الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 12th April,2004 العدد : 54

الأثنين 22 ,صفر 1425

وقفات مع كتاب (العرب.. وجهة نظر يابانية)
لأستاذ الأدب العربي المعاصر بجامعة طوكيو (نوبو أكي نوتوهارا)
منشورات دار الجمل ألمانيا ط1، 2003م
محمد عبدالرزاق القشعمي

بعد أن امضى أكثر من أربعين عاما في سفر دائم بين العواصم العربية والأرياف والبوادي، إذ بدأها طالبا في قسم الدراسات العربية بجامعة طوكيو للدراسات الأجنبية ثم مدرسا للأدب العربي المعاصر في الجامعة نفسها.
تنقل بين العواصم والأرياف من القاهرة والصعيد إلى دمشق وباديتها إلى اقصى المغرب العربي إلى اقصى مشرقه حيث اليمن وحضرموت..
كوّن صداقات وعلاقات واسعة أحبهم وأحبوه فقال: (أربعون عاما تدفعني دفعاً لأقول بعض الأفكار والانطباعات عن الشخصية العربية المعاصرة، تجربتي تقودني إلى هذا الكتاب وعلاقتي الحميمة مع الشخصية العربية تشجعني، واعترف ايضا ان بعض أصدقائي العرب ألحوا عليّ أن أكتب بالعربية شيئا مما أعرفه على تواضعه وها أنا ذا افتح عيني على مداهما لأرى لا بعين المراقب المقارن، ولكن المراقب المحب الحريص، المراقب الذي أعطى الشخصية العربية حتى الآن أربعين عاماً من عمره).
أول ما يصدم السائح أو أول ما ينطبع في ذهن الزائر لبلد ما هو سائق الأجرة وتعامله.. فها هو يصف زيارته الثانية للقاهرة قبل ثلاثين عاماً (1974م) فيقول:(.. حتى في التاكسي يواجه الراكب اضطهاداً فالسائق يختار الراكب حسب المكان الذي يريد الذهاب إليه، ويرفض أن يقل الشخص الذي لا يعجبه شكله أو المسافة التي سيقطعها ، شيء لا يصدق عندنا في اليابان.
باختصار التوتر يغطي الشارع، توتر شديد تتوقع ان ينقطع في أي لحظة، هذا التوتر يجعل الناس يتبادلون نظرات عدوانية ويزيد توتر المدينة نفسها أكثر فأكثر.
وفي نقطة أخرى.. عندما يرى الزحمة والطوابير الطويلة أمام مبنى قسم الهجرة والجوازات.. والموظفون الحكوميون لا يبالون بالناس..
كان الموظف الحكومي ينهي الأمر بكلمة واحدة في نهاية الدوام: بكرة، وهذا يعني ان على ما بقي من الطابور أن يستأنف الوقوف نفسه في صباح اليوم التالي، ويقول: (هناك استثناء لمن يعرف أحد الموظفين عندئذ يتم انجاز المعاملة بسرعة كبيرة).
ويقول إنه كثيراً ما يسمع في الراديو والتلفزيون ويقرأ في الجرائد كلمات مثل: الديمقراطية، حقوق الإنسان، حرية المواطن، سيادة الشعب، وكان يشعر وهو يتابع سماع تلك العبارات أن الحكومة لا تعامل الناس بجدية بل تسخر منهم وتضحك عليهم.. ويتساءل: هل يستطيع المرء أن يتجاهل الصلة القائمة بين هذا الاسلوب الذي يستغبي الشعب والتوتر الذي يسيطر على جموع الناس العاديين؟
ويقول إنه زار الكثير من العواصم العربية فهل تختلف تلك العواصم العربية عن القاهرة.. هو لا يستطيع أن يعقد مقارنة أو لا يريد.. فهذا ليس في استطاعته ولكنه يقول: إن الناس في شوارع المدن العربية ليسوا سعداء وليسوا مرتاحين،.. سمع صرخة مازالت مدوية في أذنه في هذا الجو الخانق.. فها هو يتلمس جذور تلك الصرخة وأسبابها.. ويقدم بعض النقاط التي تسم الشخصية العربية المعاصرة.. من خلال ما لاحظه عند إقامته في البلدان العربية بصورة عامة.. فهو يؤكد انه اعطى القضية العربية عمره كله فمن حقه أن يقول شيئا مباشراً...
أول ما يلاحظه في المجتمع العربي هو غياب العدالة الاجتماعية.. ( وهذا يعني غياب المبدأ الأساسي الذي يعتمد عليه الناس، مما يؤدي إلى الفوضى، ففي غياب العدالة الاجتماعية وسيادة القوانين على الجميع بالتساوي يستطيع الناس أن يفعلوا كل شيء..
تحت ظروف غياب العدالة الاجتماعية تتعرض حقوق الإنسان للخطر، ولذلك يصبح الفرد هشا ومؤقتا وساكنا بلا فعالية لأنه يعامل دائماً بلا تقدير لقيمته كإنسان..).
ويستغرب لماذا يكثرون من استعمال كلمة الديمقراطية وهم لا يستعملونها بل يفعلون عكسها تماما، فلهذا نجده يقول: (عندما تغيب الديمقراطية ينتشر القمع، والقمع واقع لا يحتاج إلى برهان في البلدان العربية..
فعل سبيل المثال الحاكم العربي يحكم مدى الحياة في الدولة.. ولذلك لا ينتظر الناس أي شيء لصالحهم.. وكمثال آخر فإن معظم الصحف العربية تمنع من بلد إلى بلد والرقابة على الكتب والمجلات.. هناك مئات الكتب العربية وغير العربية ممنوعة في معظم البلدان العربية وخاصة الكتب التي تعالج الحقائق اليومية الملموسة للناس).. ويذكر أنه عندما كان يعد كتاباً باليابانية عن مصر لم يجد كتاب جمال حمدان (شخصية مصر) لأنه كان ممنوعا من مصر رغم أنه يعتز بمصريته، ويذكر أيضا من الكتب الممنوعة (الخبز الحافي) لمحمد شكري و (الثالوث المحرم) لأبي علي ياسين.. ويعلق قائلاً: (كل هذا يعني غياب حرية الرأي وحرية الكلام، عندنا في اليابان نقول عندما لا نستطيع أن نتكلم بحرية: عندما افتح فمي فإن هواء الخريف ينقل البرد إلى شفتي، والعربي عندما لا يستطيع ان يصرح بما في نفسه عليه أن يقول تحت لساني جمرة).
ويقول في مقدمة كتابه (.. أعتقد أن القمع هو داء عضال في المجتمع العربي ولذلك فإن أي كاتب أو باحث يتحدث عن المجتمع العربي دون وعي هذه الحقيقة البسيطة الواضحة فإنني لا أعتبر حديثه مفيدا وجديا، إذ لابد من الانطلاق بداية من الإقرار بأن القمع بكافة أشكاله مترسخ في المجتمعات العربية).. في مجتمع تغيب عنه العدالة ويسود القمع وتذوب استقلالية الفرد وقيمته كإنسان يغيب أيضا الوعي بالمسؤولية، ولذلك لا يشعر المواطن العربي بمسؤولية عن الممتلكات العامة مثل الحدائق العامة والشوارع ومناهل المياه ووسائل النقل الحكومية والغابات باختصار المرافق العامة كلها، ولذلك يدمرها الناس اعتقادا منهم انهم يدمرون ممتلكات الحكومة لا ممتلكاتهم هم.. وهكذا يغيب الشعور بالمسؤولية تجاه أفراد المجتمع الآخرين).
ثم يقارن المجتمع الياباني بالمجتمع العربي بعد أن يعرض تجربة اليابان الصعبة والمريرة فيقول: (لقد سيطر العسكريون على الإمبراطورية والسلطة والشعب، وقادوا البلاد إلى حروب مجنونة ضد الدول المجاورة وانتهى الأمر بتدمير اليابان من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية الحرب العالمية الثانية، هذا حدث في تاريخنا القريب ودفع الشعب الياباني ثمنا باهظا ولكننا وعينا خطأنا وقررنا أن نصححه فأبعدنا العسكريين عن السلطة وبدأنا نبني ما دمره القمع العسكري لقد عانى اليابانيون كثيرا لكي يخرجوا من الخطأ واستغرق ذلك أكثر من عشرين سنة.
ومن المعاناة نفسها تعلمنا دروسا أظن أن المواطن الياباني لن ينساها، تعلمنا أن القمع يؤدي إلى تدمير الثروة الوطنية وقتل الأبرياء ويؤدي إلى انحراف السلطة عن الطرق الصحيح والدخول في الممارسات الخاطئة باستمرار (...) المهم أننا وعينا خطأنا أولا ثم عملنا على تصحيح الخطأ وهذا كله يحتاج إلى سنوات طويلة وتضحيات كبيرة وكان علينا ان نعي قيمة النقد الذاتي قبل كل شيء ودون إنجاز النقد الذاتي بقوة لا نستطيع أن نجد الطريق لتصحيح الأخطاء..).
ويقول إنه كثيرا ما واجه مثل هذا السؤال في البلدان العربية: لقد ضربتكم الولايات المتحدة الأمريكية بالقنابل الذرية فلماذا تتعاملون معها؟ ويقول: (علينا نحن اليابانيين أن نعي أخطاءنا في الحرب العالمية الثانية أولا ثم أن نصحح هذه الاخطاء لأننا استعمرنا شعوبا آسيوية كثيرة ثانيا، وأخيراً علينا أن نتخلص من الاسباب التي أدت إلى القمع في اليابان وخارجها، إذن المشكلة ليست في أن نكره أمريكا أم لا، المشكلة في أن نعرف دورنا بصورة صحيحة ثم نمارس نقدا ذاتيا بلا مجاملة لأنفسنا بعدئذ نختار الطريق الذي يصحح الانحراف ويمنع تكراره في المستقبل.
ويقول ان الحرب العالمية الثانية قد انتهت وعمره خمس سنوات وانه شاهد الدمار الشامل وعانى من الحرمان والجوع وعرف أيضا نتائج مسيرة التصحيح..
بعدها وعندما بلغ الثلاثين من عمره وسافر للدول العربية ورأى وقرأ وتحدث إلى الناس قال: لقد عاينت بنفسي غياب العدالة الاجتماعية وتهميش المواطن وإذلاله وانتشار القمع بشكل لا يليق بالإنسان.. وغياب كل أنواع الحرية.. وعرف كيف يضحي المجتمع بالأفراد الموهوبين والمخلصين.. ورأى كيف يغلب على سلوك الناس عدم الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع وتجاه الوطن، ولذلك كانت ترافقني أسئلة بسيطة وصعبة: لماذا لا يستفيد العرب من تجاربهم؟ لماذا لا ينتقد العرب أخطاءهم؟ لماذا يكرر العرب الأخطاء نفسها؟ نحن نعرف أن تصحيح الأخطاء يحتاج إلى وقت قصير أو طويل، فلكل شيء وقت ولكن السؤال هو: كم يحتاج العرب من الوقت لكي يستفيدوا من تجاربهم ويصححوا أخطاءهم، ويضعوا أنفسهم على الطريق السليم؟).
ثم يبدأ يسرد علاقته بالوطن العربي من عام 1961م حيث اعلنت جامعة طوكيو عن افتتاح قسم للدراسات العربية.. فبدأ يتعلم اللغة.. وقد قرأ لنجيب محفوظ وغساني كنفاني.
وفي عام 1974م حصل على منحة خاصة من الحكومة المصرية للدراسة كطالب مستمع في جامعة القاهرة.. فقرأ رواية (الأرض) لعبدالرحمن الشرقاوي وهي التي دفعته للذهاب إلى الريف المصري حيث أقام بمحافظة الشرقية وفي قرية (الصحافة) بالتحديد وهناك تعرف على حياة الفلاحين وعاداتهم ووجد ضالته بجمال حمدان من خلال (شخصية مصر) ثم اتسعت دائرته مع الأدباء والروائيين المصريين مثل يوسف إدريس وصنع الله إبراهيم ويحيى الطاهر عبدالله ويحيى حقي وغيرهم..
بدأ في ترجمة بعض الروايات للغة اليابانية مبتدئاً برواية (الأرض) حيث صدرت باليابانية عام 1979م ورواية (الحرام) عام 1984م و(أرخص ليالي) عام 1980م و(تلك الرائحة) عام 1993م و(العسكري الأسود) عام 1990م.
وبدأ يهتم بالبادية في سورية وحضرموت وهو إذا يبحث عن معنى مختلف عما هو موجود في اليابان ومصر فيقول: في البادية وجدت ثقافة أخرى لا نعرفها في اليابان ببساطة لأن بيئتنا ليس فيها بادية، هكذا بدأت تجربتي بالإقامة مع البدو كما فعلت مصر وأقمت مع الفلاحين ولقد استقبلني (بنو خالد) بكرم يليق بهم خلال تلك الإقامة، كنت أبحث عن روايات تتحدث عن البدو وهكذا عرفت إنتاج عبدالسلام العجيلي وعبدالرحمن منيف خاصة (مدن الملح) وأخيرا وجدت إبراهيم الكوني الكاتب الليبي الذي ينتمي إلى الطوارق..).
وقال إن الكتابة بالعربية للعرب مقلقة ومرهقة ولكن محبته للثقافة العربية التي اعطاها عمره كله وجهده وعمله. إذن فلابد أن يشاركه القارئ العربي.. وهذا برأيه أرفع تقدير وأكبر محبة. وقال إنه يريد أن يقول للقارئ العربي رأياً في بعض مسائله كما رآها من الخارج كأي أجنبي عاش في البلدان العربية وقرأ الأدب العربي واهتم بالحياة اليومية في المدينة والريف والبادية.
وقال: إنه وجد نفسه مضطرا لأن يضيف بلغة صريحة مباشرة أنه يرى أن الحرية هي باب الإنتاج وباب التواصل والحياة النبيلة ولذلك يرى أن القمع داء عضال مقيم في الوطن العربي والعالم وما لم نتخلص منه فستفقد حياتنا كبشر الكثير من معانيها.
يقول إن علاقته بيوسف إدريس وثيقة وإنه قد زار اليابان عدة مرات، وأنه يبحث عن سر نهضة اليابان التي أدهشت العالم، ويريد أن يعرف الأسباب، وبعد زيارته الثالثة سألته: هل وجدت الإجابة؟ قال: نعم، عرفت السبب، مرة كنت عائداً إلى الفندق في وسط طوكيو حوالي منتصف الليل، ورأيت عاملاً يعمل وحيداً فوقفت أراقبه لم يكن معه أحد، ولم يكن يراقبه أحد ومع ذلك كان يعمل بجد ومثابرة كما لو ان العمل ملكه هو نفسه، عندئذ عرفت سبب نهوض اليابان، وهو شعور ذلك العامل بالمسؤولية النابعة من داخله بلا رقابة ولا قسر عندما يتصرف شعب بكامله مثل ذلك العامل فإن ذلك الشعب جدير بأن يحقق ما حققتموه في اليابان.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved