Culture Magazine Monday  12/03/2007 G Issue 190
عدد خاص
الأثنين 22 ,صفر 1428   العدد  190
 

هل يكفّر الغذامي عن خطيئته؟!
د. نادر كاظم

 

 

استطاع عبد الله الغذامي بجدة أطروحاته وأصالتها وصدقها، أن يكون ظاهرة مركزية في الثقافة العربية الحديثة، ظاهرة يتحلّق حولها معجبون كثر، ويتربّص بها غرماء أكثر، حيث يتسمّر المعجبون بما يكتب من سحر بديع أيام كان الغذامي ناقداً أدبياً، وبنقد جاد ومجتهد للأنساق الثقافية المضمرة في ذهنية الثقافة العربية حين انتقل الغذامي، مع انتقال النقد والأداة والجهاز الاصطلاحي، إلى النقد الثقافي. في حين يتهامس الغرماء مشكّكين حيناً، وناقمين أحياناً. غير أن المعجبين والغرماء ظلوا يتعاملون مع الغذامي بوصفه موضوعاً، يُختلف فيه أو يتفق معه بناءً على النظر في الأبعاد العلمية والمعرفية أو منهجية الطرح، أي الحمولة النظرية والعلمية والمعرفية التي يكتنز بها هذا الطرح.

لقد غاب عن الجميع أهمية تلمّس الحمولة النفسية-الانفعالية في أطروحات هذا الناقد، كما غاب عنهم الإحساس بأهمية البعد العاطفي والانفعالي وتقلّبه مع تقلّب وانتقال طرح هذا الناقد. ولكن إلى أي مدى سوف يمكّننا هذا الكشف عن الأبعاد النفسية في مؤلفات الغذامي من الوقوف على خصوصية تجربته في الممارسة النقدية والثقافية؟ إلى أي مدى يمكننا القول بأن طرح الغذامي كان يتحرّك بدفع من الأبعاد النفسية بقدر ما كان يتحرّك بدوافع معرفية وعلمية ونقدية؟ ثم هل كان للأبعاد النفسية-الانفعالية دور في الحالة الانتقالية التي يعلنها الغذامي من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي؟ إلى أي مدى سيفيدنا الإصغاء الحميم إلى مقاطع البوح الحميم المنتشرة في تضاعيف مؤلفات الغذامي في الوقوف على خصوصية نقد هذا الناقد؟ هل بالإمكان القول مثلاً أن الغذامي كان واقعاً تحت مشاعر الخطيئة (اقتراف الجرم) والتكفير عن هذا الجرم لحظة تأليف (النقد الثقافي)؟ هل كان كتاب (الخطيئة والتكفير) والكتب التي تحدّرت منه بمثابة الخطيئة-الجرم الذي اقترفه الغذامي، مما اضطره إلى التكفير عنه ب(النقد الثقافي)؟ للإجابة عن هذه الأسئلة سوف نستعين بأهم كتابين للغذامي، وهما قطبا تجربة الغذامي، أي الكتاب الأول(الخطيئة التكفير) 1985، وكتاب(النقد الثقافي) 2000م.

كل من قرأ (الخطيئة والتكفير)، وأعقبه مباشرة بقراءة(النقد الثقافي) سيشدّه هذا التشابه اللافت بين بنية الكتابين السردية، فالكتابان مبنيان على ثلاث حركات أساسية، الأولى عرض للمناهج والنظريات الأدبية في(الخطيئة والتكفير) أو الثقافية في (النقد الثقافي)، والحركة الثانية هي بمثابة تمثّل لجملة النظريات من أجل تكوين منهج- نظرية- نموذج خاص بالغذامي من ناحية المفهوم والمصطلح، والحركة الثالثة هي تطبيق هذا الأخير على نصوص أدبية أو ثقافية بحيث تكشف عن قدرة هذه النظرية المكوّنة على تحقيق ما وضعت له من غايات جمالية أو ثقافية.

وبقدر ما يتشابه الكتابان على المستوى السردي-البنيوي، فإنهما يتفارقان على مستوى النظرية والأداة النقدية والاصطلاحية والموضوع المدروس والغايات وطريقة المقاربة. وفوق هذا الاختلاف الذي يتكشّف على مستوى الأبعاد النظرية والعلمية والمعرفية، فإن بين الكتابين اختلافاً عميقاً على مستوى الأبعاد النفسية التي تتحرّك داخل كلا الكتابين. لقد كان(الخطيئة والتكفير) أول كتب الغذامي وأخطرها آنذاك، وهو كتاب يكشف عن وضعية الذات الكامنة خلفه

والمتسترة وراءه. فخلف هذا الكتاب ذات واثقة من قدرتها وتميّزها وتفرّدها أشد ما تكون الثقة، ذات مندفعة بحماس وقوة لا يضاهيهما إلا حماس الغازي أو الفاتح المنتصر أو الفارس الممتطي صهوة فرسه، بل وزمنه في لحظة من لحظات وضح التاريخ الإنساني.

ليست هذه التعبيرات من تأويلنا، بل هي أصلاً من عبارات الغذامي التي افتتح بها (الخطيئة والتكفير)، فالذات تتخيّل أنها تقف على وضح نهار التاريخ، وتقف على صهوة الزمن مواجهة قروناً (يتضاعف مدها الحضاري ومعطياتها النقدية، عربيها وغربيها). وإذا حصل أن وقعت هذه الذات الناقدة في لحظات ضعف أمام الموضوع أو المنهج أو المعطيات المعرفية الإنسانية على مدى التاريخ بأكمله، إذا حصل شيء من ذلك فما هي إلا لحظات عابرة، حيث يزول الضعف والحيرة، ليحل محلهما الوثوق من النجاح والقدرة. يقول الغذامي في الصفحات الأولى من (الخطيئة والتكفير) في لحظة من لحظات البوح الذي ينضح حيرة وتوتراً: (ولذلك احترت أمام نفسي، وأمام موضوعي، ورحت أبحث عن نموذج أستظلّ بظله، محتمياً بهذا الظل عن وهج اللوم المصطرع في النفس)، غير أن هذه الحيرة وهذا الاصطراع في النفس لم يلبث أن انتهى وتلاشى حين وجدت الذات منفذاً ومخرجاً، يقول الغذامي: (وما زلت في ذاك المصطرع حتى وجدت منفذاً فتح الله لي مسالكه، فوجدت منهجي، ووجدت نفسي. واستسلم لي موضوعي طيعاً رضياً. وامتطيت صهوته امتطاء الفارس للجواد الأصيل).

إن استعارة الفارس والجواد لم تأت اعتباطاً، فهي تصوّر مدى قدرة الذات، ومدى وثوقها، ومدى انتشائها بهذه الثقة والقدرة. إن الدخول إلى الأدب، كما يكتب الغذامي، (عمل يشبه حالة الفروسية، فهو غزو وفتح) ومغامرة، غزو للنص وفتح لمكنوناته وسرد لتلك المغامرة. ألا يمكن أن يكون هذا هو السرّ وراء إعجاب الغذامي برولان بارت، فارس النص وغازيه وفاتحه وكاشف أسراره؟

في مقابل الحالة النفسية التي تتكشّف في (الخطيئة والتكفير)، والتي تنمُّ عن وثوق الذات وامتلائها، فإن

وأدونيس، وهو الأسف الذي يتكرر في أكثر من موضع في الكتاب...

لقد مارس الغذامي النقد الأدبي حوالي عقد من الزمن (1985 -1996)، وكان فيها مثال الناقد الساحر البديع في تأويله وتحليلاته السلسة، وقدم مثالاً نموذجياً للناقد- المبدع الذي يجري النص بين يديه سلساً طيّعاً. لقد مارس الغذامي هذا الدور ببراعة واقتدار، غير أنه لم يكن على وعي بالدلالات الثقافية المترتبة على هذه البراعة والاقتدار، لم يكن ليدور في خلد الغذامي في تلك اللحظة خطورة ما يفعله وما يمارسه، ليس عليه فحسب، بل على جمهور القراء الذين يجلسون متسمّرين وهم يتأملون بصيرة الغذامي تجوس في صمت بين تضاعيف النصوص، وتلعب بخفة أيدٍ بين دلالاته وتأويلاته المتكاثرة. ألم يكن الغذامي بهذا الصنيع يبّرر للنسق ويسوّق للجمالي دون وعي منه؟ ألم يجن الغذامي على قرائه ببراعته التي حبّبت إليهم جماليات النص أكثر مما أحبوها قبل أن يقرأوا تحليلات الغذامي؟ ألم يسهم الغذامي بدور كبير في حضور نصوص كثيرة في وعي قرائه، وذلك قبل أن يثبت لاحقاً أنها مبتلاة ب(النسق الشرير)؟ وإذا كانت الإجابة عن هذه الأسئلة بالإثبات فإننا سنكون أما (نموذجاً إنسانياً) آخر يهجس كثيراً بمشاعر الخطيئة والتكفير، كما كان أبو البشر آدم، وكما كان حمزة شحاته من بعده. وهو ما سيسمح لنا بالقول بأنه إذا كان كتاب (الخطيئة والتكفير) استكشافاً للصراع الدائم بين مشاعر الخطيئة والتكفير في تجربة الغير (حمزة شحاتة)، فإن(النقد الثقافي) سيكون تمثيلاً لقصة الخطيئة والتكفير في حياة الذات الناقدة (عبد الله الغذامي)!! ومن أجل اكتشاف عناصر نموذج الخطيئة والتكفير يلزمنا وقفة أطول نأمل أن تتاح لنا في الأيام المقبلة. ويبقى أن نعرف ما الذي تغيّر منذ لحظة (الخطيئة والتكفير) حتى لحظة (النقد الثقافي)؟ ما الذي اختلف في اللحظتين وفي الكتابين لتختلف الحالة النفسية من الفاتح المنتصر إلى الناقم الأَسِف؟

في (الخطيئة والتكفير) كان الغذامي يبحث عن التميّز والتفرّد، وإن كان على وعي بصعوبة تحقق ذلك، غير

أنه في(النقد الثقافي) أمام مهمة أكبر، لا يعنيه التميّز عن الغير كثيراً بقدر ما يعنيه إحداث تحويل في التفكير النقدي، وفي التذوق الجماهيري، وفي السلوك العام، وشخصية الأمة الثقافية. ولإحداث هذا التحويل بحث عن نظرية-أداة نقدية واصطلاحية تعينه على ذلك. في الحالة الأولى كان يبحث عن التفرّد؛ لأن نظريات ومناهج كالبنيوية والتشريحية لم تكن جديدة على الثقافة العربية، فالغذامي ليس أول من كتب عنها، وإن كان دوره لا ينكر في تطبيقها وإزالة حالة التغرّب عنها، إلا أن الغذامي يكاد يكون أول من يطرح مشروع (النقد الثقافي) في الثقافة العربية بهذه الطريقة الشاملة وشبه الجذرية. وعلى هذا فليس أمام الغذامي منافسون كثر يبحث عن تميّزه بينهم، بل هو أمام مهمة ثقافية كبرى تتعلّق بإنقاذ (ذهنية الأمة الثقافية) من حالة (العمى الثقافي) التي تقع فريسة لها. في الحالة الأولى تكون الذات بارزة وحاضرة بقوة، وهو ما قاد إلى انتشائها بغزوها وفتحها وفروسيتها، أما في الحالة الثانية فإن ذات الفرد تتضاءل أمام جمعية المهمة وشمولية الأزمة. وإذا حضرت الذات في الحالة الثانية فإنما تحضر لتمارس أدواراً تحذيرية وتنبيهية استنهاضية، كما لو أن ذهنية الأمة وثقافة الأمة في كارثة ثقافية حقيقية، وهو ما يستلزم تحرّكاً قوياً وجمعياً، وهذا بالضرورة سيقود إلى إعادة طرح السؤال المغيّب عن (مسئولية الناقد) تجاه أمته وثقافته وتجاه الإنسانية جمعاء. وأمام هول الكارثة الجمعية سيتلاشى، وبصورة تلقائية، أي حضور لما هو فردي، ولما يميّز الذات أو النص (الأسلوبيات مثلاً)، حيث سيصطبغ كل شيء بصبغة جمعية كلية ثقافية بدءاً بالنظرية وانتهاءً بالأداة الاصطلاحية. ولهذا وجدنا أنفسنا أمام نقلة نقدية- اصطلاحية لا تشدّد على شيء بقدر ما تشدد على جمعية الأداة وكليتها، فنحن أمام (مجاز كلي-جمعي، وتورية ثقافية، ودلالة نسقية-كلية-ثقافية، وجملة ثقافية، ومؤلف نسقي-ثقافي، ونسق ثقافي، ومضمر جمعي، والذهن الثقافي للأمة...)، كما لهذا اشترط الغذامي في حالات تحقق النسق الثقافي أن يكون النص أو ما هو في حكم النص جماهيرياً، ويحظى بمقروئية عريضة، وذلك لكي يرى (ما للأنساق من فعل عمومي ضارب في الذهن الاجتماعي والثقافي).

أتصور أن الغذامي في(النقد الثقافي) كان واقعاً في قبضة هاجس التكفير عن خطيئة بدئية ترجع إلى العام 1985، وأن هاجس التكفير هذا هو الذي طبع الكتاب بطابع النقمة الشمولية والاستياء العام، ولكن هل يمكن أن نستنتج من ذلك أن هذا الهاجس هو الذي دفع الغذامي إلى كتابة سيرية لا تخلو من بوح وكشف لملابسات تلك المرحلة-الخطيئة، وذلك في كتابه اللاحق عن (حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية) 2004؟

البحرين


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة