الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 12th April,2004 العدد : 54

الأثنين 22 ,صفر 1425

خواطر مرسلة
انعِزاليّةٌ أَدَبِيَّة..!!
من قديم أوراق الأديب الراحل عبدالله بن إبراهيم الجلهم رحمه الله
أعدها للنشر أ.د. عبدالكريم الأسعد

الأَدبُ في حقيقتِه إصلاحٌ للمجتمع الإنساني وتعبيرٌ عنه وانعكاس حيٌّ لوجودِه وحيويّته والذين وهبهم الله هذا العطاء من الأدب والفن مطالبون باسم الأمانةِ الأدبية وباسم المجتمع الحاني عليهم؛ أن يُؤْثِروا على أنفسهم وراحتهم وأن يستجيبوا لنداء وطنِهم وأمتِهم وأن يقدموا لهما الخدمةَ والتوجيه والتوعية برّاً بهما ومكافأةً لهما على ما أعطياه من التربية والحنو والإفضال.. حيث لم يكن من الخير لحملة الأقلام الأدبيّة ولا لمجتمعاتهم المتطلعة أن يركنوا إلى الدعةِ والخمولِ والخلود ولا أن ينعزلوا داخل مكتباتهم الوادعة يستنطقون أفواه الكتب ويستعطون كؤوس الذخائر الموفورة لهم؛ بعيدين عن مطالب أمتهم وشؤون مجتمعهم القائمةِ والملحة فإن هذا المسلك ومعاذ الله أن يسلكوه جحودٌ مؤلمٌ للوفاء والطبع، وهروبٌ شائن من واقع الحياة ومصالح الأحياء، وانفصامٌ مميتٌ من المسؤولية الاجتماعيةِ والأدبية.. وهو كذلك موقفٌ جامح وضنٌّ أسيف يتنافى مع تأدية الواجب ويتجافى مع ردِّ الجميل والمعروف مع القدرة عليه والاستطاعة.
هناك نداءٌ عميق طالما ردده بعضُ الأدباء الذين آمنوا بالإيجابية الأدبيةِ والاجتماعية بأن الأدبَ يجب أن يكون في خدمة المجتمع وأن يعبر عن أمانيه وآلامه وأن يوجه فيضه وعطاءه نحو أعماقه وجوانحه وخوالجه.. يبني دعائمه.. وينمي تفكيره وعقله.. ويسدد إلى الرشاد خطاه وسلوكه.. وهذا لعمر الله سبيل الأدب وميدانه.. وهو ملتقى الحاملين لرسالته الموقنين بأهميته وجدواه خلال رحلة الحياة والوجود..!!
ليس يعيبُ الأدبَ أن يعيش مع المجتمع: يترجم رغباتِه.. ويناضل عنه..ويسمو بتفكيره ومداركه.. ولكنْ يعيبُ الأدبَ ويوهنه أن يتخذ الأدباءُ والمفكرون من العزلة والانعزال والتوارى عن المجتمع هيكلاً يقبعون فيه، أو يجعلون الأدبَ مطيةً طيعةً توصلهم إلى أطماعهم ومادياتهم فيلوكون الأفكار.. ويغمسون الأقلام؛ ويجرونها في متاهات من القول والتمجيد والتزوير نحو فراغ باهت وضياعٍ مقيت..
من الأدباء الصامتين وغفر الله لهم من يخرج أحياناً مباركة عن صمتِه وسكونِه فيدفع عن نفسه تقوُّلَ المتقوُّلين وتخرصاتِ المتخرصين؛ بأن الانعزالية التي ينعمون بها ويتفيأون ظلالها نوعٌ من مناجاة النفس ومخاطبة الذات والضمير.. ينفردون بها ويستمرئون ملاقاتِها وعناقَها حيناً طويلاً أو قصيراً من الزمان ثم يستعطونها ويستعطفونها بعد ذلك لتسكب لهم من نبعها كؤوساً فياضةً تسقيهم من بليغ القول وسخي الفكر والمعنى ما يفيد المباحثَ والمطلعَ ويغنيه.. فهم على هذا المنحى من الانعزال يلتقون بمجتمعهم حيناً وينصرفون عنه أحياناً أخرى وذلك شأن هذا اللون من الأدباء الكرام عفا الله عن سلوكهم ومقامِهم بين أمتهم..
ومن هؤلاء وأولئك من الأدباء من يدَّعي بأن الانعزالية المستوطنةَ فيه، ما هي إلا نوع من الإجازة النفسية والوطنية المحدودة؛ تنشط فيها أفكاره، وتتزود أثناءها مواهبه وتصوراته.. ولكن هؤلاء بأسف مرير قد تطول غيبتهم ويدوم سباتهم فلا يلتقون بأمتهم ولا يعبرون عن شفاهها ومشاعرها.. ولكنهم بإجازتهم التي عشقوها يظلون محلقين في أودية من الأحلام والأوهام بعيدين عن شؤون الحياة والمجتمع لا يلوون على شيء من رغائبه وتطلعاته...
وتظل كلُّ هذه الاتجاهاتِ السبيلَ الآمنة، فإن الأدب في حقيقته وعطائه ميدانٌ واسعٌ كريم لخدمة الحياة والبشرية، لا وكرٌ ضيق يتمطى حوله الحالمون بالمتعةِ النفسية، الراكضون في محراب العزلة.. ولكنه شرفٌ عزيز لأهلِه وخاصته لاشُرفةٌ عالية تُطلُّ منها عيونٌ متورمة لا تطيق صبراً على مرأى للمجتمع والتقلبِ فيه والتعبيرِ عنه إلا بالنزر اليسير والهمس العليل في أضيق الحدود وأضعف الإيمان.
إنّ الأدبَ موردٌ عذب يجب أن تتبارى حول معينه الدِلاءُ والوُرَّاد، وإن الأدباء المخلصين لأدبهم الملتزمين برسالته ومبادئه هم قادةُ فكرٍ ومجدٍ وسلوك.. وهم صُنّاع حضارةٍ وتاريخ.. هم المؤهلون بفكرِهم وأدبهم وعطائهم إلى قيادةِ الإنسانية والمجتمعات نحو غايات مجيدة من القيم الرفيعةِ والحضارةِ الوطيدة والوعي الإنساني والسلوكِ القويم وليس الأدب والأدباءُ بالذين يتخلون عن شؤون الحياة ويتنكرون لها ولأهلها ولا بالذين يعيشون قابعين في أبراج مظلمة أو مضيئة بعيدين عن محيط المجتمع يحلمون بأنفسهم ويتهامسون مع أوهامهم وأَخيلتهم ووساوسِهم فحسب .. أجارنا الله وأجارهم من كلِّ مكروه، وشملنا وإياهم بعونهِ وعنايتهِ التي لاتردّ.
++++++++++++++++++++++++
عبدالله إبراهيم الجلهم
++++++++++++++++++++++++
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved