النقد الثقافي) مفسحا المجال لمساحة أكبر تتجاوز النقد الأدبي بمعناه الذي بات أضيق بكثير مما عهدناه، وفي لحظة تاريخية بات معها من الأهمية بمكان أن نراجع مفهوم النقد الأدبي موسعين من الوعي النقدي ليشمل سياقاتنا الثقافية، من هنا كان الكتاب الأول يطرح ثقافة النقد التي أرهصت لأنواع جديدة من النقد وقد اكتسبت الثقافة وعيها الجديد المستمد من وعي النقد ورؤية الناقد، وقد تسلح بالكثير من منابع ثقافاته المتعددة المؤسسة على عمادين أساسيين: التراث والمعاصرة بكل ما تعنيه المعاصرة من توسيع أطر الثقافة من عربية وغيرها.

لقد نحا الناقد بأسئلته منحى تجاوز الأسئلة الفاسدة - على حد تعبير أفلاطون - تلك الأسئلة التي شغلت الكثيرين وتسببت في بعض الخلل الذي أصاب ثقافتنا العربية ومن ثم حياتنا العربية كلها. وقد أجاد الغذامي طرح رؤاه في الفصل المعنون (ثقافة الأسئلة) حيث يرى أن من أهم المسائل الثقافية والعلمية وأخطرها هو (طرح الأسئلة)، وحينما أقول ذلك فإنني أرمي إلى غاية أنبه فيها إلى ما للأسئلة من أهمية مصيرية إذ إن السؤال هو الذي يقرر الإجابة، ولأن الأمر كذلك فإن فن صناعة السؤال هو من أصعب فنون القول والمنطق، وأنا أزعم أن كثيرا من البلبلة الفكرية التي نعيشها في واقعنا العربي الفكري المعاصر هي بسبب أسئلة مهزوزة قادت إلى إجابات مصابة بمثل تلك الأسئلة، وحسب هذا المفهوم فإنه يرجع أسباب الداء في أية قضية عربية مهزوزة ضاربا المثال بقضية العروبة الإسلام وقضية الدين والدولة وقضية الأصالة والمعاصرة.

لقد تجاوز الناقد حدود التقليدية أو لنقل تخلص من قيودها وجعلنا نطرح أسئلة استكشافية عن شخصية الرجل ومشروعه حيث يمكننا رصد محورين أساسيين:

أولهما: الأستاذ النموذج خارج قاعة الدرس، حيث تخلص الغذامي من شخصية الأستاذ الجامعي التي باتت سببا من أسباب جمودنا العربي فحقق المعادلة الناجحة، الأستاذ المتحقق بين امتدادين، قاعة الدرس والمجتمع الخارجي الذي لا يمكن أحيانا أن نفرق بينهما بل ربما كانت قاعة الدرس معملا لأفكار الباحث، وكان الواقع قاعة بحث لإجابة أسئلة الواقع بكل ما يموج به من أطروحات من شأنها أن تجيد طرح الأسئلة، والطرح الواقعي يتجلى عبر مشاركات الغذامي ذات الصبغة المجتمعية التي تتمثل في:

1 - الكتابة الصحفية: عبر مقالاته في الدوريات السعودية وفي مقدمتها: عكاظ واليمامة والرياض وكلها تؤكد رفض الأستاذ الجامعي لقيود قاعة الدرس. والملحوظة الأهم أن الناقد في كتاباته الصحفية لم يشتت جهوده ولم يفتت رؤاه بأن ترك لمقالاته حرية الانطلاق حسبما تقتضيه ظروف اللحظة وإنما الكتابة المقالية لديه نوع من التأليف على نار هادئة وإن لاحقته المطبعة بلهاثها الأسبوعي، فالمقالات تتشكل وفق معيار منضبط مقاربة قضايا لا تنزلق إلى اليومي والمسطح بقدر ما تتعمق فيما هو أبقى وأقدر على تشكيل الوعي.

2 - حركة النشر: وتتجلى في هذا الكم الدال والمؤثر من مؤلفاته التي نجحت في تشكيل جمهور من القراء والمتخصصين والمثقفين ومحبي الأدب.

3 - النشاط الثقافي: وقد أتاح الناقد والأستاذ الجامعي لنفسه الفرصة لأن يفتح مجالاً آخر لتشكيل الوعي وتوصيل الرؤى مجال الندوات وبخاصة تلك المفتوحة منها حتى لا يتكرر نموذج الأستاذ المحاضر وطلابه وها هو يؤكد على ذلك بقوله: (لقد كنت - ولا أزال - أرى أن الندوات المفتوحة واللقاءات المباشرة هي خير أداة لتوصيل الأفكار وإيضاح المواقف مع الإحالة إلى الكتب لتوكيد ما يقال، ولقد مارست هذا الدور كثيراً ووجدته ذا فائدة لا حصر لها).

ثانيهما: سؤال النقد: وقد تحقق عبر محورين أساسيين (النظرية - التطبيق): فإذا كانت النظرية تخصص الغذامي الأثير (أستاذ النقد والنظرية) فإن الناقد الذي استوعب النظرية لم تستغرقه مغاليقها وإنما جعل التطبيق ليس مجرد تفعيل لمعطيات النظرية بقدر ما جعله دليلا ومكملا وموضحا ومشاركا في صنع جمالياتها (وقد حمدت له ذلك كثيرا لتجاوزه عقدة الانغماس في النظرية كما فعل الكثيرون، وفي مجال التطبيق أو الربط بين النظرية والنص الإبداعي كان للشعر النصيب الأكبر في مقابل السرد والمسرح، وقد جاءت الدراسات التطبيقية جميعها إبداعا على إبداع وعبر لغة تبتعد عن التقعر جاء الطرح النقدي معتمدا طرائق إبداعية في مجملها، ويكفي الإشارة إلى تلك العناوين ذات الطابع الدرامي التي اتخذتها معظم مؤلفاته ذلك الطابع المنتج عبر ثنائية تتشكل في الغالب من الشيء وضده منتجة هذا المجال الدرامي الواضح، ومشيرة عبر حرف العطف في معظم الأحيان إلى قدرة العالم على الجمع بين الطرحين المتناقضين وأهمية الوعي بهما معاً دون النظر إلى أحدهما على حساب الآخر وهو ما يتجلى في:

1- الخطيئة والتكفير.

2- الصوت الجديد القديم (لاحظ الجمع بين الجديد والقديم).

3- القصيدة والنص المضاد.

4- المشاكلة والاختلاف.

5- المرأة واللغة.

6- تأنيث القصيدة والقارئ المختلف (لا حظ العلامة الفارقة بين القصيدة (المؤنثة) والقارئ (المذكر)).

على مستوى المنجز بين يدي (الثقافة التلفزيونية) الكتاب الخامس عشر في منظومة مؤلفات الغذامي لك أن تحسب ذلك على مستوى الكم لتكون المسافة الزمنية بين 1985(تاريخ أول طبعة لكتابه الأول)، 2006 (تاريخ أول طبعة لكتابه الأخير)، ليتشكل منجز الناقد المبدع، وأستخدم المبدع هنا للمرة الأولى عامداً فقد ارتأيت أن تكون نتيجة تمهد لها مداخلتي السابقة، يوم قرأت كتابه الأول ولم تكن المعلومات عن المؤلف متاحة بالقدر الكافي رجحت أنني أمام ناقد مبدع بالأساس ويوم أن تعلقت عيناي بسطور القصيدة والنص المضاد (ذلك الكتاب الذي دشن الغذامي ناقداً فذاً من وجهة نظري الخاصة) أيقنت تمام اليقين أن الرجل مبدع أخذته الأكاديمية فقرر ألا ينعى حظ الإبداع وأن يكمل طريق المبدع في ثوب الناقد وما أحوجنا بحق لهذا النوع من الرجال في وقت كثر أن نقرأ نصاً فنستوعب ما فيه فإذا ما قرأنا نقداً له (الكتاب) استغلق النص باستغلاق ما كتب عنه.

إنه الغذامي ذلك الناقد الاستثناء، وذلك المثقف المتفرد في تميزه، الجاد في مشروعه، المبدع في تفعيل الوعي النقدي ورسم صورة أكثر إشراقاً لثقافتنا العربية ومؤسساتنا الجامعية التي هي أحوج ما تكون للغذامي ومن هم على شاكلته.

مصر


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة