الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 12th June,2006 العدد : 157

الأثنين 16 ,جمادى الاولى 1427

التقويض الفرويدي (3)
سعد البازعي
العلاقة التي أشرت إليها في الحلقة الماضية من هذه المقالات التي ربطت فرويد بمنظمة (بناي برت اليهودية) كانت أقرب إلى الارتباط الاجتماعي والثقافي العام بين أفراد جماعة ترى صلاتها قوية على المستويات الإثنية والثقافية، بمعنى أنها لا تمس بشكل مباشر المحتوى الفكري لمشاريع فرويد وأطروحاته لاسيما فيما يتصل بالتحليل النفسي ومرتكزاته النظرية، على هذا المستوى الأخير نجد نصوصاً أخرى مهمة للتعرف على طبيعة الانتماء اليهودي لعالم النفس الشهير.
ففي رسالة إلى إنريكو مورسيللي عام 1926 توقف فرويد عند المسألة التي طالما أثيرت بحثياً، وهي صلة التحليل النفسي بيهودية فرويد، وجاءت وقفته لتوضح الحذر الذي أشرت إليه في موقفه تجاه تلك الصلة: لست متأكداً من صحة نظرتك إلى التحليل النفسي بوصفه نتاجاً مباشراً للعقل اليهودي، ولكن إن كان كذلك فلن أشعر بالخجل، فعلى الرغم من أنني اغتربت عن دين أسلافي لزمن طويل، فإنني لم أفقد تضامني مع شعبي وأدرك بارتياح أنك تعد نفسك تلميذاً لرجل من العرق الذي أنتمي إليه - أي العظيم لومبروزو.
لا ينبغي أن يكون مستغرباً أن يشك فرويد بصحة التفسيرات التي تربط الإنتاج الفكري بعرق أو جنس معين لأنه في النهاية أحد المفكرين الذين تأثروا بالتنوير الأوروبي وتقديسه لكونية العقل وأسبقية العلم، لكن المثير والغني بالدلالة هو أنه لم يغلق الباب تماماً أمام تفسير يرفع من شأن اليهود في وجه مناوئيهم، تماماً كما هو اعتزازه بلامبروزو، اليهودي الإيطالي وعالم الجريمة الذي سارعلى خط مشابه لفرويد في سعيه لتكريس التوجه العلمي للحقل الذي ينتمي إليه، من ناحية، وفي تبني رؤية عرقية كانت شائعة إبان القرن التاسع عشر، من ناحية أخرى.
تلك الرؤية العرقية تصل أحياناً لدى فرويد إلى موقف يناقض موقفه التنويري المفترض، بل إلى شكل من أشكال التحزب الواضح الذي لم يفت على كثير من دارسي تاريخ التحليل النفسي بوصفه حركة ذات أبعاد عرقية وثقافية دينية،.
في إحدى الرسائل التي تبادلها فرويد مع كارل أبراهام، المحلل النفسي الألماني الذي عمل مع فرويد وكارل يونغ لبعض الوقت وتأثرت أطروحاته حول الدوافع الجنسية للسلوك بالإثنين معاً، توقف فرويد عند الخلاف الذي نشب بين أبراهام ويونغ أثناء الاجتماع الأول للمحللين النفسيين لينتقل من ذلك إلى الرابط الخاص الذي يربطه بإبراهام دون يونغ: أرجو أن تكون متسامحاً وألا تنسى أنه من الأسهل لك في حقيقة الأمر مما هو ليونغ أن تتقبل أفكاري، لأنك في المقام الأول مستقل تماماً، وأنك بعد ذلك أقرب إلى تكويني الفكري بسبب القرابة العرقية، بينما هو بوصفه مسيحياً وإبناً لقس لا يستطيع الوصول إلا بمواجهة نوازع مقاومة داخلية قوية.. أمام هذه النصوص الثلاثة وحدها، وهي غيض من فيض، يمكن فهم السبب وراء اهتمام العديد من الباحثين بالانتماء اليهودي لدى فرويد، وتأثير ذلك الانتماء على منجزه العلمي والفكري، علماً بأن الآراء، كما ذكرت آنفاً، ليست موحدة في هذا السياق.
في البدء ينبغي التأكيد على أن البحث هنا في السمات اليهودية لنظريات فرويد وسياقاتها ولانتماءاته، هو لا يعني أن هذه النظريات وما أفرزته من أدوات تحليلية هي شأن يهودي بالكامل، وإنما أن تلك السمات أو ما يمكن اختصاره بالبعد اليهودي في تلك النظريات وما يتصل بها، هو بعد أهم وأكثر تأثيراً من أن ينكر لأنه يمتلك حضوراً بارزاً ومهماً يجعل القول به، أي بالبعد اليهودي، امتلاكاً لأداة تفسيرية عالية الصدقية والدقة.
أي أن يهودية النظرية أو التحليل هي بحد ذاتها أداة تفسر وتشرح جانباً مهماً وبارزاً لا تفسره القراءة التنويرية المنطلقة من مقولة: إن العلم مستقل تماماً عن النوازع الأيديولوجية والفئوية.
أحد الذين توقفوا أمام هذا البعد وحللوا الكثير من النصوص التي تركها فرويد لاسيما تلك التي تؤكد انتماءه اليهودي كان الباحث يوسف حاييم ياروشالمي في تحليل يتمحور حول كتاب فرويد موسى والتوحيد، الكتاب الذي أغضب كثيراً من اليهود بتأكيده العلماني على قناعة كاتبه - أي فرويد - أن موسى لم يكن غير رجل مصري قاد بني إسرائيل دون أن يكون منهم، وأن فكرة الوحدانية لم تكن فكرة دينية يهودية أو موحى بها، وإنما أتي بها موسى من موروثه المصري القديم أو الفرعوني.
في ذلك الكتاب، يقول ياروشالمي، قام فرويد ببحث تأريخي ينبئ عن إشكالية عميقة لدى بعض المفكرين ذوي الأصل اليهودي لتفحص هويتهم وتاريخهم بحثاً عن هوية أدى التنوير الأوروبي إلى انقطاعها، ويرى ياروشالمي أن فرويد ينتمي إلى فئة من مفكري اليهود الذين يطلق عليهم (اليهود النفسيين (ليس بالنسبة إلى علم النفس أو إلى المبحث النفسي لدى فرويد نفسه، وإنما إلى الهوية التي استبطنها أولئك بعد أن تحولت الديانة اليهودية إلى هوية (يهودية)، إلى تكوين نفسي أكثر من كونه دينيا معتقديا وطقوسيا، أي إلى ما يعبر عنه بالمفردة المصدرية (يهودية) Jewishness التي تعني (أن تكون يهودياً) (أو (الكينونة اليهودية) منظوراً إليها بوصفها غير مستمدة من مصدر واحد كالدين أو العرق بل ناتجة عن تلك مجتمعة، كما عن غيرها.
يقول ياروشالمي: باغترابهم عن النصوص اليهودية الكلاسيكية، يميل اليهود النفسيون إلى التأكيد على خصائص يهودية ثابتة، ومن تلك الخصائص التي سيدعي أولئك أنها تأتي من العمق اليهودي لو طلب منهم ذلك: النزعة الفكرية واستقلالية العقل، بالإضافة إلى أعلى المقاييس الأخلاقية والسلوكية، والاهتمام بالعدالة الاجتماعية، والثبات في وجه الاضطهاد.
على هذا الأساس يمكن إسباغ صفة (اليهود النفسيين (على كثير من المفكرين والمبدعين من ذوي الانتماء اليهودي.
فسبينوزا كان أحدهم، كما يشير ياروشالمي، مثلما كان ماركس وآخرون.
ومما يجمع أولئك، بالإضافة إلى ما سبق، حسب ياروشالمي، الحساسية المفرطة للمواقف المعادية لليهود - أو ما يعرف بمعاداة السامية - لأنها تجبر أولئك على الارتباط بأسلاف يهود لا علاقة لهم بهم وبتراث ديني لم يعودوا يؤمنون به. في هذه الحالة من الانتماء الرجراج والشديد الانتقائية تكثر التناقضات أو الحالات التي يصعب فهمها دون الاتكاء على مفاهيم مثل تلك التي يقترحها ياروشالمي.
ففي حالة فرويد مثلاً نعرف أنه كان لادينياً، أو (يهودياً بلا إله)، كما وصف نفسه ذات مرة، ولكنه على الرغم من ذلك أصر على الإعلان عن يهوديته والاحتفاظ بالكثير مما يؤكدها.
لا دينيته تلك جعلته يخلي بيته من الانتماء اليهودي ولا يكتفي بالتخلي عن الطقوس والعادات اليهودية، وإنما يتجاوز ذلك إلى أهل بيته فيرغم زوجته، مثلاً، على التخلي عن الكثير من ممارساتها الدينية مثل الامتناع اليهودي عن أكل لحم الخنزير.
لكن ذلك لم يمنعه، في المقابل، من أن يؤكد لزوجته أن (شيئاً من عمق، من جوهر هذه اليهودية التي تؤكد الحياة لن يغيب عن بيتنا)، لكن السؤال يبقى، ليس إلى أي حد أثر ذلك (الجوهر) اليهودي في بيت فرويد، وإنما إلى أي حد أثر في فكره وأطروحاته التي تركت بدورها أثراً هو من العمق والاتساع بحيث يصعب سبر أمدائه. بتعبير آخر إلى أي حد، وبأية كيفية، تركت تلك اليهودية، سواء أسميناها (نفسية) أم غير ذلك، أثرها على التحليل النفسي ومرتكزاته النظرية؟
الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved