Culture Magazine Monday  12/03/2007 G Issue 190
عدد خاص
الأثنين 22 ,صفر 1428   العدد  190
 

عبدالله محمد الغذامي أو نص النصوص الحية
محمد علي شمس الدين

 

 

أهم ما في عبدالله محمد الغذامي على امتداد كتبه وكتاباته الغزيرة المتحركة بحركة دائرية ذات شغف بالمعرفة وذات قلق أو على قلق كان الريح تحتها.. هو أن الرجل كرة من الأسئلة تتدحرج على امتداد النصوص والظواهر التي تمسها من جهة وأنه أيضا كرة مكهربة لا تمر بالنصوص والظواهر بسلام أو حياد بل توجد معها حقول جذب ودفع وارتعاشة، ملاءمات وخصومات علاقات حيوية غير محايدة بالمرة بل متورطة بورطاتها المثيرة والجميلة في الضدية والوخز والاستفزاز حتى لكأنه تجاه النصوص التي يتناولها بالنقد والتشريح وأصحابها وتجاه الظواهر التي يلاحظها وأصحابها.. لكانه جميل بن معمر والنصوص والظواهر بثينة.

(أول ما قاد المودة بيننا بوادي يغيض يا بنين سباب) وتنضح هذه السمة للغذامي من عناوين كتبه ومضامينها كما من عناوين أبحاثه ومقالاته وموضوعاتها فكتابه (الخطيئة والتكفير) الصادر العام 1985 يوصل لكتابه تشريح النص الصادر العام 1986 ويؤدي للكتابة ضد الكتابة الصادر العام 1991 وصولا للنقد الثقافي في الانساق الثقافية العريبة.. وما بعده ورافقه من نصوص نقدية حتى اليوم.. هذا الكتاب وهذه النصوص المتنوعة للرجل تؤدي إلى خلاصة كونه هو نص النصوص الحية التي يستفزها بعدما استفزته ويطرح عليها الاسئلة بعدما طرحت عليه الاسئلة ويدور عليها كما تدور عليه مثل فهدين يتعاركان.

الغذامي كاتب تشريحي وضدي ومغامر أيضا، ولعله حين يبقر بمبضعه بطون القصائد والتجارب والظواهر أيضا يرغب في فصد دم أضاحيه النصوصية فينبجس منها أحيانا دم فاسد وأحيانا دم جوهري ومضيء وربما تحولت النصوص بين يديه إلى قرابين مقدسة وربما ضحايا.. وربما عرائس مجلدة.. وفي كل الأحوال فالرجل على حدته فسيح.. وعلى بنيويته وسيميائيته مرن وتجريبي وقابل لكي يتبادل مع نصوصه المختارة وأصحابها طعنة بطعنة ليبقى من الحكاية بكاملها بعض الاسئلة والعلامات.

وقد خلبت الغذامي أو غلبته الأنوثة ابتداء من المرأة وانتهاء بالمعنى الأنثوي الذي لا يعول إلا عليه (بالاشارة الصوفية: كل ما لا يؤنث لا يعول عليه) فكتب كتابا بكامله هو (الكتابة ضد الكتابة) في نماذج المرأة في الشعر العربي المعاصر وهو كتاب تجريبي خطير وحر كما هي الفحولة العربية سواء كانت في السياسة من خلال الحاكم الأوحد والفحل المفرد الكلي السلطة أو كانت في المجتمع من خلال نموذج نجيب محفوظ الروائي المعروف (سي السيد) الذي تنمسح أمامه زوجته انمساحا كليا ويتحول إلى كائن طيع وقن من الاقنان ذائب في وهج الأبوة الذكرية المطلقة لسي السيد.. أو كانت هذه الفحولة في الشعر فأنتجت الشاعر الفحل الذي هو فحل لا عقلاني ولا منطقي.. قائم على التوحد والتسلط واستبعاد من سواه (راجع: مفهوم الشعرنة:فحولة عربية الحياة 14 شباط 2001).

وهو ينتقل من نقد الظاهرة إلى نقد النسق ويطور مفهومه في النقد الأدبي (الذي يعلن موته في كتابه النقد الثقافي :قراءة في الانساق الثقافية العربية 2000) في اتجاه النقد الثقافي الذي هو أشمل من النقد الادبي ويتناول بالنظر والملاحظة والتحليل جميع مظاهر الكتابة والحياة كعلامات أو أشارات تحمل دلالاتها الثقافية.

يكتب في نص بعنوان (حكاية الحداثة: من داخل الدار): البيت السعودي تعرض لاقتحام من الداخل بسبب دخول الخادمات الاجنبيات إلى البيوت وهناك قصص طريفة منها أن إحدى السيدات حينما دخلت عليها خادمتها الآسيوية قادمة للتو من المطار هبت لها السيدة مرحبة ومهللة وراحت تقدم لها الفراش وتعزمها على الأكل وتخدمها بما أنها ضيفة عليها وظلت أياما عاجزة عن توجيه الأوامر إليها بل إن السيدة ظلت تخدم الخادمة وتوفر لها كل شروط الضيافة ولم تتعلم نظام السيادة المنزلية إلا بعد وقت ليس بالقصير وهناك قصص عن رجال استقبلوا خادماتهم في المطار بأن حملوا لهن الحقائب وحينما وصلوا بهن إلى الحارة طيروا الأخبار عن وصول ضيفة عزيزة راح الجيران يتناوبون في دعوتها على الشاي وقاموا بواجب العزيمة والضيافة (راجع المقال في جريدة الرياض 2 يناير 2003) يلاحظ ان المقال مدرج تحت عنوان (الحداثة) وهي هم الغذامي ومحور اهتماماته النقدية سواء من خلال تشريح النصوص الشعرية كعلامات لغوية أو الظواهر الاجتماعية أو السياسية كعلامات ثقافية أيضا إلى جانب النصوص الادبية.. و لعله يرمي إلى طرح سؤال الدلالة من خلال ما وصفه من ظاهرة اجتماعية وهو كيف تتفاعل الثقافة العربية (سواء كانت شعراً أو رواية أو سلوكاً اجتماعيا أو طرازاً مدنياً) مع الثقافات الأخرى.. خدماتية كانت أم أدبية أم ثقافية؟ ومثلما ينطلق الغذامي في اسئلته النقدية من الظاهرة الاجتماعية أو السياسية فإنه ينطلق في نقده الأدبي ومن ثم الثقافي من النصوص كعلامات.. ينكب عليها بصفتها لغات وسيمياء يشرحها يستنطقها ويستخرج من داخلها ما تستره من بنى سيميولوجية متحركة في داخلها كانها جنة غامضة.. كاحتمالات.

صحيح أن الحقل الذي يحرث فيه الرجل حرثه الدائب الطويل هو النص في ما هو متحقق موضوعي لغة وبناء حتى ليكاد لا يكون شيء خارجه (وهو ما استفاده الغذامي من الفكر النقدي البنيوي الغربي على ايدي اساتذته: رولان بارت وشتراوس وغولدمان وجوليا كريستيفا وسواهم إلا انه ينتقل معهم ايضا من نقطة النص إلى دائرته الأوسع والأوسع فيصل إلى النسق ونظرية الانساق نظرية شاسعة ومركبة ثقافية ومفتوحة على الفلسفة والاحتمالات والغموض..

إن لذة النص التي نادى بها رولان بارت وكادت تقتل كاتب النص وتقدمه ضحية على مذبح نصه وكانه ذكر النحل الذي يموت بعد ان يلقح الملكة.. إن لذة النص هذه الدموية المستبدة ثم التخفيف من حدتها أو تجاوز هذه الحدة باحياء الانساق التي وان كان لها قوة الغيب (بتعبير نذير الفطرة في فصل الفعل الشعري ونقد النقد/ الكتابة ضد الكتابة ص122) إلا انها تفتح بابا للاحتمالات ولحيوات شتى يمكن ان يعيشها النص الواحد.. أو لقراءات كثيرة لنص واحد.

يشير نذير العظمة في تعليقه على نقد الغذامي لقصائد كل من الشعراء السعوديين: حسين سرحان وغازي القصيبي ومحمد جبر الحربي نقد هؤلاء الشعراء بدورهم لنقد الغذامي في ما يشبه نقد النقد ونقده (أي العظمة) لنقد نقد النقد (وكل ذلك مثبت في الكتاب التجريبي الجديد والطريف للغذامي المسمى (الكتابة ضد الكتابة).. يشير نذير العظمة إلى التموجات الفكرية للبنيوية وخروجها من قوقعة النظرية المحض التي تقتل نفسها بالنتبجة إلى اغتذائها بدم متنوع لنظريات وتجارب اخرى كثيرة.. فبالإضافة للعلوم اللغوية والألسنية أضاف المحدثون معارفهم الحديثة إلى ذلك من التداعي النفسي إلى السمانتية والعلوم الاجتماعية ويؤكدون على الدال اللغوي والمداليل المتنوعة ويستخدمون الفولوكلور والأساطير والمعتقدات الدينية وغيرها ليسيطروا على نواة العمل الفني وإشعاعاتها في النص الأدبي فيتوسلون علم الإنسان أو علم النفس أو علم الاجتماع أو معارف الأساطير والفولوكلور منفردة بمناهج تحمل مسميات هذه العلوم أو مجتمعة كما في الاتجاه النفسي الجماعي التكاملي (الجشطاليون) لتذوق وفهم عملية الإبداع من خلال النص (ص124).

كما يشير إلى تطعيم شتراوس للبنيوية بالانتربولوجية وحفرياته في الأسطورة وتعميق غولدمان ومن بعده لوكاس البنيوية ببعدي الزمان والمكان.. لينتهي إلى تشريح الغذامي نفسه وموضعته في العمارة البنيوية نفسها التي تبناها بداية ثم سار فيها شوطا من خلال النصوص التي شرحها بمبضع البنيوية لينتهي إلى ان الغذامي (سيميولوجي يفيد من البنيوية ولا يلتزم بها ص 127 من المرجع المذكور) والحال هو أن درة عقد الغذامي في مشروعه النقدي هو كتابه الوسيط الذي سماه الكتابة ضد الكتابة.

إنه تطوير تجريبي مثير ومغامر لكتابه (تشريح النص) صدر في العام 1986 (عن دار الطليعة بيروت) وانطوى على فصول نظرية في النقد وفصول تطبيقية تناولت قراءة سيميولوجية لقصيدة (ارادة الحياة) لأبي القاسم الشابي وقراءة لقصيدة الخروج لصلاح عبد الصبور بعنوان (الدخول إلى الخروج).. فإن الغذامي انتقل في الكتابة ضد الكتابة إلى ما كان استشرفه في تشريح النص من خلاصه (أي النص) بفتح حدود عناصره وإطلاق هذه العناصر على إنها إشارات حرة تم اعتاقها من السالف والحاضر..

ووصل من خلال ذلك إلى تحرير البنيوية ذاتها ومعها النص من محدودية الدلالة.. في اتجاه المغامرة المفتوحة الحرة.. في اتجاه ذاك الغامض والسري في العمل الإبداعي الذي أطلق عليه عبد القاهر الجرجاني تعبير (معنى المعنى) وهو جزء من لذة النص البارتية نسبة (لرولان بارت) الغامضة.

في الكتابة ضد الكتابة يخوض الغذامي غمار تجربة نقدية طريفة جديدة مثيرة ومغامرة أنه يقسم كتابه إلى ثلاثة أقسام ويمهد له بما يسميه (بين يدي النص) ببذور وأفكار حول مشروعه يعتبر فيها أن النقد أو الكتابة (عمل تحريضي) و(عمل مضاد) ويمجد النص ويحييه على حساب كاتبه أكبر من صاحبه وأخطر وبهذا يقتل الغذامي (الكاتب) متاثراً بالطبع بالنظرية البنيوية محييا (النص).. أو الكتابة فالكتابة هي النواة الحية يبن طرفين ميتين: الكاتب والقارئ أما كيف الوصول لجوهر الكتابة أو النص؟ فبتشريحه وكشفه لذا فإنه في معركة النص الكتابة استفزاز وتعرية.

ويمارس الغذامي استفزازه التشريحي هذا في كتابه على ثلاث قصائد لثلاثة شعراء سعوديين أطرهم الناقد حول موضوعة واحدة نماذج المراة في الفعل الشعري المعاصر: هؤلاء الشعراء هم: حسين سرحان في قصيدته المرئية: قولا لذات اللمى.. ويعنون لها الغذامي عنوانا نقديا: (صورة المراة الموت).. وغازي القصيبي في قصيدته (أغنية في ليل استوائي) ويعنون لها في قراءته النقدية بعنوان (المراة الحياة) ومحمد جبر الحربى في قصيدته (خديجة) ويعنون لها في قراءته النقدية بعنوان (المرأة المعنى) ولسنا هنا لنخوض في العمل البنيوي التشريحي الذي قام به الغذامي على هذه القصائد الثلاث المختارة من ثلاثة مناخات شعرية متباينة فقد استنفر لها الناقد عدته اللغوية والإنتربولوجية الأسطورية والتاريخية الاجتماعية والمعرفية النظرية الغربية والعربية معا لكى يصل من خلالها إلى استنتاجاته الافتراضية دائما.. وهي استنتاجات قارئ تشريحي مثقف ومغامر بل ننتبه إلى الحلقة الثانية من عمله النقدي الذي قصد من خلاله إلى (قتل صاحب النص بنيويا باحياء نصه).. وهذه الحلقة عدل من خلالها الغذامي مغامرته النقدية بإعطائه رخصة أو فرصة للشاعر بأن طلب من الشعراء أنفسهم تسجيل آرائهم في ما قام به من افتراضات حول قصائدهم.. فكتبوا على التوالي ملاحظاتهم حول قصائدهم من جهة كما كتبوا من خلال ذلك نقدهم لنقد الغذامي نفسه.

والاستنتاجات طريفة وجميلة وعميقة.. بخاصة منها الفصل الذي كتبه غازي القصيبي بعنوان (قراءة في قراءة في قراءة) والتي قوض من خلالها افتراضات الغذامي واستنتاجاته حول قصيدته فالغذامي في اتجاه والقصيبي في اتجاه اخر مضاد والقصيدة حائرة تنتظر.

أما الجزء الثالث من هذا العمل النقدي التجريبي فهو ما قام به الناقد من دفع نقده ونقد نقده على أيدي الشعراء المعنيين بالنقد أنفسهم إلى شاعر ناقد محايد هو الدكتور نذير العظمة ليكتب قراءة على قراءة على قراءة.

فيكتب بحثا عميقا مثقفا ذكيا فيه من المعرفة النقدية والشعرية النظرية ما فيه من ولوج شعري مباشر في النصوص بكاملها الشعرية والنقدية معا.. و الآن ها أنا أضيف في هذه المقالة قراءة اخرى على قراءات ثلاث.. ربما جاءت بعدنا رابعة وخامسة وسابعة ومائة وألف.. فالشعر عمل إبداعي حر ومفتوح غير مغلق والنقد ايضا فعالية ابداعية وتوليد مفتوح على مصراعيه للقصيدة وإذا كان من أصعب الأشياء وأكثرها إحراجا ما أشار إليه أبو حيان التوحيدي من صعوبة الكلام على الكلام فما بالك بالكلام على الكلام على الكلام.. إلى آخر الكتابة وآخر الحرية وآخر المغامرة؟

لبنان


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة