الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 12th June,2006 العدد : 157

الأثنين 16 ,جمادى الاولى 1427

صدى الإبداع
حمزة شحاتة (1909 - 1972) (4-8)
د. سلطان سعد القحطاني

تحدّثت في الحلقة الماضية عن رفض حمزة شحاتة لكلِّ شيء ناقص، وكان حمزة شحاتة من الرجال القلائل الذين لا يتنازلون عن مبادئهم، مهما كلّف الثمن، وفعلاً كلّف الثّمنُ حمزة شحاتة الكثير، سواء في الحياة الاجتماعية أو في الحياة العامة في كلِّ مناحيها، فلم يسعد في الحياة الزوجية، ولا في الحياة الوظيفية، ولا في الحياة التجارية ....، والسبب واحدٌ ليس أكثر من ذلك، فتكوين حمزة شحاتة كان فريداً من نوعه، فقد دَرَج على منهج علمي مثالي لا يقبل بأنصاف الحلول، بل إنّه يستطيع أن ينكر إنتاجه الأدبي لو حُرِّف فيه أو عُدِّل، ولو في كلمة واحدة. لقد طلب منه عبد السلام الساسي أن يكتب مقدِّمة لكتابه (شعراء الحجاز) وعندما ظهر الكتاب وجد أنّ الساسي قد عَدَّل في المقدِّمة وحرّف فيها، فأنكر حمزة أنّ تكون المقدِّمة بقلمه، وما فتئ ينكرها حتى وفاته. إنّ ما يقلق حمزة شحاتة - ومعه الكثير - ذلك النوع من البشر، ممن استكانوا للنّقص، وساروا في ظلِّ الجمود ومسايرة الآخرين والرضا بالقليل، والتمثُّل بالمقولة السائدة (ما لم يُدرك كله لا يُترك جلّه) مقولة لم تدخل قاموس شحاتة في كلِّ أطوار حياته، فبالرغم من حالته المادية البسيطة، لم يرض بالترضية التي حاول قريبه أن يعطيه إيّاها تعويضاً عن ماله الذي بحوزته، بل رفض هذا الحل لأنّه ناقص، فإمّا أن يكون المال كله أو لا شيء .. هذه الشخصية المعقّدة في نظر البعض، المثالية في نظر الآخرين، الغريبة في نظر فريق آخر، خلقت في زمن غير زمنها، ربما يوافقها زمن أبي الطيب المتنبي، الطموح القلق، وربما يكون هذا مثَل شحاتة الأعلى، فأبو الطيب لا يرضى بالناقص، وهو القائل:
(إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم)
أو ربما يكون زمن ابن الرومي، أو الشريف الرضي، أو ابن طباطبا العلوي، الذي لم يتقرّب من أحد ولم يرض بحال مال عن السبيل الصحيح. ربما تأثّر حمزة شحاتة بهؤلاء، وبغيرهم من القادة والعظماء، وفي مقدِّمتهم محمد - صلى الله عليه وسلم - لما اجتمع فيه من صفات الرجولة، وصفات القائد، مؤسس الدولة العربية، ومن عباقرة التاريخ العربي الإسلامي، الذين ضُرب بهم المثل في كلِّ موقف، كلُّ هذا وارد في تكوين شخصية هذا الرجل، لكنّ الأمر يبدو لي أبعد من ذلك، من حيث التحليل النفسي لهذه الشخصية القلقة، كان يضع عقدة (النقص) أمامه في كلِّ شيء، سواء أكانت على نفسه أو على الآخرين، كان لا يرضى أن يُؤخذ مما وضعه شيء ولا يُزاد عليه شيء، اكتفى باسمه الثنائي برغم القوانين، ورفض أن يُنقص من أدبه شيء، ورفض أن يدرج اسمه في كتاب فيه شاعر ناقص (سارق) فلم يرض أن يكون من مجموعة فيها ناقص، وشحاتة يرى - ونحن معه - أنّ السرقة والانتحال والتحايل والنِّفاق والتعالم في كلِّ شيء مصدر نقص في الشخصية، وجهل مركّب يعوِّض به بعض الناس عن شيء فقده، لكن النقص الذي يشعر به شحاتة ومن هم في مستواه دافع شديد نحو الكمال، ولو أنّنا تحدّثنا عن الكمال والعصمة بمعناها المجرّد فلن نجدها إلاّ عند الأنبياء، الذين عصمهم الله - تعالى - عن الخطأ، والحديث الشريف (المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين) دليل على الخطأ، ففي المرة الأولى عن جهل لا يؤاخذ عليه، أمّا المرة الثانية فلم يَعُد جاهلاً، بل يُحسب ضمن المعتمّدين، فلا يكون مؤمناً، وهذا ما يعنيه حمزة شحاتة في طلب الكمال، فخطيئة آدم علّمته أن لا يكرر الخطأ مرة ثانية، واشترط المولى - عز وجل - عليه وعلى حواء - عدم العودة إلى هذا الخطأ. إنّ فلسفة حمزة شحاتة ترى هذه الأمور على أنّها نقص في الرجولة، فالسارق والكذاب والمدّعي ... وغيرهم لا تكون رجولتهم كاملة، فعندهم نقص لم يستطيعوا إكماله.
ويضع حمزة شحاتة بنوداً ومبادئ للرجولة، ومنها على سبيل المثال:
- الحياء قوام الفضيلة، والرجولة عمادها الناهض برسالتها. إنّه يضع للفضيلة معادلة لا يمكن أن تقوم إلاّ بها، فلا يكون الإنسان فاضلاً إلاّ إذا كان مكتمل الرُّجولة، ويفرق بين الفضيلة والرجولة، فيرى أنّ الفضيلة مكتَسَبة، أمّا الرُّجولة فطبعٌ وفطرة، يقول: (قد يكون الإنسان فاضلاً ونصيبه من حرية الفكر نصيب منقوص، ويكون فاضلاً ونصيبه من الغيرة على الحق والجهاد له، نصيب عادي. ويكون فاضلاً بالقناعة، والعفّة، والأمانة، والصدق، والجود ... لكن الرجل لا يكون تام الرُّجولة إلاّ متى أخذته نفسه أخذاً صارماً بفضائل طبعه، وأخلاقه، وإيمانه الصارم، وهذا قانونه). وحمزة شحاتة في محاضرته هذه يقدِّم الطّبع على المكتسب، ويجد أنّ المكتسب رافد للطّبع، فالإنسان المطبوع لا يمكن أن يحقق ما طُبع عليه إلاّ بتقوية وممارسة ما اكتسب، ويؤكِّد على أمر مهم في الدراسات النفسية والاجتماعية، وهو أنّ الفضيلة أمر يستطيع الإنسان أخذه حيناً وتركه حيناً آخر، كأن يقوم بمساعدة أحد في وقت ما، وتركه في وقت آخر، مع القدرة في الحالتين. هذه فضيلة، لكن الرُّجولة أن يقوم بمساعدته في كلِّ الظروف، مع القدرة ومع غيرها، وقد قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ... ...}(9) سورة الحشر.
ونستطيع أن نفلسف هذا الموقف بالقول: (كلّ رجولة فضيلة، وليست كلّ فضيلة رجولة) ومن فلسفة حمزة شحاتة قوله: (فالفضائل قوة بأثرها، وإشاراتها، وغلابها للنفس. لأنّها اكتساب وممارسة، ولكن الرجولة طبع وفطرة ... والفاضل يقود نفسه، أو يقسرها. والرجل تقوده نفسه، وتقسره، ويقوده طبعه القوي، وفطرته العارمة، وإيمانه الصارم)، ويرى أنّ معظم الفضائل ما هي إلاّ انحراف مستور بمطالب النفس، وأنانيّتها الخفيّة. لعلّ فلسفة حمزة شحاتة هي فلسفة كبار الفلاسفة في موضوع النفس، وهي اللوامة، وما بينها وبين الروح، وقضية الصراع الدائم بينها وبين الإنسان، الذي يراه حمزة (الرجل) فإذا استطاع هزيمتها حقق الفضائل، وإلاّ ستقوده إلى عكس ذلك، كما أنّه يرى أنّ الفضيلة في عدم الثبات، أمّا الرُّجولة فهي عين الثبات. ويرى حمزة شحاتة أنّ الحياء - كما أسلفنا - مركز الرُّجولة وشعارها، فلا رجولة بلا حياء، وكأنّه يتمثّل قول الشاعر العربي في ما يسمى بالجاهلية، لكن الله يؤتي الحكمة من يشاء، فالعربي يرى أنّ الحياة بلا حياء ليس فيها خير، ولا تستحق أن تسمّى حياة:
(ألا والله ما في العيش خير
ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير
ويبقى العود ما بقي اللحاء)
فالعود إذا نُزع لحاؤه، وهو الذي يحيط به ويستره، ظهرت عورته وذبل ومات، والإنسان إذا ذهب حياؤه ذهبت كرامته، وحُسب في عِداد الموتى.
والرُّجولة - في نظر حمزة شحاتة - تقوم على ثلاثة قوانين، أو صفات، القوة والجمال والحق. ويؤولها إلى ثلاثة انعكاسات، أو متقابلات: وللحديث بقية.
الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved