الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 12th May,2003 العدد : 11

الأثنين 11 ,ربيع الاول 1424

وعشت في حياتهم
عبدالله مناع الجدلية الإنسانية السوّية

سيظل «عبدالله مناع» شاباً مهماً تقدمت به السنون، فيه كل نوازع الشباب الايجابية، تلك الروح القلقة الوثابة التي لا تهدأ، وتلك الأناقة لتي لا تفارقه في هندامه وفي كلماته، وفي حبه الطاغي للموسيقى ولأرقى أنواع الشعر المغنى. وفي ظني انه استوى في كل ذلك على حالة انسانية منفردة لها خصوصيتها، حتى في أبسط الأشياء التي يمكن ان يلاحظها من اقترب منه. وما سوف يبقى منه على المستوى العام كلماته المنشورة ستظل شاهدة على ان مُنشئها ومبدعها، هو ذلك الحالم صاحب الروح الثائرة القلقة، على نحو يذكرك بتلك الروح التي كان ينطوي عليها الشاعر «أبوالقاسم الشابي» في روحه القلقة وثورته وطموحه الى الأعالي. كما يذكرك في آن واحد بغناء «ورد وورث» شاعر الطبيعة الروماني وانتفاضة «كوليردج» مفلسف هذه الروح الرومانسية، ولأن «عبدالله مناع» لم يكتب الشعر في صورته كمنحى أدبي هندسي، إلا أنه في نظرية تحطم القوالب والأجناس الأدبية المكتوبة شاعر بهذا المعنى، وفيه تلك الروح التي كانت من سمات الرومانسيين، الذين من أبرز أهداف توجهاتهم ومناحي أدبهم صناعة ألوان زاهية من الحياة، ولديهم ولع وشهوة لاصلاح العالم، وكانت هذه المعاني، هي التي كانت تشكل «صخرة سزييف» التي لم تتحطم في حياة «عبدالله مناع» يحملها ليس على ظهره، وإنما في قلبه كل يوم، ولا يزال ينظر بعناد الى القمة. وهو يطلق ضحكته المعهودة الممزوجة بالأسى والتحدي.
من القلائل الذين جرى نهر حياتهم، في مصب حياتي، كان «عبدالله مناع» واحداً من أولئك الذين يعشقون عملهم ويفنون فيه كفنائهم في حياتهم، بالمعنى الذي يفلسف فيه «عمر الخيام» فناء الحياة وانبعاثها في كل ما هو محسوس في الحياة، وفي الزهر، وفي العشب الذي تطؤه الأقدام، وفي الغبار المتناثر على الخدود الجميلة. «وأنضو عن خدك الغبار برفق فهو خد لكاعب حسناء» «من ترجمة الصافي النجفي شعراً».
حينما اقتربت من «عبدالله مناع» لأول مرة، أذهلني ذلك الشعور، بأنني أعرفه منذ زمن بعيد، إنك لا تجد مشقة في ان تعتبره لأول وهلة، صديقاً، فهو من أولئك الذين يجيدون، إقامة جسور التواصل، واشعاع روح التواصل، في طرب طاغ، بما تطرحه مناحي التواصل في الحياة، فكراً جاداً، وهزلاً يثير الضحك حتى تدمع العيون، وبكاء يُجري نهر الدموع حاراً. حالات من أحوال من «جدلية الحياة» على ذلك النحو، الذي ينظرها «هيجل» فيلسوف «الديلكتيك» هي العناصر التي تتجمع في شخصيته وتكوين «عبدالله مناع» أول مرة تعرفت فيها عليه، كنت أُجري حواراً صحفيا معه لمجلة «اليمامة» نشره صديقنا المشترك «محمد الشدي» رئيس تحرير مجلة اليمامة آنذاك، واتذكر أنني جعلت له عنواناً على ما أتذكر «الولد الشقي عبدالله مناع يقول أو يتذكر» المهم ان كلمة «الولد الشقي» لم تستفزه أو تغضبه، فلقد قال لي في الحوار ان والدته كانت تقول أنت ولد شقي بمعنى مشاغب أو مشاغباً، وبدلا من ان يحتج أو يغضب على ذلك العنوان، فقد أخذ يضحك. وبعد سنوات كنت أفلسف هذا العنوان، فقد كانت حياة «عبدالله مناع» الصحفية تنطوي على قدر كبير من الشقاوة والمشاغبة، التي كانت دائما تجعله كلما يهرب من «عيادته الطبية» الى «عيادته الصحفية» يعود الى عيادته الطبية، وفي ظني ان «عبدالله مناع» من أولئك الذين أعرفهم لابد ان يقيموا لهم منابر صحفية، لا ينتزعهم منا آمر أو ناه. إنه مثل السمك له بحره الذي لا يخرج منه، وإذا خرج فالنتيجة معروفة، في هذه السببية يتشكل هذا الفكر الجاد المحارب لدى «عبدالله مناع».
أما ذلك الهزل الذي يثير الضحك حتى تدمع العيون، فله مثال واحد يعرفه وربما يتذكره معي. حينما كنا في رحلة صحفية، من أمتع ما مر بحياتي الصحفية، الى «تونس» عام 1975م، وكان عميد الرحلة ومنظمها عميد الصحفيين والكتاب «عبدالفتاح أبومدين» وضمت «محمد الشدي» أول من وضع قدمي على سلالم بلاط صاحبة الجلالة «الصحافة» ويفلسفه «عبدالفتاح أبومدين» وتدمع من وقعه عينا «عبدالله مناع» اللتان تحتجبان خلف نظارته السوداء، وهو لا يزال يتذكر تلك الواقعة، حينما شاهدنا احتفاء التونسيين، بالقصور والمساكن والأحياء القديمة في بلدانهم، كملامح أثرية سياحية، فاطلق «محمد الشدي» صورة هزلية، لما تقوم به البلديات في بلادنا من تعد وهدم للبيوت والقصور والأحياء القديمة، بدعاوى توسيع المدن والقرى ونزع ملكياتها لاقامة مشاريع جديدة حديثة، وهو الصحفي بطبعه، رسم صورة «كاريكاتورية» مسموعة لتلك المفارقة، ويتذكر «عبدالله مناع» ان نهر دموع الضحك كان يجري، كلما تذكرنا تلك الصورة الكاريكاتيرية التي رسمها في أذهاننا «محمد الشدي» طول الرحلة.
أما ذلك البكاء الذي أجرى الدمع حاراً من عيني «عبدالله مناع» وفي تلك الواقعة لأول مرة رأيت عينيه مباشرة لا تحجبها نظارته السوداء، فكانت حينما سمع خبر وفاة سيدة الغناء العربي كوكب الشرق «أم كلثوم» وعبدالله مناع كلثومي ووهابي في آن واحد. وكنا ونحن في تونس، قد عرفنا بالخبر وكنا ننتظره بعد مغرب ذلك اليوم الخامس من فبراير 1975 في بهو الفندق، حيث لا يزال في غرفته، وقررنا ان نخفي الخبر عنه، لكننا فوجئنا وهو يقترب منا ان نظارته الشهيرة، كانت تتحرك بين يديه، وهو يكفكف دموعه. فقال «أبومدين» لا فائدة لقد انتشر الخبر، فقلت في نفسي.. نهر الدموع في هذه المرة سيكون دمعاً حاراً إنها «الجدلية الانسانية السوية» التي تنطوي عليها حياة هذا الانسان الفنان، في كل حياته.
«عبدالله مناع» على المستوى المهني، كاتباً وصحفياً، له لونه الخاص المتميز وهو ما يضيف الى ذلك التنوع في الابداع اضافة تغنيه، لا تكرر ما فيه، بل تضيف اليه، ولايزال الوسط الصحفي يتذكر، كيف جعل من مجلة «إقرأ» التي ترأس تحريرها في أول تطوير لها، مجلة متميزة وقد شاهدت في ليال صحفية، كيف كان يمضي الوقت في وضع اللمسات الأخيرة على كل تفصيلات العدد قبل الطبع ابتداء من الغلاف الى الصفحة الأخيرة. ولعل أهم ما لفت نظري، أنه كان يصنع من كل العاملين معه «رؤساء تحرير» ولاشك انه خرج جيلاً من الصحفيين، ومنهم من تولى مسؤولية التحرير بعده، حينما كان يؤول الى طبع «الشقاوة» القابع في ذاته منذ ان كان طفلاً.
لو كنت أملك داراً صحفية، في جزيرة من تلك الجزر التي يصنع فيها البشر حريتهم، لطلبت منه أن يكون رئيس التحرير.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
حوار
تشكيل
المنتدى
كتب
مسرح
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون
الملف

ارشيف الاعداد


موافق

ابحث في هذا العدد

للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved