الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 12th December,2005 العدد : 133

الأثنين 10 ,ذو القعدة 1426

مفكرة
حوار مع الإعلام
ماجد الحجيلان

حسنًا فعل الحوار الوطني إذ تصالح مع الإعلام بعد طول خصام، فربما كان من الممكن تفهم المبررات التي سيقت لابتعاده عن الأضواء المركزة في المحاولة الأولى، لكن بعد أن اكتملت التجربة أصبح من الصعب على المتحاورين وعلى المركز نفسه أن تنبت الحوارات خارج بيئتها الطبيعية وداخل القاعات الموصدة فتفتقد الجدوى منها ويظل الحوار يجتر سجالاته اللفظية، ويتحدث المتحاورون إلى أنفسهم ولا تتحقق أهداف المركز من تكريس قيم الحوار وتحفيز المجتمع.. وغيرها من أهداف يتحدث عنها القائمون على الحوار والمشاركون فيه، لقد آن للإعلام السعودي الذي يعول الفضاء العربي مالا وإعلانا وقضايا ومتابعين؛ أن يكون نفسه وأن يستعيد بعض جمهوره ويدلل على مصداقيته وشفافيته، ولعل الاستهلال بنقل الحوار مباشرة على الهواء خلال الأيام القادمة يحسم الخطوات الوئيدة التي يمشيها التلفزيون بوجه خاص وسائر الوسائل منذ مطلع هذا العهد الجديد.
بعض الإعلام يمارس الكذب على نفسه دهرا طويلا حتى يصدق نفسه، وهو إعلام ينتج بالضرورة محاورين وضيوفا وكتابا وصحافيين يتقنون الكذب على أنفسهم أولا ثم على متابعيهم، يتحول هذا التكاذب فيما بعد إلى منهجية كاملة لها أنظمتها و(أنساقها) وخطاباتها وقواعدها، يصبح منتج العمل الإعلامي كاتبا أو صحافيا أو ضيفا أو معدا لبرنامج؛ قادرا بشكل متقن على إلباس حديثه ثوب الصرامة والإقناع وعلى أن يكذب على الوسيلة لأنها كذبت عليه، وهما يعرفان أنهما يكذبان، وهكذا هي الدائرة.. هكذا تطحن الرحا؛ يكذب الإعلام على الناس ثم يكذب المتحدثون والكتاب على الإعلام الذي يكذب عليهم.
وكان من نتيجة هذا التكاذب أن نشأ خطابان؛ خطاب إعلامي حكومي محلي يصر على تجاهل فضاءات الله الواسعة التي انفجرت في وجه المشاهد والقارئ ويغرق في بيروقراطيته وتكلفه، وخطاب إعلامي خاص يتغذى على ضعف الخطاب السابق وارتباكه ويتسرب من ثقوبه الكثيرة، ويتجلى ذلك بشكل أكثر وضوحا في البرامج التلفزيونية دائما؛ إذ يدخل الضيف إلى البرنامج الحواري في محطة خاصة ليفجر ما في نفسه ويوجه خطابا جادا حادا يمثل رأيه الحقيقي فيختلف مع هذا وذاك ويبث أوجاعه الروحية والفكرية، ويعلم أن الناس تصدقه وتتابعه، ثم يخرج إلى الأستوديو القريب منه لبرنامج في تلفزيون حكومي ليتحدث عن الموضوع ذاته بأسلوب وخطاب مستكين ومستسلم لقالبه المعد سلفا، يستخدم العبارات الجاهزة عن الاتحاد في الرأي وأن الجميع متفق على كل شيء.. الناس كلها لها رأي واحد في كل شيء من القضايا المصيرية الكبرى والحرب والسلام مرورا بالاستثمار في الأسهم والعقارات وصولا إلى مشاعر واحدة موحدة تجاه القهوة العربية والتمر واللبن.
تتناسل البرامج والصفحات الدينية بالشكل ذاته والرأي عينه لتحول الوسيلة الإعلامية إلى منبر للخطابة لا لإعلام الناس، ولا يميز مسؤولو الصحف والتلفزيون والإذاعة بين أحد وأحد، فكل من تمظهر وتوسل بالثوابت
والمسلمات أتيح له تعليق الناس من أعقابهم وزجرهم لإهمال نوافل النوافل في مجتمع ضعيف تجاه هذه الأمور، والكلام حول البرامج الدينية بوجه خاص لأن الرقابة عليها هي أهون الرقابات فبينما تدخل البرامج الحوارية السياسية والثقافية في دوامات الجدل حول ما يعرض وما يحجب؛ تتسرب في البرامج الدينية عبر المتحمسين أو المتعصبين أخطر الأطروحات ذات النتائج السلبية، ذلك أن الديني خلاف الثقافي لا يتحدث بلسان نفسه ورأيه بل بلسان المفسر والناقل والمبلغ عن الله وعن دينه، مع أن معظم الموضوعات المطروحة إعلاميا تدور حول قضايا خلافية لا يسع أحدا الجزم بأنه يمتلك حقيقتها وحده.
في الصحافة تبدو المفارقات متجلية بشكل آخر، تنشر الصحيفة فتاوى تصف الذي يتصدر لها بأنه أعلم الناس وأفقههم وتطلب من القراء أن يسألوه, فيجيب بقدر ما يستطيع من صدق مع نفسه، فيحرم الصفحة المقابلة في الصحيفة ذاتها، صفحة الأخبار تتحدث عن نشاط ملحوظ لجهات الرقابة والضبط الاجتماعي في مصادرة معدات الاستقبال الفضائية يتوسطها إعلان عن فيلم أميركي جديد بدون رقابة أو عن مسابقة ملكات الجمال على المحطة الفلانية، المشكلة هنا أن الأمر لا ينطوي على تعددية وتعايش بين الآراء وهي قيمة فضلى لو تحققت لها شروطها وأسبابها، وقد وجدت التعددية في أكثر العصور الإسلامية ازدهاراً حيث تجاورت المذاهب الفقهية مع الفنون والعلوم، وكانت مجالس الخلفاء والوجهاء أحد مظاهر هذا التنوع والتعدد؛ لكنه بكل أسى وشفقة نتيجة طبيعية للارتباك والتناقض والتعبير عن الحيرة والقلق.
في الصفحات الثقافية تقرأ عن كتب لا يمكن أن تشتريها من المكتبات التي تبيع الصحيفة ذاتها وكأنما هي تمنيك وتعللك، تجيء بالكتاب من الخارج فيصادر على الثغور، وتتساءل لماذا يسوق الكتاب والمؤلف هنا ثم يحظر، ولماذا تستعرض المسرحيات والروايات واللوحات إذا لم يكن الموقف منها متسامحاً، هل تصدر الصحيفة هنا؟ بل أين يعيش هذا المجتمع الذي تكتب له هذه الصحف؟ لا يحتاج المجتمع إلى (تدريب) على الحوار فهو يحاور نفسه منذ فترة لا بأس بها لكنه حوار يستخدم أدوات أيديولوجية يوظف العصا ويستعدي السلطات على الرأي الآخر وهو حوار سري بالرموز والأسماء المستعارة والوهمية، حوار بالتابعين والمريدين، لا يحتاج الحوار إلى تدريب بل إلى تهذيب وأن يكون معلناً في الشمس والهواء لا بالهروب والتخفي وألا يكون هدفه قمع أو تبكيت الرأي الآخر بل الوفاق أو التعايش والوصول إلى صيغ أفضل لفهم المغاير، التهذيب والإعلان والمصارحة كلها تقود إلى المصالحة.. وهي مسؤولية الإعلام ألا يتصور أحد الأطراف أنه وحده الموجود وأن الإعلام منه وإليه، فهنا يكذب الإعلام على مهنيته وعلى من يوظفه، على الإعلام أن ينقل وجهات النظر لا أن يمثلها أو يمثل أحدها، ماذا يريد الإعلام أن يكون؟ وطنياً شاملاً أو أن يكون إعلاماً لفئة واحدة لا تريد أن تعترف أن هناك غيرها.


hujailan@yahoo.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved