الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 12th December,2005 العدد : 133

الأثنين 10 ,ذو القعدة 1426

طه حسين: رائد العقلانية و الليبرالية العربية «5»
العميد ..والبورجوازية المصرية
د. عبدالرزاق عيد*

أما فيما يتعلق بالأطروحة القائلة بأن البرجوازية المصرية خذلت مشروع طه حسين بسبب هجنتها وتبعيتها، فهي لا تعني أن آفاق طه حسين لم تكن أكثر رحابة وجذرية من مشروعها، فهذه الأطروحة هي للتعليل والتأويل والفهم السوسيولوجي لحركة علاقة الفكر بالواقع، لأن الفكر التنويري الطليعي لا يكون طليعيا إلا عندما يكون سباقا على الواقع، واقع الطبقة أو الشريحة بل وحتى الأمة.
وهذا الأمر ينطبق على الثورة الفرنسية بالدرجة ذاتها التي ينطبق فيها على كل الحركات الجذرية التي عرفها التاريخ.
فالثورة الفرنسية التي هي ثمرة قرن من العقلانية وفلسفة الأنوار شهدت من خلال اصطراع القوى داخلها عنفا وقسوة زهقت معها دماء وأرواح ما لا ينسجم أو يتفق مع أحلام: (روسو أومونتسكيو أو فولتير أو ديدرو) وجيل كامل من المنورين والديموقراطيين العظام.
فقصور البرجوازية الفرنسية عن تحقيق حلم المنورين لا يعني أن آفاق هؤلاء كانت مرتبطة بأفق هذه الطبقة، لكنها الطبقة الوحيدة التي كانت تحمل ممكنات الواقع الفعلية لقيادة متوسط طموح المجتمع، ومتوسط طموح مفكريه بالمجتمع الفاضل.
فالحكم على عجز البرجوازية في أن تكون الحامل الاجتماعي لمشروع طه حسين الفكري، ليس حكما على سعة أو ضيق أفق طه حسين ومدى جذريته أو رحابته، بل هو حكم يفسر تراجيديا مشروع النهضة والتنوير العربي: بين طموح العقل ومعوقات الواقع ومن ثم فلول الإرادة وخيبة الأمل بعد انكسار الأحلام، إنها تراجيديا هزيمة المعرفة أمام السلطة منذ محمد علي حتى يومنا هذا.
هكذا تنتهي دائما اللحظات الأكثر توترا في علاقة المعرفة بالسلطة في التاريخ العربي المعاصر - إن لم نقل في التاريخ العربي على الإطلاق - حتى بات حل (التناقض) هذا: أي الخروج بتركيب نوعي جديد بين صراع المعرفة والسلطة، من يوتوبيات المستقبل العربي غير المنظور، الأمر الذي كان من شأنه أن يدفع جدل صراع (التناقض)، إلى توتر (التعارض) المشدود بين قطبين لا يلتقيان كما آلت حالة الفكر التكفيري في علاقته الإبادية في العالم...
كتاب (قضايا وشهادات) وإن كان يبدو شهادة على إعادة الماركسيين العرب النظر في أطروحتهم الستالينية المعادية لليبرالية، من خلال الحوار مع طه حسين كأطروحة، فهي شهادة على رد الاعتبار لأنفسهم كمثقفين، بوصف المثقف صاحب أنف طويل على حد توصيف سارتر، وأن يكون نقديا تعريفا وإلا فهو يمكن أن يكون أي شيء إلا أن يكون مثقفا، حتى ولو شغل أعلى المراكز الحكومية والوظيفية كتكنوقراط (متمجد) وليس (ماجدا) وفق تحديدلات الكواكبي، إنها شهادة إعادة اعتبار لهم قبل أن تكون شهادة إعادة الاعتبار لطه حسين، وهم بذلك يسجلون انعطافة نوعية باتجاه امتلاك وعي مطابق باستحقاقات اللحظة الراهنة وهي تشتق نفسها من درجة تماس قانونها الوطني الخاص مع القانون الكوني العام، حيث لا تتحدد هوية الخاص إلا بعرضه على العام ليشتق لذاته صورة في شريطه الزمني الدائب السيرورة والصيرورة بلا نهاية.
في حين أن القوميين يزدادون نكوصا نحو نماذجهم البدئية الأولى، بينما هناك تيارات من الإسلامويين المستنيرين يجدون في الاجتهاد والمراجعة، مدركين أهمية إعادة النظر في فلسفتهم المنهجية بوصفها ضرورة تقتضيها مهمات ظروف عالمية وعربية جديدة، وكان الأولى بالقوميين (الأصالويين المحدثين) أن يجسدوا عبر الممارسة المعرفية فعليا فك الارتباط البنيوي مع كل نموذج، أي أن يكونوا سباقين لتأصيل وتجذير طروحاتهم وقراءاتهم عبر إعادة اكتشاف نيتشه وهيدغر وميرولوبونتي كما يبشرون.
في هذا السياق لا بد من إبراز نقطة مهمة يمكن استجلاؤها من قراءة كتاب (قضايا وشهادات) على أن القراءة الماركسية الشرقية الشامية (السورية - الفلسطينية - العراقية) أكثر تفاعلا وانفعالا بظاهرة طه حسين من القراءة الماركسية المصرية - إذا استثنينا البحث المتميز بعمق إحساسه الرهيف الشفاف والعميق في مسؤوليته تجاه أسئلة النهضة والتنوير الليبرالي لدى الروائي المصري الكبير بهاء طاهر- وقد يبدو أن في ذلك مفارقة، لكن ما يعلل هذه المفارقة - في رأينا - ربما يكمن في أن الحماس للمشروع المدني الديموقراطي من قبل الماركسية الشامية تعكس عمق أزمة هذا المشروع في مجتمعاتها بشكل أكثر فجاجة وفجائعية من المجتمع المصري، الذي حافظ رغم كل الالتواءات الدكتاتورية أو الديموقراطية الشائهة على موروث مدني أكثر عمقا ورقيا مما في بلاد الشام.
إن هذا التعليل لا يحجب عنا ظلال الدوغمائية والشعارية وبقايا الروح الشعبوية في فهم المنهج لدى بعض الدارسين الماركسيين المصريين في دراستهم لطه حسين مثل دراسة (سيد البحراوي) التي تؤثم طه حسين طبقيا لكونه لم يبق مندمجا مع بيئته الفلاحية الشعبية الفقيرة، ولكونه تطلع لأن يكون من صفوة قيادة عقل وضمير المجتمع عبر اندراجه سياسيا - في بداية حياته السياسية على الأقل - في أحزاب النخبة.
لقد اغتيل مشروع طه حسين المدني التنويري الديموقراطي مرتين، المرة الأولى على يد الشعبوية الناهضة في المرحلة الناصرية بتعدد خطابتها (القومية - الماركسية - الإسلامية)، والمرة الثانية مع مرحلة الانفتاح بتبعية فظة من خلال قوى تجمع بين وكالة التراث ووكالة الحداثة، أي: السمسرة على الدين والعلم معا، فتبدى مشروع طه حسين للماركسي المصري في المرة الأولى وكأنه تقليدي إقطاعي أو برجوازي وذلك أمام الثورية البلاغية والفخامة الشعارية للعقل الشعبوي الناهض بفصاحة واثقة من سذاجتها وسطحيتها بوصفها امتلاكا لناصية التاريخ هذا من جهة، ومن جهة ثانية تبدى مشروع العميد وكأنه هو المسؤول عن التردي باتجاه التبعية والدونية للماركسي بالمرحلة الثانية: مرحلة الانبهار باكتشاف الخصوصية والهوية والتمجيد الفولكلوري لذات الأمة (الخالدة).
وهو في كلتا الحالتين يغيّب واقع أن مشروع طه حسين يعبر عن بداهة قانون تطور العمران الطبيعي (الحضاري - المدني - العقلاني) لمجتمع سباق على باقي المجتمعات العربية، وربما كان ذلك مصدر الفتور المصري تجاه العميد في كتابنا المشترك باستثناء بهاء طاهر كما أسلفنا، ومصدر الحماس الشامي الذي يفتقد في بلدانه لبداهة قوانين العمران للتطور الطبيعي الذي عبر عنه مشروع طه حسين في قيام مجتمع الدولة الحديثة، دولة سيادة القانون والشرعية الدستورية والمؤسسات الحقوقية والتشريعية المدنية والحضارية التي تتخطى الملل والنحل باتجاه مجتمع الأمة والمواطنة، على عكس ما حدث في بلاد الشام من انقلاب على الشرعية الدستورية وتفكيكها بل وتدميرها تدميرا.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved