الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 12th December,2005 العدد : 133

الأثنين 10 ,ذو القعدة 1426

قصة قصيرة
كائن في مهب الريح
عبدالله محمد النصر
في طريق الجامع المُعَبد منذ ربع قرن.. وقف أمامي ذي تسعة أصياف.. بقسمات قمحية جارت عليها شمس الهجير فبدت أشد حمرة.. يحمل شعراً منسدلاً عنوة تلاطمت عليه أكوام الغبار، تلاطمها على أغصان شجر عارٍ في فصل الصيف.. وقف منهاراً كشتلة في مهب الرياح.. ذابل كوردة مقطوفة.. يلهث إثر جريه الصاروخي إلي.. حتى أنني أكاد أسمع ضربات قلبه المتلاحقة.. قال بصوت متقطع واضعاً يده اليسرى على صدره:
- آه.. آه.. آه.. الله.. الله يخليك..
لم يمهله اللهاث ليكمل.. ركع على ركبتيه الباديتين من سرواله (الجينز) الممزق كمصلٍ أحسن ركوعه.. يطلق من فمه استغاثة صدره النحيل.. أذهلني فعله.. فأمسكت بذراعه الأيسر، وسألته:
- ماذا بك.. يا ولد.. ومن أنت؟
بالكاد استقامت وقفته الواهنة.. فرش أصابع يده اليمنى الضعيفة أمامي.. رأيت في راحتها قطعة مال معدنية فئة ربع ريال وقلماً فضياً ليس ذا قيمة.. بادرته بسؤال آخر:
- ماذا تريد؟
أجاب بتوسل بعد أن استجمع قسطاً من قواه وهدوء قلبه:
- الله يخليك.. أريد أن تأخذ هذا القلم وتكمل لي بقية الريال لأشتري لي غداء.. الله يخليك.
باكفهرار، صرخت في وجهه بسخط:
- يالك من صبي غبي، أحمق.. يكاد أن يتوقف قلبك من أجل هذا المبلغ التافه.. هيا اغرب عن وجهي.. هيا.. نظر إلي شزراً، نظرة ناحت في صخر جبلي.. لم أحتمل نظرته، فمشيت عنه خطوات، ثم التفت إليه.. وجدته لم يتحرك.. فتوقفت وسألته وملء وجهي تجاعيد:
- لم يطب لك أحد من بين أولئك الذاهبين، إلا أنا؟.. صحيح.. أنتم الشحاتون تغركم الشخصيات المهندمة.
لم يتحرك، فبادرته:
- قلت لك ليس لدي مال.. ولا أريد شراء هذا القلم البالي منك.. هيا اذهب.. ولا تقف تناظرني هكذا!
ما زال واقفاً يقاسمني النظرات.. فرأيته في مخيلتي تمثالاً مجسداً تجمع كل اجزائه قسوة البشرية المسلوبة ومآسيها.. لكنني تجاهلته.. ربما لأني اعتدت صورته، أو لأني نسبت إليه الكذب كالمدعين حين يتمثلون بذوي الحاجة والعوز.. فمشيت عنه خطوات.. وكأنما يئس مني، فأراد الذهاب.. لكنني أحببت أن أمازحه قليلاً.. عدت إليه وناديته قائلاً:
- تعال يا ولد.. ما رأيك أن تستغني عن المال والقلم، وتعطيني إياهما، دون مقابل؟
فلم يفكر ولم يمهل، بل مده بهما إلي، وعلى وجهه ابتسامة لطيفة، وقال بهدوء:
- تفضل.. خذ.. لا أريدهما.
أخذتهما.. وضعتهما في جيبي.. ومشيت إلى باب الجامع مستجلياً ردة فعله تجاه مشهد أمتثله بأخذ ما لديه.. تخيلت بأنه سيتراجع عن قراره وسيلحق بي.. لكنه لم يفعل.. التفت إليه.. رأيته يسير بالاتجاه المعاكس يمارس طبيعته البريئة بهدوء.. تبسمت بخجل.. شعرت بكرمه رغم الحاجة، بل أحسست بذكائه أيضاً.. انتباني شعور غريب حلل قسوة قلبي.. فاغرورقت عيناي، ثم عدت إليه.. ناديته مستخرجاً من جيبي فئة خمسة ريالات وقدمتها إليه بمعية الربع ريال والقلم.. نظر إلي هنيهات.. مما جعل عيني تسدل أجفانها.. أخذ كل ذلك بتردد، وشكرني مبتسماً.. مسحت على رأسه ثم تركته مسرعاً.. توجهت إلى الجامع بجسم كاد يحترق من الخجل.. فإذا بي مكرراً أسمع نداءاته لي.. نظرت إليه.. اقترب مني مسرعاً قائلاً:
- يا حاج.. خذه هذه المئة ريال.. فقد سقطت من جيبك الآن!!..
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved