Culture Magazine Monday  12/03/2007 G Issue 190
عدد خاص
الأثنين 22 ,صفر 1428   العدد  190
 

دأبجدية مشاكسة الأسئلة وتجاوز المسلّمات
د. فاطمة البريكي

 

 

لا يقف عبد الله الغذامي - كغيره- أمام المسلّمات الثقافية المتوارثة حانياً لها هامته احتراماً، ولا يتعامل معها - كآخرين غيره أيضاً- بتبجيل يصل حدّ التقديس، ولا يأخذ هذه المسلّمات ويقبل بها كما هي، من منطلق أنها من الإرث الذي لا يجوز المساس بحرمته وقدسيته، حتى بمجرد عرضه على الفكر والعقل، فهذا يعدّ تطاولاً لا يمكن غفرانه. لا يفعل الدكتور الغذامي ذلك، ولا يبدو أنه يعبأ بمن يفعلون ذلك برضى وتسليم؛ لذلك يمضي ليشقّ طريقه مخترقاً سور هذه المسلّمات الثقافية المنيع، دون أن يهتم بالأصوات التي تتعالى من حوله تطالبه بالتراجع وإبداء الأسف والندم على تطاوله الجريء على تلك المسلّمات، وعلى هتكه حرمتها.

رحلة الغذامي في هذا الطريق كانت -ولا تزال- طويلة وشاقّة بكل المقاييس، ولكن هذا لا يعني أنها لم تكن ممتعة ومثمرة أيضاً، وقد شملت متعة هذه الرحلة الكاتب وقرّاءه المخلصين، كما أنعمت بثمارها على هذين الطرفين معاً أيضاً، وهذا ما يوفّر لها أسباب الاستمرار والدوام.

منذ بواكير نشاطه النقدي جاء صوت الغذامي مختلفاً ومخالفاً، كأنه أراد أن يعلن اختلافه عن غيره من البداية، أو أراد أن يعبر عن رفضه لمسلّمة أولية تزعم تشابهَ الأصوات النقدية وعزفها على الأوتار ذاتها، لتَنْتُجَ عندنا نسخ من مقطوعات نقدية متشابهة أيضاً. وإذا كانت هذه هي أولى المسلّمات التي حاول الغذامي تجاوزها ونقضها وبيان عدم صحتها وقلة جدواها فإننا يمكن أن نقف على سلسلة من المسلّمات الثقافية التي دخلت المختبر الغذامي للفحص والاختبار بوجه وخرجت منه بوجه آخر مختلف.

وأيضاً، إذا كنّا نستطيع أن نمسك بطرف هذه السلسلة فإننا لا نستطيع - ولن نستطيع على ما يبدو- أن نتبين طرفها الآخر؛ لأنه مستعد دائماً لأن يفاجئنا بالجديد، وأن يضعنا أمام أنفسنا في موقف لا نُحسَد عليه ونحن نجده يثير دائماً الأسئلة أمامنا كأنه يعلّمنا أبجدية التفكير النقدي الحقّ.

وعلاقة الغذامي بالأسئلة علاقةُ مشاكسة؛ فهو يحب طرح الأسئلة، ولكنه لا يطرح الأسئلة الجاهزة، ولا يُعنى كثيراً بإثارة سؤال واحد حول قضية يُجمع الآخرون على إشكاليتها ويكادون يتفقون على اختيار المواقف تجاهها كلٌّ بحسب توجّهه وخلفيته الفكرية والثقافية والدينية والاجتماعية. إنما يهتم الغذامي بإثارة زوبعة من علامات الاستفهام والتعجب حول القضايا التي يكاد يتوحّد موقف الآخرين -باختلاف مصادرهم ومواردهم- تجاهها، أو حول القضايا التي لا يكاد يلتفت إليها أحد لأي سبب كان؛ كقلة الوعي بها، أو سوء تقدير أهميتها، أو غير ذلك. هنا، في هذه المساحة، يعمل العقل الغذامي، ويجد له فضاءً رحباً لطرح الأسئلة في أرض بكر لم يزرها خاطر إنسيّ قبله.

ولا يحتاج هذا الزعم -في رأيي- إلى تأكيد أو تدليل، أما إن استدعت الحاجةُ ذلك فإن لنا في مؤلفات الغذامي نفسه أدلة عدّة على هذا الزعم يمكن الرجوع إليها، أو الرجوع إلى مقدماتها على الأقل، أو حتى فهارسها؛ لنعرف أي نوع من النقاد هو الغذامي.

مقدمات الغذامي -على سبيل المثال- تشي إلى حدّ كبير بفكر صاحبها الذي يعشق مشاكسة الأسئلة، ليلبي بذلك رغبة دفينة عنده تحثّه على البحث والتنقيب، ورفض البدهيات وردّ المسلّمات، وعدم القبول أو التسليم بأمر أو حكم لأن الآخرين أجمعوا على قبوله دون تفكير أو تمحيص، ودون اختبار حقيقي لصحة الأمر أو الحكم.

في مقدمة كتابه (الموقف من الحداثة ومسائل أخرى- 1987م) يستعرض الغذامي فصول الكتاب ومقالاته، وحين يصل إلى المقالة الأخيرة يقول: (وخاتمة الكتاب مقالة عن أزمة الثقافة والإبداع كجواب على سؤال لا يحل الإشكالية، ولكنه يطرحها سافرة أمام أبواب الحوار) (ص6). إنه يطرح الإشكالية أمام قرائه؛ لأنه يريد أن ينقل لهم عدوى طريقته في التفكير النقدي، وفي تناول القضايا التي تُطرَح أمامهم، لذلك نجده لا يقدم القول الفَصْل، ولا يسعى لذلك، بل يسعى إلى فتح أبواب الحوار وإثارة الأسئلة في ذهن قرائه بعد أن ينتهوا من قراءة كتابه، ليكون مفتاحاً يفتح -ولا يغلق- أبواباً فكرية مختلفة.

وفي مقدمة كتابه (المشاكلة والاختلاف- 1994م) يقرر الغذامي أن هدفه من هذا الكتاب (أولاً وأخيراً هو إثارة الأسئلة حول إشكاليات التفسير والنظرية بما أنها ضرب من القراءة والتفسير في الأدب العربي) (ص9). ومرة أخرى يعلن بشكل صريح أنه يطرح الأسئلة، ولا يقدم في كتابه إجابات لأسئلة موجودة سلفاً، أما الإجابات فهي عند كل قارئ، ومن حق كل منا أن يقدم إجابته أو تصوّره حول تلك الأسئلة الإشكالية التي يثيرها الكتاب وهو بين يديه، أو حين يفرغ منه.

وحين نقرأ مقدمة (المرأة واللغة- 1996م) سنجده يقول فيها: إن (هذا العمل ليس بحثاً في أدب المرأة، وليس دراسة فنية جمالية، ولكنه بحث وسؤال عن المنعطفات والتمفصلات الجوهرية في علاقة المرأة مع اللغة، وتحولها من (موضوع) لغوي إلى (ذات) فاعلة، تعرف كيف تفصح عن نفسها) (ص11). وكأن الغذامي يؤكد كتاباً بعد كتاب، ومؤلَّفاً بعد مؤلَّف، أنه جاء ليثير الأسئلة، وأنه يكتب لهذا السبب؛ كي يعلمنا أبجدية هذه الطريقة الشاقّة في مخالفة المألوف، أو إعادة النظر في المسلّمات.

مؤلفات الغذامي اللاحقة أيضاً لا تخلو مقدماتها من طرح الأسئلة؛ فعلى سبيل المثال مقدمة (النقد الثقافي- 2000م) عبارة عن سلسلة من الأسئلة أعقبها بتأكيده أن الأوان قد آن (لأن نبحث في العيوب النسقية للشخصية العربية المتشعرنة، والتي يحملها ديوان العرب، وتتجلى في سلوكنا الاجتماعي والثقافي بعامة) (ص7). وهو هنا يربط بين أهمية إثارة الأسئلة والغرض من ذلك؛ فهو يطرح الأسئلة حول المسلّمات، وخصوصاً لكي يتبين صحتها من خطئها، وجدواها من عدمه، وهذا هو أسلوب البحث العلمي والتفكير النقدي الذي يجب أن تُوجَّه أجيال المثقفين القادمة نحوه.

ولأهمية هذا المنحى نجد الغذامي يقف في مواجهة مع الأسئلة، ويمثل السؤال خصماً له، عليه الاستعداد لمواجهته، والتسلح الكافي لهذه المواجهة، حتى يخرج منها منتصراً أو مستفيداً على الأقل. وفي مقدمة (الثقافة التلفزيونية- 2004م) تطبيق عملي لهذه الفكرة حين يقول: (ماذا لو خرجت علينا الصورة من التلفزيون متمرّدة علينا وعلى جهاز التحكم، وتحققت وحشيتها علينا بممارسة عملية قسرية..؟ الحق أن هذا التساؤل هو ما يمكن أن نكون على مواجهة معه فيما صار يُسمَّى اصطلاحياً بالثقافة البصرية) (ص7).

ولعل هذه الطريقة (الغذامية) إن صح التعبير -المتميزة والمشاكِسَة- في تناول القضايا وفهم النصوص هي سبب الهجوم الشديد الذي يواجهه الغذامي بعد كل طرح جديد يضعه بين يدَيْ جمهور القراء والمتلقين والنقاد. ويمكن الزعم بأن الغذامي واحد من أكثر النقاد المحدَثين -على مستوى النقاد العرب- الذين تُدار حولهم الخصومات النقدية، متجاوزةً حدود الموضوع ومتغلغلةً في حدود الذات الناقدة نفسها، بما يكشف عن ضعف وهشاشة في مواجهة الآخر المختلف، وعدم قدرة على قبوله كما هو، وفي الوقت نفسه يعزّز كل هذا موقف الغذامي ومكانته بوصفه ناقداً يعرف من أين تُؤكل الكتف، ويعرف مواطن تميّزه ويسعى إلى كشفها أمام الآخرين متقبّلاً هجومهم وعدم تقبّلهم له بصدر ينافس صحراء نجد رحابةً واتساعاً للرأي الآخر، ليعلّم هؤلاء الخصوم -كما يعلّم تلاميذه ومريديه- مهارة أخرى يجب أن يتحلّى بها الناقد الحقّ، وهي مهارة الانفتاح على جميع الآراء مهما بدت مخالفةً لما نحن عليه، وقبول الآخر كما هو حتى إن كان يقف على طرف ونحن نقف على الطرف النقيض.

sunono@yahoo.com الإمارات


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة