الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 12th December,2005 العدد : 133

الأثنين 10 ,ذو القعدة 1426

قراءة في (قارورة) يوسف المحيميد
حين تكون الذات مقهورة«1»
د. أحمد صبرة

بينما يبدو مهماً أن نقول: إن للمرء طبيعته، فإن الأكثر أهمية القول: إنه ينشئ طبيعته، أو بشكل أكثر بساطة إنه ينتج ذاته.
بيرجر ولوكمان
إن الذات ليست شيئاً عضوياً له مكان محدد، إنها تأثير درامي يظهر منتشراً من المشهد المعروض.
جوفمان
تطرح الرواية المسرودة بضمير المتكلم إشكالات ذات شأن داخل النظرية النقدية، حلت بعضها السرديات حين ميزت بين السارد البطل والسارد المصاحب والسارد المُعلِق، وبقيت أخرى دون حل بسبب أن استيلاء السرديات على نظرية الرواية مدة من الزمن حال دون طرح هذه الإشكالات التي لا تستطيع السرديات -بسبب طبيعتها البنيوية - الإجابة عنها بمعزل عن الاستعانة بحقول معرفية أخرى، لعل أهم هذه الإشكالات أن ضمير المتكلم في هذه الرواية يحيل إلى ذات لا يمكن الإمساك بها وفق آليات التحليل السردي، ومن ثم فإن الحديث عنها يترك من الأسئلة أكثر مما يقدم من إجابات، فما هذه الذات التي تظهر حين يكون السارد بطلاً على وجه الخصوص؟ وما علاقتها بمؤلف الرواية؟ وإذا كانت الذات الروائية تُنتج في عالم متخيل، فهل هناك فروق أساسية بينها وبين الذات في العالم الواقعي؟ ثم ما المرجعية التي نحيل إليها الذات حين نريد أن نتصورها؟ هل هي مرجعية العالم الواقعي، أم مرجعية العالم المتخيل؟ وإذا كان المؤلف ذكراً والسارد أنثى -أو العكس- كما في رواية القارورة ليوسف المحيميد، فهل يمكن تجاوز هذا التعارض الجنوسي؟ كيف تتحول الذات الواقعية الذكر إلى ذات تخيلية أنثى؟ هذا إذا كان هناك تحول أصلاً، وهل يمكن أن تنشئ الذات الواقعية ذاتاً متخيلة؟ ما طبيعة الحبل السري الذي يربط بين الذاتين؟ هل يمكن الإمساك بالذات وفق آليات غير آليات التحليل السردي؟ ما الذات؟ يتصور بعض علماء النفس الذات أنها مجموعة من الشعور والعمليات التأملية التي يُستدل عنها من خلال سلوكها، أو من خلال الخبرات والاتصالات التي تكونها نتيجة احتكاكها بالآخرين، ويتصورها آخرون أنها تتكون من خلال اتصالها بالآخرين، التصوران يحيلان إلى مفهومين مختلفين للذات: مفهوم يرى أنها جوهر كامن في الفرد، وآخر لا يرى أنها جوهر، كلا المفهومين تترتب عليه نتائج مهمة في التعامل مع الذات، وفي رؤية العالم الذي يحتويها.
الذات في رواية القارورة
ما تأثير ذلك على فهم الروايات التي تروى بالضمير الشخصي؟ كيف يمكن التعامل مع الذات المتخيلة في الرواية؟ بعض الاتجاهات لا ترى فرقاً كبيراً بين الذات الحقيقية والذات المتخيلة على الأقل في الأسلوب الذي تعرض به كل منهما نفسها للآخرين، لكن هناك من يرى فارقاً أساسياً بينهما، فالذات المتخيلة تراها كاملة في حدود صفحات الرواية التي تقرؤها، أما الذات الحقيقية فلا تراها إلا متجزئة، ثم إن الذات المتخيلة لا تعرف عنها إلا ما تقوله هي عن نفسها، وأما استكشاف ردود أفعال الآخرين تجاهها فعملية استقراء شديدة التعقيد من داخل النص، أما الذات الحقيقية فيمكن ببساطة معرفة ما تقوله هي عن نفسها مقارنة بما يقوله الآخرون عنها، بمعنى أن سردية الذات الحقيقية سردية حية، بينما سردية الذات المتخيلة سردية جامدة، من ناحية أخرى فإن لغة الذات المتخيلة أشد تنظيماً وولوجاً لمناطق في الأعماق قد لا تصل إليها لغة الذات الحقيقية بيسر.
كيف يمكن الإفادة من هذه المفاهيم في التعرف على الذات الروائية في رواية (القارورة) ليوسف المحيميد ( )، وهي رواية فيها إشكالية أساسية، لأن السارد في الرواية امرأة، بينما مؤلف الرواية رجل( )، أي أننا هنا أمام ذات حقيقية (ذكر) أنتجت ذاتاً متخيلة (أنثى) فكيف يمكن تفسير هذا الأمر؟ وماذا يعني الحديث باسم المرأة في السياق الاجتماعي والروائي والنفسي؟ () هذان سؤالان تجاوزهما معظم من كتبوا عن الرواية.
لا تسيطر الساردة على كل فصول الرواية (41 فصلاً)، فلها منها خمسة وعشرون فصلاً، والباقي مروي بضمير الغائب، كتب المؤلف الرواية ما بين نوفمبر 2002م ومارس 2003م، لكنه اختار لها زمناً ما بين 13 يوليو 1990م ومارس أو إبريل 1991م وقت أن غزا صدام حسين الكويت واستولى عليها، يبدو الغزو حاضراً بقوة في ثنايا السرد، لكنه ليس (التيمة) الأساسية فيه، لكن إذا كان ما بين يوليو 1990م وإبريل 1991م هو زمن الحدث، فإنه ليس زمن السرد، لقد اختارت الساردة (منيرة) أن تحكي قصتها بعد زمن ليس محدداً، تسترجع فيه الأحداث وتعيد تقييمها، كما اختارت الرياض لتكون مكان الأحداث.
بدأ المؤلف روايته بنص موازٍ ظهر في عبارتين جاءتا في صفحتين متتاليتين، الأولى (إن أي شبه بين أشخاص وأحداث هذه الرواية وبين أشخاص حقيقيين وأحداث حقيقية هو مجرد مصادفة) والثانية اقتباس من نيتشه (الحب وسيلته الحرب وخلفيته العميقة الحقد القاتل الذي يكنّه كل جنس للآخر) في العبارة الأولى يلعب المؤلف لعبة الواقعي - التخييلي من خلال مستويين من الخطاب: مستوى معلن يؤكد على التخييلي وينفي الواقعي، ومستوى مضمر يؤكد على العكس، يطلب المؤلف من القارئ -الذي لا يحتاج إلى ذلك- أن يقرأ الرواية قراءة تخييلية ولا يعقد مقارنات بين شخوصها وشخوص حقيقية يمكن أن يراها في الواقع، وهي جملة لا تُكتب إلا إذا كان شخوص الرواية أسماء كبيرة في مجتمع الرواية، وحوادثها ذات تأثير كبير على قطاع واسع من الناس، فإذا عرفت أن شخوص الرواية ليسوا كذلك، بل هم مجموعة من البشر العاديين الذين لا تكاد تميزهم إذا ما رأيتهم في الطرقات، وحوادثها ذات تأثير محدود جدا على عدد قليل في مجتمع الرواية، فكأن المؤلف هنا يطلب في خطابه المضمر أن ينظر القارئ حوله ليعقد مقارنات كثيرة بين شخوص الرواية وأي شخوص يمكن أن يراها من حوله، يتقدم المؤلف في العبارة الثانية خطوة إضافية نحو (التيمة الأساسية) في الرواية فيلخصها تلخيصاً مدهشاً، بل يمكن القول: إن الرواية بأكملها ترجمة درامية لعبارة نيتشه.


يتبع

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved