الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 12th December,2005 العدد : 133

الأثنين 10 ,ذو القعدة 1426

النظرية العربية عند النقاد القدامى من منظور حديث 3
نظرية ابن طباطبا
د. سلطان سعد القحطاني

قد يتساءل بعض الدارسين والمتلقين والمهتمين بالنقد الأدبي، في مراحله المتقدمة، عن نظرية ابن طباطبا النقدية، هل هي نظرية مبتكرة، أم نظرية مطورة وهل قلد أحداً ممن سبقوه في المجال النقدي؟. من حصيلة هذه التساؤلات نخرج بآراء متقاربة، وشبه متفقة من حيث قراءة ابن طباطبا، قراءة تراثية من داخل المعجم النقدي. واعتقد أن التأثير والتأثر الذي نضعه دائماً في مقدمة اهتمامنا في الدرس النقدي حالة صحية آمن بها ابن طباطبا نفسه عند نقده للسرقات، ومن المؤكد أنه تأثر بمن سبقه من النقاد والعلماء، سواء ممن عاشوا في زمانه أو من قرأهم قراءة ايجابية. ولا نشك في وجود موهبة كامنة في داخله، نماها بالقراءة والممارسة الفعلية للنقد في زمن ساعده فيه تردي الأدب في المشرق (وأعني به بلاد فارس) الذي يعكس صورة المجتمع الذي تردى بدوره، في وقت تطورت فيه العلوم الأخرى، وقد استطاع ابن طباطبا أن يطور أدوات عصره ويتخذ له أسلوباً خاصاً في النقد، فقد كانت نظريته عربية نابعة من صميم التراث العربي، وقد يكون السبب الرئيس في ذلك ما آل إليه الأدب في ذلك الزمان من انحدار نحو العامية والشعوبية، التي عالج الجاحظ العربي المعتزلي (ت 255- 869) مظاهرا، خاصة في كتابه (البيان والتبيين) الذي رد فيه على تيار الشعوبية، وتبعه في ذلك اتباع مدرسة (الجاحظية) ذات الأسلوب المتميز، فنظرية ابن طباطبا تعتمد الأسس العربية الخالصة في الموروث العربي، ولم يكن ذلك بدعاً أو ميزة امتاز بها ابن طباطبا فقط، فما تميز به في ذلك العصر اعتماده على آرائه المستقلة وذوقه، كشاعر مبدع أولاً، وعلى القياس ثانياً، فقد كان يعتمد على اللفظ والقياس مقترناً بالذوق الفني، لذلك جاء نقده متعادلاً بين التنظير والتطبيق، وهذا تطور في النظرية العربية، وقد سار على هذا النهج ابن جني (ت 392-1002) في اللغة عن طريق الاشتقاق والقياس، حيث زاد فيه على استاذه أبي علي الفارسي، وهما بعد ابن طباطبا، لذلك جاء نقده تطبيقاً مختصراً، وقد يكون السبب أن الكتاب جاء جواباً على سؤال وجه إليه من رجل يدعى أبا القاسم سعد بن عبد الرحمن، سأله عن الكيفية التي يمكنه من خلالها قول الشعر، لذلك اعتمد على الاختصار والتركيز على الشعر المؤثر في النفس الكامل الصفات. ولعلنا نبرر ذلك بما ذكرناه في المقدمة من تردي الشعر إلى نفاق بارد أو تسول مصطنع أقرب إلى المنظوم منه إلى الفن النابع من القريحة. ويؤكد ما ذهبنا إليه قوله في مواضع متعددة من الكتاب: (وكل ما أودعناه في هذا الكتاب أمثلة يقاس عليها أشكالها، ومنها مقنع لمن دق نظره ولطف فهمه، ولو ذهبنا نستقصي كل باب من الأبواب التي أودعناها كتابنا لطال النظر فيه، فاستشهدنا بالجزء على الكل وآثرنا الاختصار على التطويل). وهذا دليل على أن الكتاب موجه إلى فئة معينة لا تحتاج إلى التطويل والشرح المكرر، فاختياراته لم تكن معقدة مثلما كان الأدب معقداً في ذلك الزمان، وخاصة منه النثر الذي أسرف الكتاب في تحميله الكثير من السجع. ومن المؤكد أن ابن طباطبا يعتمد التطبيق وقد أشار إلى ذلك في مقدمته التي ذكرناها. والكتاب في نظريته عبارة عن جواب على سؤال متعلم، ولذلك لم يأت الكتاب منتظماً على أصول البحث العلمي، ومع ذلك تبقى النظرية واضحة ومحددة، بالرغم من أنه يكرر بعض الآراء وينتقل من موضوع إلى آخر ثم يعود إلى نفس الموضوع مرة ثانية، وينتقل من موضوع إلى آخر حسب ما يراه هو.. (ويبدو أن المؤلف لم يرتب كتابه ويبوبه تبويباً منطقياً، بل كان ينتقل من غرض إلى غرض ويتكلم عن الموضوع في مكان ثم يعود إليه في مكان آخر، ولذلك فقد الكتاب التنسيق والترتيب. ومن المؤكد أن ابن طباطبا تأثر بمن سبقه من النقاد والمؤرخين للشعر العربي، وله آراء تتفق معهم حيناً وتختلف في أحيان أخرى، ولكن من المؤكد أن له منهجاً مستقلاً عن مناهجهم في التنظير والتطبيق، ويتفق في الكثير من الأحيان معهم في تقديمه للقصائد التي اجتزأ منها شواهده ومقدمته التي شرح فيها هدفه من تأليف الكتاب. وقد اختلف النقاد حول هذه الجزئية من اختصاراته واكتفائه بالجزء عن الكل، فالنقد عند ابن طباطبا يسلك مسلك المعيارية، أي القياس الدقيق، وبالرغم من تحديده في مسألة القياس إلا أنه يعول في نقده على الذوق، فإذا قيس الكتاب بصغر حجمه ظهرت براعة ابن طباطبا في دقة تركيزه وسعة ثقافته، فقد حوى ما يقارب من ثمانمائة بيت من الشعر لما يزيد على مئة وعشرين شاعراً، بل ان موسوعة الشعر ذكرت أن كتاب (عيار الشعر) احتوى على 888 بيتاً.
ويرى الباحثون علمية ابن طباطبا وحياديته، فلم يتعصب لأحد من الشعراء القدماء ولا المحدثين، بل يورد لهؤلاء ولأولئك، مع بيان ميزة شعر كل منهما، وخصائص تفوق أحدهما على الآخر. ومن المقارنات التي سنورد بعضاً منها يتضح لنا مدى حياديته، وتميزه عن النقاد الذين سبقوه وسنورد رأيين مختلفين حول توافقه أو خلافه: يرى الدكتور محمد زغلول سلام أن ابن طباطبا قسم كتابه إلى قسمين أساسيين مقدمة ومتن ويشبه في تقديمه للكتاب بمقدمة مستفيضة بعض النقاد الذين اعتادوا ذلك فجاءت مقدماتهم أهم بكثير من متون كتبهم، إذ أظهرت تلك المقدمات تفصيل آرائهم في النقد، ومنهم ابن قتيبة صاحب مقدمتي الشعر والشعراء وأدب الكاتب، والمرزوقي صاحب مقدمة الحماسة. ولا غرابة أن يختلف باحث آخر مع الدكتور سلام، الذي حقق الكتاب، بالاشتراك مع الدكتور طه الحاجري 1956م ويرى الدكتور محمد الربيع أن هذه المقارنة غير صحيحة، (وأعتقد أن هذا التشبيه وتلك المقارنة غير صحيحين، فمقدمة ابن قتيبة لكتابه الشعر والشعراء مقدمة مستقلة بنفسها وضعها كمدخل لكتابه أوضح فيها آراءه النقدية قبل أن يشرع في تراجم الشعراء، ومقدمة المرزوقي أوضح فيها آراءه النقدية والأدبية قبل أن يشرع في شرح أبيات الحماسة، أما ابن طباطبا فلا أعرف حدود المقدمة التي يعنيها الدكتور سلام، والتي قال عنها مستفيضة وأهم من الكتاب). ونستطيع أن نقول أن ابن طباطبا استفاد من النقاد الذين سبقوه، لكنه صاحب نظرية مستقلة عمادها الذوق، ونضيف إلى ملاحظة الدكتور الربيع ملاحظة أخرى، تلك ان المرزوقي جاء بعد ابن طباطبا بزمن، واستفاد من نظريته، كما سنأتي عيله لاحقاً، فكيف يقارن الدكتور سلام ابن طباطبا بشخص لم يوجد بعد؟! وبما أن ابن طباطبا وضع نظريته على معايير ومقاييس معينة فعلينا ان نقرأ نظريته من خلال هذه المعيارية/ النظرية، وما مدى انطباق كل منهما على الآخر، فقد تحدث عن المقاييس والمعايير التي يمكن بواسطتها الحكم على الشعر وتمييز جيده من رديئه ونستطيع أن نفرعها في نقطتين: الأولى: العقل - يرى ابن طباطبا أن أول معيار يعرف به الشعر الجيد من الرديء هو العقل الثاقب والفهم الواعي المدرك لأسرار الجمال ومواطن القوة، فهذا الفهم الثاقب هو الحكم والمعيار الدقيق لمعرفة جيد الشعر من رديئه يقول: (وعيار الشعر أن يودر على الفهم الثاقب مما قبله واصطفاه فهو وافٍ، وما مجه ونفاه فهو ناقص) ويعلل الفهم الثاقب بمعطيات الحواس الخمس، في تذوقها، ومدى قبولها أو رفضها للنص، ومدى القبول أو الرفض متوقف على الحالة النفسية والخلفية الثقافية للمتلقي. وابن طباطبا لم يترك الأمر يطول والتساؤل يأخذ مجرى غير ما أراده، فاختصاراته وتركيزه جعلت متابعه يشعر بسرعة المفاجأة الايجابية، يقول (فإذا كان الكلام الوارد على الفهم منظوماً مصفى من كدر العي، مقوماً من أود الخطأ واللحن، سالماً من جور التأليف، موزوناً بميزان الصواب لفظاً ومعنى وتركيباً، اتسعت طرقه ولطفت موالجه فقبله الفهم وارتاح له وأنس به، وإذا ورد عليه ضد هذه الصفة وكان باطلاً محالاً مجهولاً انسدت طرقه ونفاه واستوحش عند حسه به، وصدئ له وتأذى به كتأذي سائر الحواس بما يخالفها على ما شرحناه) ويلخص ذلك في أن للشعر الموزون ايقاعاً يطرب الفهم لصوابه، في معادلة تتكون من (تركيب الوزن وصحة المعنى وسلامة اللفظ) ويكاد هذا البند من النظرية أن يتكرر عند النقاد القدامى، باستثناء الذين يزنون الكلام بالموازين النحوية والبلاغية، فعلة النقد دخول المصطلح النحوي والبلاغي الذي سبب الجمود الفكري، وقد تنبه إلى ذلك حسان بن ثابت - رضي الله عنه في بيت واحد، في قوله:
وإن اشعر بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved