الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 12th June,2006 العدد : 157

الأثنين 16 ,جمادى الاولى 1427

لمحات من سيرة كاتب.. (2-3)
عبدالعزيز بن عبدالله السالم

هذا الطفل المشاكس الذي أشعل ثورة في بيت هو عليه وطارئ على سكانه: أثار تصرفه الطفولي غضب أمه الشديد، فكان منها ما كان من غضبة عسيرية ضد ابنها ندمت عليها فيما بعد ذلك، فحاولت تذويب سخطها، ولملمت جراح قلبها الذي تفطر جراء ضربها لابنها وإبعاده خارج البيت، وكان موقف الابن العائد إليها بعد طرده بمثابة الماء البارد الذي أطفأ ثورتها الغاضبة وأسال دموعها المنهمرة، وجعلها تعيش لحظة إنسانية متسامية: تضم إليها فلذة كبدها وملاذ أملها في مستقبلها، فما كان منها إلا أن ضمته إلى صدرها الحنون لتستعيده إليها من جديد بحرارة عاطفها، وتدفق حبها له النابع من أعماقها.
وحين يشعر الطفل أنه تائه بين والديه: أم متزوجة بآخر، وأب متزوج بأخرى: وهو يلتمس الحنان الذي يفصله عن أمه لكونها في بيت ليس لها سيادة فيه فاذا اقتحم طفلها هذا البيت الذي تسكنه مع كثرة أفراد الأسرة: تجسد في حسه اختفاء خصوصية حنانها نحوه خاصة، وأنه يرصد في نظراتهم إليه أنه متطفل عليهم، ولسان حالهم يشير نحوه: فليذهب لبيت والده كما هم في بيت والدهم. هذا هو المنطق الذي يسود الموضوع المتوتر بينه وبينهم.
***
وقد أوحى له هذا الموقف كما لو أنه يتيم مع إدراكه أن والديه على قيد الحياة، لكن المرحلة العمرية التي يمر بها وإحساسه بانعكاس نتائج الانفصال بين والديه على حالته النفسية وواقعه الاجتماعي زرع في وجدانه هذا الشعور، وقد اضطره هذا الوضع إلى الالتحاق بجده لأمه الذي يسكن في قرية بعيدة عن المدينة التي تعيش فيها أمه فتلقاه جده مرحباً به، وأفسح له مكاناً في مزرعته وأضفىعليه الكثير من عطفه.. وقدر الصبي لجده هذه الرعاية من جانبه فكان طوع أمره: حيناً يرعى الغنم في سفوح الجبال، وأحياناً يسوق الثيران في (المنحاة) لجلب الماء لسقي المزرعة، واستمر على هذا الوضع، ثم هداه تفكيره إلى أنه إن طال به الزمن على هذه الحال، فلن يتاح له أن يتعلم، ولذا فقد حاول أن يجمع بين البقاء عند جده في القرية والذهاب إلى المدينة للمدرسة، وقد واجهته صعوبات في اجتياز الطريق نحو المدرسة التي يفصلها عن القرية مسافة تقرب من: (خمسة كيلو مترات)، فكان يذهب إليها سيراً على الأقدام عبر طريق جبلي تكتنفه الوحشة من جميع جهاته، والصبي يحمل معه (مخلاة) تضم (جزء عم) ورغيفاً من الخبز وبعض متطلبات الدراسة البدائية، وكانت رحلة يومية محفوفة بالمخاطر، وقدر كبير من العناء، وتتلبسه حالة من الخوف لقلة السالكين لهذا الطريق لا سيما في الصباح الباكر، وفي يوم من الأيام رافقه في الطريق كلب شرس فاعتراه خوف شديد، وكلما حاول أن يركض وجد الكلب يركض وراءه، فهداه تفكيره - لتفادي أن يكون في هذا الصبح فريسة كلب عقور - أن يقتطع قطعة من رغيف الخبز الذي هو زاده اليومي فيرمي به للكلب في الاتجاه المعاكس، فيركض الكلب وراءها، ويكون قد ركض إلى الأمام، وحين ينتهي من التهام قطعة الخبز يستأنف الجري وراء الطفل لطلب المزيد، وظل يلاحقه وهو خائف يخشى انقضاضه عليه، ولولا أن الله ألهمه أن يقذف إليه بقطعة من الخبز كلما أحس بقربه منه لما سلم منه، وحين نفد الخبز كان الطريق قد انتهى به إلى مجتمع المدينة، فعاد الكلب واستراح الطفل، وقد حمله هذا الموقف على الرهبة من جميع الكلاب حتى بعد ما بلغ من العمر مبلغه.
وحادثة الكلب هذه لم تكن العامل الوحيد في صرفه عن هذه المدرسة، فقد كانت إلى جانبها: (سلسلة لا تنتهي من المتاعب التي يتشكل منها اليوم الدراسي، بدءاً بسلوك الطريق الطويل إلى المدرسة مرورا بقسوة المناخ التربوي داخل المدرسة، ممثلاً في التلقين القسري والبدائي معاً، وتوظيف العصا بغلو بين لفرض حضور المدرس هيبة وإدارة) وكانت والدته يقلقها مشواره اليومي المحفوف بالمتاعب، لذلك لم تتردد في الموافقة على انسحابه من المدرسة، ومراجعة ما تلقاه فيها من دروس على جده في مساء كل يوم، أما في الصباح فعليه أن يتولى متابعة مزرعة جدة بالسقي للزراعة أو بالرعي للغنم، وكان يستقبل دوامه اليومي: إما سائقاً للثورين جلباً للماء من البئر، أو مستقبلاً للماء القادم من البئر لسقي الزرع، وذات مرة وهو يحث أحد الثورين بعصاه على الحركة السريعة: ركله هذا الثور ركلة شديدة أوجعته فتألم لها، ولكنه تحملها مع صغر سنه.
***
وكان يذهب مع جده إلى المدينة على حمار في رحلة ربما استغرقت ساعة وهو في حضن هذا الجد الذي يعطف عليه، وعند العودة وهما فوق ظهر الحمار نادى رجل على جده فنزل من الحمار، وبقي الصبي في مكانه، فسار به الحمار، وكأنه أحس أن الحمل خف عن ظهره فتمادى في السير، وما كان في استطاعة الصبي أن ينزل عن ظهر الحمار لعلوه، ولا أن يتحكم في وقوفه، فسار به سيراً حثيثاً، وقد سره أنه لأول مرة ينفرد بقيادة الحمار مزهواً بانفراده بهذه القيادة، والحمار يعرف طريقه إلى القرية والناس الذين يشاهدونه يعجبون من طفل صغير يعلو ظهر حمار كبير بمفرده، وهو في حالة الزهو والثقة بالنفس لا سيما وأنه صار على مشارف القرية ليبتهج وهو الصغير بعودته قائداً لحمار جده الكبير، فإذا البهجة يقطعها مرور حمارة استفزت الحمار فانطلق نحوها، وألقى براكبه في منحدر صخري، فتدحرج عدة أمتار هبوطاً في منحدر مليء بالصخور والأشواك ولم ينقذه سوى شجرة اعترضت طريقه وهو يهوي نحو قاع الوادي ودخل فيما يشبه الغيبوبة.. وظل يصرخ من شدة الألم فسمعت صوت صراخه فتاة تعرفه من أهل القرية كانت ترعى غنم والدها في سفح الجبل، فحملته على ظهرها وأسرعت به إلى منزل جده، وفي هذا المنزل حضرت أمه واهتم جده بإحضار أحد المشهورين في تجبير الكسور، وكان قد كسر ذراعه الأيسر إلى جانب الرضوض في أنحاء جسمه.
***
وبعد حادثة ركلة الثور المؤلمة وحادثة الحمار الموجعة: قرر أن يرعى الغنم في سفوح الجبال المجاورة لمزرعة جده التي تنفرد ببعدها عن الأحياء السكانية، وكانت والدته إذا زارت والدها تحرص على زيارته في مرعاه، ولا تذهب إليه خالية اليدين، وإنما تحمل إليه شطائر من الخبز، وفطائر من الحلوى أو بعض التمر، وتظل تنادي عليه بين أغنامه، فيرجع الصدى نداءها بين شماريخ الجبال وهضابها، فإذا بدت له ركض إليها مشوقاً مسرعاً لتضمه إلى حضنها الدافئ وحنانها المعهود.. وكان جده مزارعاً والزراعة هي وسيلة كسبه، وأداة عيشه شأنه كشأن المزارعين الآخرين، وكان جميع أفراد الاسرة ذكوراً وإناثاً يشاركونه القيام بكل الأعمال المتعلقة بالزراعة: حرثاً وبذراً وسقاية وحماية بعد ذلك حتى يحين موعد الحصاد فتكون مشاركتهم في هذه العملية التي تعتبر مكملة لبداية العمل في هذا المضمار، وقد ظل يجهد نفسه: (في رعي الغنم وحيداً بين أحضان الجبال أو ساقياً للزرع في الحقول، أو سايساً للبقر وهي تجلب المياه).
***
بدأ يتطلع إلى تغيير نمط حياته في سياق جديد يختلف عن طبيعة عمله المحدود الذي بقي رهن أسواره الوهمية، ودارت في رأسه خطرات ذهنية تدعوه إلى اللحاق بأبيه في مقر إقامته، وبدت له هذه الخطرات لوناً من المغامرة المجهولة النتيجة لصغر سنه، ولأنه يعز عليه مفارقة والدته، ولكنها وهي تراه محصوراً بين الزراعة ورعي الغنم تمنت له مستقبلاً يحقق طموحاته المستقبلية، ولا يحول دون ذلك لكونه لا يزال في مرحلة طفولية.
وتفاعلت في نفسه وهو ابن السابعة هذه الأفكار فعزم على السفر إلى والده مهما كلفه ذلك من مشقة، ومهما ناله من عذاب.. فهو يشعر بأنه يحمل بين جنبيه روحاً متوثبة لا تقبل أن تعيش في محيط قرية بين غنم وبقر، فطموحه الذي يتصوره أكبر من ذلك لا تحده حدود، ولكنه يجهل كيف يحقق هذا الطموح الذي يراه في أحلامه ويجهله في واقعه: لذلك قرر أن يركب الصعاب وأن يخوض غمار الشدائد متسلحاً بإيمانه بالله وبعد ذلك ثقته في نفسه، وأنى له ذلك وهو كالطائر المقصوص الجناحين، ولكن الروح التواقة إلى العلا متأصلة في حنايا فؤاده، فلا يقبل أن تمضي أعوامه يصارع النوازع الإنسانية في ذاته وهو عاجز عن الاستجابة لها، وهو يرى في آفاق المستقبل حبال الآمال الفساح تمتد أمامه، ولكن تقوقعه في هذه القرية حد من نظرته، وضيق المسافة بينه وبين طموحه، وكأن خطواته تقصر عن تحقيق ما يريد، فليقدم على اقتحام أبواب المستقبل، وعليه أن يخوض التجربة بشجاعة، فإما نجاح يفتح أمامه أبواب المستقبل أو فشل يضعه في عداد الفاشلين، ولكن همته تتسامى على الفشل، ويتطلع للنجاح، وعليه ألا يتهيب صعوبة الطريق وقلة المعين لعى حد قول الشاعر:
إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً
فما حيلة المضطر إلا ركوبها
وبدأت الأسئلة تدق رأسه الصغير: كيف يسافر إلى مقر أبيه، ومع من يسافر مع ضعف الوسائل وصعوبة الطرق، والوسيلة الوحيدة للسفر هي الإبل تحت سياط شمس الصيف الحارة في تهامة، وأنى لطفل في مثل عمره يخوض غمار رحلة شاقة يطوي خلالها مسافة تتجاوز ستة أيام على ظهر جمل عبر جبال ووهاد والانتقال من منطقة جبلية باردة ولد بها فألفها، وتكيف مع طقسها إلى منطقة ساحلية ساخنة المناخ تشتد فيها حرارة الطقس ممزوجة بلزوجة البحر ورطوبة الجو: ذلك ما لا يتفق مع الطبيعة التي عاشها وألفها.. وقد كان وهو يتهيأ للرحلة يتمزق عاطفياً في داخله ليغير الوضع الذي يحياه داخل أسوار بيئة محدودة بعطف الوالدة وغربة الوالد، وكيف يتخلص من هذا الهاجس الذي يلح على ذهنه وهو لا حول له ولا قوة، ولكنه تغلب على تردده فعزم على عدم التراجع عن الذهاب إلى والده مهما ترتب على انتقاله من صعوبات ومتاعب نفسية وجسدية.
***
وإذا تأملنا عزيمة هذا الطفل الذي لم يتجاوز عمره مشارف السابعة: ندرك مدى صلابة همة ومتانة عزيمة الفرد من الأجيال التي سبقت جيلنا هذا الذي أنسته الرفاهية في كل مناحي الحياة الاعتماد على النفس: حتى إن الكثيرين والكثيرات من جيلنا المعاصر يحس الواحد منهم أو منهن بحاجته إلى الماء ويعاني من شدة العطش، ويظل في معاناته الشديدة حتى تحضر له والدته أو العاملة المنزلية الماء لكي يطفئ ظمأه، والفرد من الجنسين ربما يبلغ عمره ضعفي عمر بطل سيرتنا هذه، والفارق بين الجيل السابق لهذا الجيل والجيل الحالي: أن السابق عاش أحداثاً عسيرة وعاصر ظروفاً صعبة في حين أن الجيل الحاضر، وجد الحضارة المتطورة التي وفرت له كل شيء، فعاش مترفاً لا يتمل مسؤولية، ولا يكلف نفسه حتى شربة ماء إلا أن تقدم إليه!
إذا لابد من ركوب المصاعب لتحقيق ما يمكن تحقيقه من الآمال التي تتراءى له في سراب الأحلام في كنف والده الذي ليس له بد من أن يكون له المعاد والملاذ، ليشعر أنه غير مهان في بيت يدرك أنه ليس بيت أبيه، وأنه غريب على ساكنيه، مما سبب له المتاعب التي دعت أمه إلى تأديبه بقوة لوضع حد لمناكفته أطفال زوجها، وهي تدرك أنها لا تملك في هذا البيت سوى ثلث زوج مقسم بين ثلاث زوجات، ولاؤه موزع بينهن وبين أولاده منهن، وهذا ما أثارها لعقاب ابنها بحدة: تنفيساً عن الضغوط النفسية التي تواجهها في وضعها الذي تعاني منه، مقارنة بماضيها الذهبي مع والد ابنها، فهي حين تستعيد في ذاكرتها كيف كانت سيدة بيت واحد كبير أشبه بالقصر ليس فيه سيدة سواها تنازعها السيادة فيه، كان هذا البيت ملتقى شخصيات كبيرة تجمعهم مكانة صاحب البيت وتسعدهم مكارم أخلاقه: إذا بها في بيت يضيق بابنها البكر، ولعل هذا ما دفعها لضرب ابنها الذي يستفزها بكثرة عراكه مع أولاد زوجها الذين يرون فيه ولداً وافداً عليهم طارئاً على بيتهم، ولتأثير صورة وضعها السابق حين كانت في عصمة والده بما كانت عليه من سعة في السكن، ووفرة في المال وراحة في النفس، فإن هذه الصورة لم تبارح مخيلتها، وقد استدعتها هذه المناوشات الاستفزازية بين الأطفال: لمقارنة الماضي بالحاضر فكان موقفها من ابنها الذي يعز عليها أن يصدر منها إساءة إليه.
***
ويقتضينا السياق أن نتعرف على أهم ملامح هذا الوالد الذي يتحفز ابنه للحاق به: لقد سعدت بمعرفته- رحمه الله تعالى-، فعرفت فيه سماحة النفس ورجاحة العقل وسداد الرأي، وهو من حيث النسب ينتمي إلى قبيلة (بني زيد) المعروفة بين قبائل نجد، ومن حيث النسبة إلى بلده (شقراء) التي استوطنتها قبيلته، وقد عرف سكان هذه البلدة بحدة الذكاء وحضور البديهة، أما علاقة والد كاتب هذه السيرة بعسير فقد أوفده الملك عبدالعزيز تغمده الله بواسع رحمته إلى مدينة أبها عاصمة منطقة عسير، وبعد أن انتهت المهمة كان الله قد ادخر له مهمة اخرى هي إنجاب بطل هذه السيرة من مواطنة عسيرية.
وهذا ابنها يلتمس موافقتها على السفر إلى والده، والسفر في ذلك العهد قطعة من العذاب، وسوف يقدم في سبيل لقاء والده على تجشم هذا العذاب، وأمه موزعة بين حبها لبقائه بقربها وإيثار مصلحته على عواطفها، فقد كانت تلمس الحالة التي هو عليها، وما يحدث من مناكفات وصراعات مع أولاد زوجها، فحكمت عقلها بأن تؤثر اغترابه عنها ليسعد بحياة أخرى ليس فيها منغصات في البيت الذي تسكنه مع ضراتها، أو بقاء ولدها كادحاً في الحقل وراعياً للغنم، وقد ودعته بعاطفة جياشة وشعور متوهج بالحب، وقلب الأم يمثل ينبوع العاطفة الخالصة، لأنه يتدفق عطاء وإيثاراً، ومهما حاولت الأم أن تداري عواطفها المتدفقة، فإنها سرعان ما تخونها دموعها، والدموع هي الترجمة الحقيقية للعواطف الأصيلة والمشاعر الصادقة، وهنا تفيض ينابيع الحنان من قلب الأم التي لا يماثلها أي فيض عاطفي. رحم الله أمهاتنا.
الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved