الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 12th June,2006 العدد : 157

الأثنين 16 ,جمادى الاولى 1427

مفكرة
حكايات الشعر الحديث
ماجد الحجيلان

جلس الأستاذ الجامعي العتيد وراء طاولته الخشبية في قاعة الأدب العربي الحديث وأمام طلابه في السنة النهائية من التخصص في اللغة العربية وآدابها، وبكامل حمولته البلاغية أطلق صاروخه الأرض أرض ضد فئة من طلابه الحداثيين الناشئين؛ إذ سألهم مختبرًا عن رأيهم فيما يدعى الشعر الحر (التفعيلة) ومرتكبيه العرب، وأجاب عن سؤاله مواصلاً: قصيدة مثل (أنشودة المطر) -التي هي إحدى أيقونات الشعر الحر الموصوفة- يبدؤها السياب بوصف عينَي محبوبته بأنهما ك(غابتي نخيل)!!.. لو كان له عينا حمار ما وصف عيني محبوبته بذلك.. هل يقصد أن رمشها كسعف النخلة مثلا؟ ها ها ها.. وقهقه وهو يتخيل أبا يعقوب السكاكي يتوسّد مفتاح العلوم في آخر القاعة مصفقا ومقرضا.
لم ينفرد الأستاذ الجامعي (المتخصص في الأدب الحديث وفق عرف الجامعة) بذم نتاج الشعر العربي الحديث، وإيراد الشواهد على بلادة الذوق فيما يقترحه شعراؤه من تغيير منذ الخمسينيات وحتى الآن، فالسخرية من هذا النوع من الكتابة ومقارنته التقليدية بالفرائد من القصائد الكلاسيكية المستقرة بفعل المناهج والتعليم في الوعي والذوق العربي، أصبح أمرًا من أدبيات التراثيين وأدباء الاتباع وغيرهم ممن لا صلة لهم بهذه الأمور، هناك مثلا إعلامي عربي شهير آتاه الله بسطة في الجسم يجالس الوجهاء وينادم علية القوم بطرائفه الثقافية والجنسية، وإحدى لزماته الشهيرة أن يسخر من الشعر الحديث ويردد أن أدونيس كتب قصيدة عن الفيل الذي يصعد للقمر والنملة التي تعرج في خطاها، وهكذا يمضي في ارتجال (قصيدة) كاملة بحسب ما يرى من طول قهقهات النديم ورضاه عن طرفته.. ولا ينبغي تجاهل ما يوفره برنامج فضائي شهير لمقدمه الثورجي حتى البحة، من سخريات (بالحداثوية والحداثويين) فهناك حلقة شبه سنوية يخصصها هذا الرصين في حلبته الفضائية لمحاكمة الشعر الحديث عسكريًا، يستقدم لها حداثيًا غضًا خجول البسمات في مقابل تراثي حديدي الحنجرة، وتعال أيها المشاهد الكريم لتتفرج كيف يطحن التراث عظم الحداثة، ويصفها بالعمالة للاستخبارات الأميركية ونشوئها في محاضن الغرب الموبوءة، وولائها لمخططاته الهادفة للاستيلاء على مقدرات الأمة البلاغية والسيطرة على انفلاشها الذي يطال بلسانه الأطلسي وخليج الخنازير. هذا طبعا ما يفضل عن مؤلفات (أكاديمية) ونقدية لمجموعة كبيرة ممن جندوا أنفسهم لتقويض التحديث والحداثة في الأدب والشعر، محتسبين أجر ذلك عند الله تعالى باعتباره جهادًا على ثغر لغوي، ويتم ذلك قطعًا لصالح الأدب الإسلامي الملتزم بالضوابط الأخلاقية الممسطرة والتفاعيل العروضية المبجلة، وهنا في السعودية عينها قامت الأشرطة والمنشورات الخفيفة بدور توعوي فعال ضد الحداثة وشعرائها، وإن انشغلت الآن بأشياء أكثر أهمية بعد أن انتهت من جندلة الحداثيين بمدرعات الخطابة، ومن طرائف ما كتب في السنوات الأخيرة كتاب (سقوط الحداثة) لمحمد القوصي الذي مهده بالآية القرآنية {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } ثم أهداه إلى (أدباء الأمة الأصلاء دعاة الخير وعشاق الفضائل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والحافظين لحدود الله..) وكان نصيب الحداثيين طبعا من هذا الكلام أنهم (تلامذة الاستعمار وأبواق الغرب وعصبة الإفك والمنافقون والسفهاء من بني جلدتنا)، وهو في الخلاصة يدعو إلى اعتبار هذه الحداثة (خروجًا على دين الأمة وعدوانًا سافرًا على مرجعيتها المقدسة..) والحل هو (أن تضربوا على أيديهم بقوة ولا تأخذكم بهم رأفة في دين الله إن كنتم مؤمنين) وشمل حكمه هذا أحياءً من الشعراء مثل (حجازي والفيتوري وأدونيس) وأمواتًا مثل (عبدالصبور ودنقل والسياب والبياتي ونزار)..
مجيء هذه الانفعالات في سياق ردود فعل أيدلوجية ملتزمة وثقافة لها لجام اهترأ من العض، يمكن فهمه والتعامل معه، لكن ماذا عن الأمثلة الكثيرة لأناس غير مؤدلجين ولا تعوزهم ثقافة القراءة أو الانفتاح أو الذوق؛ ممن يرون في دواوين الشعراء الحداثيين كومة من الألغاز والرموز المبهمة؟ وماذا عن العزوف الجماهيري الفاضح عن الأمسيات والندوات الشعرية الحديثة؟ ولماذا تتكوم الدواوين في المكتبات وتضع دور النشر قيودًا على طباعة الكتابات الشعرية؟ ما الذي في القصائد الحديثة تفعيلية ونثرية ينأى بها عن الجماهير وأذواقهم؟ مع أنه بالمقاييس الفنية المحايدة يمكن مطالعة قصائد لها طعم يشبه فاكهة تقطف لتوها عند كل قراءة.
أما معالجة الموقف التراثي والجماهيري العام من الشعر الحديث فهو موضع كلام آخر، ويحسن أن يقرأ فيه شهادات ودراسات مهمة كالتي قدمت في مؤتمر قصيدة النثر الذي انعقد في بيروت أواخر الشهر الماضي وتداعى له الشعراء من كل منافيهم حول العالم، وهو بمثابة إعلان احتجاج وصرخة مقاومة ضد التجاهل والتهميش، مع إعلان رضا واضح عن النخب، غير أن البيانات والأوراق المطروحة تحكي بصراحة لا يحسد عليها الشعراء أوجاع الشعر الكثيرة التي تبدأ من مصطلحاته ولا تنتهي عند قراءاته المتعددة، فمثلا كانت ورقة أمجد ناصر وافتتاح أنسي الحاج تعبيرا عن الصمود والتماسك ? حتى الآن- لا أكثر، وهو ما رأى عقل العويط أنه يمثل وقوفا عند مرحلة الستينيات من منجز هذه القصيدة، أي منذ نشر أنسي الحاج ما وصف بأنه البيان الأول لقصيدة النثر عام 1960 في ديوانه (لن).
على كل هذا موضوع يستحق كلاما قادما، ولكن إذا كان ما يزال للشعر مكان في الشمال العربي؛ فقد نسيه النقاد الحداثيون الذين تخصصوا فيه هنا، وانشغلوا عن قضاياه بأشياء يرونها أكثر قابلية للتسويق، وسيكون من المناسب أن يعطوا جزءا من وقتهم لجسر هذه الهوة أو تبريرها بين أذواق الناس والشعر الحديث، ولو اضطروا قليلا إلى تأجيل الكتابة عن الواقعية السحرية لماركيز، واكتشاف المواهب الروائية للصبايا السعوديات، وإبراز مفاتن الظاهرة اللونية في الشعر الإفريقي.
الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved