الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 12th June,2006 العدد : 157

الأثنين 16 ,جمادى الاولى 1427

الذل والملل
قاسم حول*

في مسرحية (الجنة تفتح أبوابها..) التي قدمها الفنانون العراقيون وحازت الإعجاب أينما عرضت شاهدتها على مسرح الشارقة قبل بضعة أعوام. بطل المسرحية فيها الذي يعود من الأسر في إيران خلال الحرب العراقية الإيرانية يستدعي بذاكرته معلمه في المدرسة الذي علمه حكمة تقول (أكرموا عزيز قوم ذل).
كان المعلم قد غادر الدنيا فيعود في الحلم اليقظ لبطل المسرحية ونشاهد على السبورة عبارة أكرموا عزيز قوم ذل. المعلم يمسك الممحاة ويمسح كلمة (ذل) ويكتب بدلها (مل) ويقولها لبطل المسرحية (أكرموا عزيز قوم مل) ويغادر.
لقد مل الإنسان العراقي، ومل من الأمل ومل من تقديم الطلبات، ومل من التوسل، ومل من العلاج، ومل من البرد، ومل من الحر، ومل من الفراق، ومل حتى من العناق! عندما ظهرت السينما تجمع أثرياء القوم في أمريكا ودعمتهم المصارف وتم إنشاء مدن السينما وشركات الإنتاج والتوزيع وأنشئت المسارح، وانشغل المبدعون يكتبون ويمثلون وينتجون المؤثرات ويخترعون الأضواء ويجدون حلولا فنية تحقق على الشاشة كل ما ترحل به مخيلة الكتاب.
لم يشعر أحد بالملل ولم يشعر أحد بالذل، فالكل يعمل ويطرد من حياته الوحشة والسأم، وتأسست مهرجانات السينما وأشغلوا الناس في مواعيد تلك المهرجانات وتسليط الأضواء وتأسس تأريخ لهذه الحياة وصدرت الكتب الملونة والألبومات المشوقة عن الملصقات السينمائية ينتجها تشكيليون أفذاذ.
الكل ربحوا والكل انتعشوا وتحرك الواقع والبركة في الحركة.
ما لأغنيائنا لا يعرفون طريق الفرح فيحيلون الجمود إلى حركة وفرح ويبقون في ذاكرة الأجيال. أن ينتجوا مشروعات ثقافية كبيرة تعود عليهم بالفرح والربح الحلال. فالمثقف العربي أنهكه الملل.
يوما دعاني رجل من أثرياء الدنيا. ولا أعرف لماذا خطر على باله أن يدعوني. اكتشفت أخيرا أننا من مدينة واحدة وكنا صغارا نلهو.. أكرمه الله بنعمة التجارة وأكرمني الله بنعمة القراءة والكتابة. سألني بعد حفل الغداء.. بماذا تنصحني.
قلت له بتخليد اسمك.
قال كيف؟
قلت له اجمع الناس الذين فرقهم الدهر ورماهم في أطراف الدنيا دونما وطن يحنو عليهم.
أن تنشئ مؤسسة إنتاج سينمائية وقد رخصت الكلفة وصغر حجم المعدات وقدم دعما لكل من يريد أن يوثق الوطن، فواقع العراق غني بمادة الفيلم الوثائقي ودعنا ننشئ مكتبة بصرية نصورها على أشرطة الفيديو الاحترافية ونطبعها على شرائح الدي في دي.
ضحك صاحبي لأن المشروع سرعان ما دخل مخيلته كمشروع تجاري خاسر.
أنا فهمت العكس وهو فهم العكس أيضاً. وكل منا يمشي في طريق وكان لقاؤنا مصادفة على ما يبدو.
لم تمر سوى بضعة شهور عندما رن جرس هاتفي. رفعت سماعة الهاتف وإذا بصوت بطيء متقطع وغير مفهوم.. سمعت من خلال الكلمات المتقطعة اسمه وهو يقول أنا مسافر إلى أمريكا للعلاج.
سألته.. خيراً؟
فقال لي وهو يبكي.. أصبت بالشلل ويصعب علي الحديث.
مشافى إن شاء الله، قلت له وتمنيت له أن يعود إلى بيته في صحة جيدة.
تمنيت له الشفاء من كل قلبي وحزنت لأني أعرف أنه سيصاب بالملل وهو على سرير العلاج.
البرتو مورافيا كتب عن الملل في كتاب السأم وتشيخوف كتب عن الملل في الخال فانيا والشاعر العربي قال:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
لكن ملل العراقيين هو غير سأم مورافيا الناتج عن الترف.
وملل العراقي هو غير ملل تشيخوف الناتج عن البطالة
وفي السينما أنتجت أفلام عبرت عن ملل الحب.
أما ملل العراقي وملل المثقف العراقي فهو ملل الانتظار.. انتظار الذي يأتي ولا يأتي.
للعراقيين وطن لا يشبه الأوطان في جماله وإرثه ومكوناته.. ولكنهم عاشوا فيه مثل المسافرين منذ أن كتب الشاعر الرصافي قصيدته قائلا:
سكنت الخان في بلدي كأني
أخو سفر تقاذفه الدروب
ظاهرة الملل لدى عراقيي المنفى صارت حديث الهواتف عبر القارات، وصار حديث المثقفين في الداخل مرسوما على ورقة في يسارها قائمة تحتوي أسماء عراقيي الداخل وفي يمينها أسماء عراقيي الخارج.. أتى شخص ما وأمسك المقص وقص الورقة نصفين دون أن يدري أن ثمة ظاهرة لا تفرقهم هي ظاهرة الملل. ملل المثقف العراقي داخل العراق يلازمه حيث يتعذر عليه الإنتاج لأن وسائل الإنتاج (محرمة) الكاميرا واللون والشاشة، وملل المثقف العراقي خارج العراق يلازمه لأن الواقع العراقي (محرم) حيث يتعذر عليه العودة إلى ذلك الواقع لمعايشته وإنتاج أفلامه ورواياته وشعره وموسيقاه.
قد تبدو حيرة مثقفي العراق في الداخل محيرة ومدمرة ولكن حيرة مثقفي العراق في الخارج تبدو أكثر مرارة.
أسقطوا الدكتاتور دون أن يفكروا بالبديل الذي يحيل جحيم الدكتاتور جنة الديمقراطية، لم يعرفوا أن الدكتاتور خطط لهذه الحالة وأنعش رموزها وأغرقهم بالمال والملذات حتى يدافعوا عنه في وجوده ويخربوا الوطن في غيابه.
وفق هذا الواقع الجديد سيلتقي مثقفو عراق الداخل بعراق الخارج في المهجر.. وبدءوا يلتقون في البلدان المجاورة ثم في بلدان اللجوء في الغرب وهم لا يشعرون بالذل فحسب بل يشعرون بالملل أيضا..
أيها الناس في كل مكان.
أيها الأثرياء
أيها الفقراء
أيها العرب
أيها المسلمون
أيها البشر أينما كنتم:
أكرموا عزيز قوم.. مل!؟


* سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo.nl

الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved