الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 12th June,2006 العدد : 157

الأثنين 16 ,جمادى الاولى 1427

مفارق الكتابة
نحو قراءة متزنة للنقد العربي الحديث
مرزوق بن تنباك وقضية الوأد 2
محمد العامر الفتحي
ثالث هذه المزالق: أن الدكتور يرى أن المرأة في الإسلام تعيش واقعاً مغلوباً، ليس في جانب التطبيق العملي لتعاليم الدين، فلو قال هذا لاعتبرنا أنه يعني أن تطبيق البشر يعتريه الضعف، فلا يتواكب مع التعاليم الإسلامية، ولكنه بدلاً عن هذا يدّعي أن الإسلام: راعى مسألة ميل الناس للمولود الذكر! ولا تظنن أيها القارئ الكريم أنني أتجنى على الدكتور، أو تتهمني بشيء مما قد يثيره في نفسك استكثارك على مثل الدكتور أن يقوله! فأنا أسبقك إلى القول بأنه إن كان استنتاجي صحيحاً فلست أتهم الدكتور بأكثر من الخطأ غير المقصود، وإن كان استنتاجي خطأ، فما عليك إلا أن تريني وجه الصواب فيه.. يقول الدكتور: (في ضوء ما تقدم من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وموروث الأمم والشعوب منذ القدم يظهر جانب مهم في الأمر، وهو أن واقع الأنثى في المجتمعات القديمة هو واقع مغلوب ولهذا السبب فإنه لا يستغرب أن يقف العرب منها موقف الأمم الأخرى..).. هكذا يقرن - بداية - بين النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وموروث الأمم والشعوب! ولو توقف الدكتور هنا لكان خيرا له، ولفهمنا أنه إنما يعني أن النصوص القرآنية صوّرت حال المرأة قبل الإسلام، ولكنه يفاجئنا تماماً حين يستكمل فكرته فيقول: (نجد ذلك حتى في بعض الشعائر الدينية، ليس في حال الجاهلية والجاهليين، الذين نصمهم بالوأد بل في حال الإسلام والمسلمين). وليته قال المسلمين وسكت! أما كيف ظلم الإسلام المرأة في رأيه و(غلبها) فهاهو الدكتور يقول (وحين نقرأ ما تقرره الشريعة نجد - مثلاً - أن الإرث للأنثى نصف ما للرجل إذا استويا في القرابة - الابن، البنت - بل حتى فيما هو من الشعائر الظاهرة، على سبيل المثال تكون العقيقة شاة واحدة للبنت وشاتين للذكر، ومثل ذلك الدية)! و يزيد الدكتور طين استشهاده بلة حين يحاول تفسير هذا الميل كما يظن بأنه (لما يعلمه الله من ميل الإنسان للابن من الولد خاصة وتفضيله الابن على البنت في كل الأحوال)! إن الوقوف أمام هذه الأسطر ليستدعي بعض التساؤلات: فكيف حاك في صدر الدكتور أن الله (غلب المرأة) مراعاة لميل الناس إلى الذكر، وكلنا يعلم أن الشريعة لم تأت للذكران دون الإناث؟! وعلى هذا فكيف تميل الشريعة إلى إرضاء نصف من جاءت لهم على حساب النصف الآخر؟! وإن الناظر في علم المواريث ليعلم تماما أن المرأة في بعض المواقف ترث أكثر من الرجل، فلو صحت نظريته لانسحبت عملية التفضيل في الميراث على جميع الحالات، ولم تكتف ببعضها! وقد ذكر العلماء من التوجيهات لما جاءت به الشريعة في حق الرجل والمرأة في مسائل الدية والمواريث وغيرها ما يبين أسباب ذلك.. في غير اتهام للشريعة بإرضاء أحد الطرفين على حساب الطرف الآخر!
والرابع - أننا حين نعود إلى مسألة تفسير آية الوأد نراه يقول: (لو جاءت آية {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ}بعد هذا السياق من القرآن - يعني الآيات التي تذكر قتل النفس - ونظر فيها أهل اللغة والفصاحة والبيان العربي، لما فسروها بغير النفس، ولما احتاجوا إلى العدول بالقرآن عن سياقه إلى المعنى البعيد الذي اتخذه المفسرون، وأسرفوا في تأوله، وعدلوا بالقرآن ومعناه عما تقول اللغة وتسمح به، لاسيما أن الحديث عن القتل بكل أنواعه هو حديث عن النفس المقتولة)! وبعيداً عن تكرار الإشارة إلى تساهله في اتهام المفسرين الذين يرى أنهم عدلوا بالقرآن عما تقوله اللغة.. أريد أن أذكّره هنا بأنه يقع في تناقض بيّن فهو يقول في موضع آخر من الكتاب - حين تتطلب الأمور هذا الاتجاه - (ولا يشك عاقل بسلامة فهم الذين تلقوا النص القرآني من النبي صلّى الله عليه وسلم وأنه لا يمكن أن يحمل على غير معناه المقصود منه)! وعلينا أن نغض الطرف لأننا نعلم أن الدكتور إنما يبذل جهدا كبيرا في سبيل تحويل افتراض إلى نظرية.. فهو يعترف للعرب بفهم النص القرآني فهماً (لا يمكن معه أن يحمل على غير معناه المقصود) عندما يريد الاستفادة من هذا الاعتراف في إثبات وجهة نظره! وهو يتهمهم في مكان آخر بأنهم (يعدلون بالقرآن ومعناه عما تقوله اللغة) لأنه يريد إثبات نظرية يقترحها! ومع هذا فإنني أريد أن أسأله: أين يرى الخطأ؟ أفي ورود الآية بعيدا عن السياق الذي يفترض هو أن تكون قد وردت فيه؟! أم في تفسير العرب لها تفسيرا خاطئا - كما يظن - (لا تسمح به اللغة) وهم من شهد لهم الدكتور قبل قليل بأنهم (أدركوا مضامينه اللغوية)؟! وهكذا أعيد على الدكتور قوله: (استعمال الدلالة اللفظية عند العرب الذين تلقوا القرآن، وأدركوا مضامينه اللغوية ودلالته الدينية وأظهر ذلك في الإرث اللغوي وفي النص القرآني الذي جاء يحكي عن العرب الأقحاح مدى فهمهم للدلالة اللفظية مهما كان المراد منها). هل لاحظتم أنه يؤكد على تمتع العرب الذين نزل القرآن بلغتهم بكثير من متانة الفهم، وكمال الوعي بالأساليب العربية اللفظية والدلالية مهما كان المراد منها! ثم يعود ليقول إن العرب الأقحاح هؤلاء كانوا في حاجة ماسة لأن يأتي الفرزدق بأبياته في الوأد ليتصور في أذهانهم معنى لم يكونوا قد عرفوه من قبل؟!
خامساً - وبالعودة إلى محاولات الدكتور لاستخدام القرائن تمهيداً لإثبات مصداقية نظريته في مسألة نفي قضية الوأد.. سنرى أن الدكتور يظن أنه لو كانت قضية الوأد صحيحة، وبالتالي قضية افتداء بعض كرام العرب للموؤدات صحيحة، لكان الشعراء الذين استنقذ هؤلاء الكرام امهاتهم من الوأد قد قاموا بمدح هؤلاء المنقذين.. يقول: (أن تكون هذه المنة العظيمة في أعناقهن وأعناق آبائهن وعشيرتهن، ثم أبنائهن وأحفادهن، ومن يمت لهن بصلة بعد ذلك، وسيكون من هؤلاء رجال أو حتى نساء يذكرون هذا الفضل العظيم والمنة الخالدة للرجل الكريم الذي بذل ماله وقدم لهن ما جعلهن يعشن الحياة التي كان آباؤهن قد منوا بها عليهن خوفا من الفقر، ولا بد أن يكون بعض هؤلاء شاعر يقول قصيدة يمدح فيها هذا السيد ويثني على صنيعه). هكذا يفترض الدكتور أن يتقدم أبناء وأحفاد وعشيرة تلك الفتيات اللاتي أنقذهن الرجل الكريم من الوأد ليسطروا بشعرهم مآثره عليهم.. ولينشروا في المجتمع الجاهلي قصّة فدائه لأمهم من الوأد.. وقصة عجز أبيهم عن إعالتها حتى همّ بوأدها! إن الدكتور ينسى هنا أن ذلك إنما يعني فضح أنفسهم.. وفضح آبائهم.. في بيئة تفخر بالأعمام والأخوال.. وأغرب من ذلك أن يقول هو بعد ذلك (وليس هناك عار وعيب أشد من أن يعجز الرجل عن قوت ولده، ويحاول قتله، ثم ينقذه سيد من سادات قومه). فكيف نسي أنه طالب أبناء المستنقَذات بإعلان ذلك وإشهاره! وكيف نسي أنه استدل بصمتهم عن رواية القصة على بطلان الاستنقاذ!
سادساً - يورد الدكتور قصة يرى أنها تبين بطلان ما قيل عن قيس بن عاصم من الوأد! تلك القصة - التي لم يوردها كاملة.. لأن في إيرادها كاملة ما يكشف زيفها.. أو يكشف خطأ الدكتور في الاستدلال بها! فاكتفى منها بما يمكن أن يكون دليلاً له.. فلا نجده يورد إلا قول قيس لابن أخيه الذي قتل ابنه (أثمت بربك وقطعت رحمك)! ليدلل على أن قيساً كان يخاف الله.. فما كان له أن يقتل ولده! وتلك القصة التي أوردتها (كتب الأدب) مما لم يكن الدكتور يصدق ما تأتي به.. تذكر أن الأحنف بن قيس روى عن قيس بن عاصم أنه كان محتبيا في مجلس قومه، يتجاذب معهم أطراف الحديث، فدخل عليه بنوه بأخٍ لهم مقتولاً، وبقاتله - ابن أخيه - مكتوفاً.. وقالوا له: إن ابن أخيك هذا قتل ابنك هذا، فما حلّ قيس حبوته، ولا قام من مكانه، وما كان منه إلا أن قال لابن أخيه: (أثمت بربك وقطعت رحمك) ثم أمر بحل كتاف ابن أخيه، وبأن يعطوا أم ابنه القتيل مائة ناقة.. وأن يذهبوا بابنه ليدفنوه! وإنني أعجب كيف يقبل الدكتور ما تورده كتب التراث مما لا يمكن قبوله حين يكون قبوله دعماً لموقف النظرية الجديدة، ويردُّ ما تورده تلك الكتب مما هو أقرب إلى التصديق حين يكون ردّه نصراً للنظرية! وكيف يقبل فكرة بقاء رجل عاقداً حبوته، لا يتحرك قيد شبر.. وهو يرى ابنه قتيلاً بين يديه؟! وإن صدّقنا أن لقيس بن عاصم هذا القلب المتحجر، الذي لا يتحرك لمصرع ابنه، فكيف لا نصدق أن ذلك القلب المتحجر يمكن أن يساعد قيساً على تطبيق مبدأ الجاهليين القساة في (وأد البنات)؟! إن ادعاء أن قيساً كان مؤمنا بالله قبل دخوله في الإسلام ادعاء لا تخفى سذاجته. وادعاء أن هذه الحادثة إنما وقعت بعد إسلام قيس لا يجعلها صالحة للاستشهاد بها! ثم أكرر مرة أخرى: إن كان قيس بهذه الغلظة والقسوة بحيث لا يحل حبوته، ولا يودع ولده، ولا يخرج من حديث ابتدأه.. فما الذي يمنعه من وأد أنثى لا يحبها العرب؟! إن هذه الحادثة إن صدقت لدليل واضح على أن بإمكان قيس وغيره أن يفعل ما لا يفعله الآباء.. وإن كذبت - وأظنها كذلك - فكيف ترك الدكتور معها شكّ الناقد.. ذلك الشك الذي ما تخلى عنه حتى مع الثابت من أقوال العلماء والمفسرين؟! لا أجد تفسيراً لتخلي الدارس المتشكك حتى في ثقات المفسرين والمحدّثين، عن شكه مع قصة متهالكة كهذه، أوردتها (المصادر القديمة) التي هي أحق بالشك.. إلا بحث الدكتور عن الدليل.. وليس هذا من العدل الأكاديمي في شيء!


يتبع

الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved