الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 12th June,2006 العدد : 157

الأثنين 16 ,جمادى الاولى 1427

صدام بطلاً..!!
أمل زاهد
إحدى الظواهر التي اعتاد عليها مستخدمو الإنترنت في عالمنا العربي السعيد هي تبادل مقالات ساخنة تعبر عن وجهات نظر مثيرة للجدل ترى الأمور بطريقة مخالفة لظواهر الأمور، فتبدو وكأنها فتوحات العارفين أو كأنها اكتشفت ما لم يستطع غيرها اكتشافه أو ما غمض على الوعي العربي القاصر عن الوصول إلى عمق الأمور والنفاذ إلى بواطنها، لمجرد أنها تقول ما هو مختلف عن السائد.
وتنتشر هذه الايميلات كانتشار النار في الهشيم، وما بين غمضة عين وانتباهتها تصبح في متناول جميع مستخدمي الإنترنت من المحيط إلى الخليج، بل تتجاوز ذلك لتصل إلى بريد كل ناطق باللغة العربية في أعماق المهاجر والمنافي في مشارق الأرض ومغاربها.
ولا أستطيع أن أرى في هذه المقالات إلا رغبة في إثارة الفرقعات وتهييج الغبار وإثارة الأتربة، وهي تماما كأغاني (الفيديو كليب) الجوفاء الحديثة، يشتد وهجها وبريقها كلما زادت كمية الملح والتوابل فيها ثم لا تلبث أن تموت وتنطفئ ويمل الناس من ترديد نغماتها الرتيبة والتي تعزف على أوتار الانفعالات والغرائز!! وتتجاوز هذه المقالات حتى تصل إلى تحريك المشاعر العربية الراكدة فتهيج ما غطاه الغبار وحجبه التبلد الناتج من طول أمد تجرع الخيبات والهزائم العربية، فتخرج تلك المشاعر الموؤدة من أكمامها فيصادق القراء على الفتوحات التي توصل لها كاتب المقالة وينطلقون وهم يهللون له ويصفقون.
إحدى هذه المقالات وصلني منذ يومين من إحدى الصديقات على بريدي الإلكتروني، لكاتب عراقي معارض لنظام صدام ويعيش في منفاه في بريطانيا واسمه علي الصراف، وكان هذا الكاتب نفسه قد أطلق قنبلة من العيار الثقيل قبل شهرين مضت بصورة مقالة اعتذار لمن أسماه بالديكتاتور الجميل!! تأتي القنبلة الثانية بعنوان: عشرة أسباب لإعدام صدام وسبب واحد لابقائه حيا، وفيها يشحذ الكاتب قلمه ويستحضر بذكاء شديد وحرفية قانونية بارعة حججا منطقية يدافع بها عن ديكتاتورية صدام واستبداده وظلمه، بل يتجاوز ذلك ليفند عشرة أسباب ليس لإعدامه بل لتبييض صورته وتلميع قسماتها ثم يمضي في سخرية لاذعة ليشرح السبب الوحيد لإبقاء صدام حيا، وهو تعذيبه بمشاهدة ما آلت إليه حال العراق بعد ثلاث سنوات من الاحتلال!!
ومن نافلة القول إن كل عربي حر يرفض الاحتلال الأمريكي وما جلبه في معيته من مآس لشعب ذاق الأمرين واستنزف قهرا ومعاناة لمدة ثلاثين عاماً، ثم جاء الاحتلال الأمريكي والفساد المصاحب له ليجهز على البقية الباقية من الفرح والسلام في حياة العراقيين. وكنت قد شاهدت برنامجا تلفزيونيا في العربية يعرض لقاءات لشرائح اجتماعية عراقية مختلفة، إبان الذكرى الثالثة لسقوط بغداد، وكان القاسم المشترك بين اللذين أجريت معهم اللقاءات بساطتهم وفطرتهم وخروجهم من خلفية ثقافية متواضعة. أجمع كل من تحدث في ذلك البرنامج على الحنين إلى العهد البائد ولزمن صدام المنصرم، وراحوا يعددون مناقب ومزايا ذلك الزمن حين كان الأمن يكتنف كل شبر في العراق، والكهرباء تضيء كل بيت، والسلام يحيط بكل حي.. وانبروا يؤكدون وجود بعض المضايقات البسيطة إبان ذلك الوقت، ولكنها لا تقارن بأي وجه بما يحدث اليوم من أصولية معممة، وطائفية بغيضة، ومحاصصة سياسية تطل برأسها من بين ارهاصات هذا الزمن المفعم بالمفسدين والمرتزقة ومقتنصي الثراء ومتصيدي الفرص في أرض الرافدين. واستطيع أن أفهم دفاع اولئك المواطنين البسطاء عن عهد صدام، وحنينهم إلى الزمن المنصرم، وتعديدهم مناقب ذلك العهد البائد وهم الذين يكتون بلظى الإرهاب المتأسلم ويتقلبون على جمار ممارسات الاحتلال البغيضة ويعانون من انتفاء الأمن وانقطاع الخدمات الحيوية في بلادهم، بل إن أمنية كل فرد منهم أن ينام وعدد أفراد أسرته كاملا غير منقوص.
ولكن ما لا أستطيع فهمه هو دفاع مثقف معارض يعيش في المنفى عن صدام ومحاولته تبييض صورته وتلميع قسماته!! واتساءل مع القراء الكرام: هل من الممكن أن تقود خيبة الأمل الناتجة عما آل إليه الوضع في العراق إلى تبني الدفاع عن أحد اكبر الفاشيين العرب!! بل إن الكاتب يزيد باظهار صدام بصورة الحاذق البارع الذي أعاد للعراقيين ثرواتهم المنهوبة من النفط بتأميم النفط، والمدافع عن براءة الأطفال، والحريص على مصالح الفلاحين، والمحارب للأمية والمشجع للعلم، والمنافح عن حقوق الأكراد، وسلسلة طويلة من الدفوع التي تتكئ على جزء واحد من الصورة وتتغافل عن تاريخ صدام الأسود، وعن مقابر حلبجة الجماعية وعن الحروب العبثية التي قاد العراق إليها ذلك النظام، وعن الحصار الاقتصادي الذي كان يجعل من رؤية الموز حلما يراود كل طفل في العراق، إذا استثنينا بالطبع أطفال الطبقة الحاكمة الذين كانوا يرفلون في أطيب خيرات الدينا من مشارق الأرض ومغاربها.
ومن المثير للدهشة والاستغراب حقا أن من يتبنى هذا العرض يضع نفسه وقراءه أمام خيارين لا ثالث لهما.. إما الدفاع عن ديكتاتورية صدام ورفع لواء مناصرته وإجلاء صورته وإظهاره بمظهر المنقذ الهمام والفارس المقدام، وإما الدفاع عن الاحتلال الأمريكي وادعاء أنه قدم حاملا فوق دباباته وبرفقة أسلحته ولائم الديموقراطية المترعة بالحرية والعدل والمساواة والحياة الكريمة لكل عراقي!! وهو نفس منطق الرئيس الأمريكي العقيم جورج بوش: من ليس معنا فهو ضدنا.
ولا أدري لماذا يدخل المعارض علي الصراف نفسه وقراءه في هذه المتاهة، ولماذا يوحي لهم بأنهم إذا كانوا يرفضون الاحتلال الأمريكي فلا بد لهم أن يتمسكوا باللواء الصدامي!! وكأنه لا يصح أن نرفض الاحتلال الأمريكي وأن نرفض أيضا نظام صدام الشمولي الجائر الذي قاد العراق برعونته ونزقه - باديء ذي بدء - لأتون ما تتلظى فيه الآن من جحيم النار ومن حر السموم!!


Amal_zahid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved