الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 13th February,2006 العدد : 140

الأثنين 14 ,محرم 1427

مساقات
مدينة السحاب بلا سحاب!

د. عبد الله الفَيْفي
إن التعالق بين الفصول الثلاثة التي يدرجها (أبو دهمان) تحت العناوين الثلاثة: «قوس قزح»، «ذاكرة الماء»، و«مدينة السحاب» - من نصه السردي «الحزام» - هو تعالقٌ رمزيّ الدلالة، يشبه - في إشارته إلى النقلة الثقافية والحضارية التي شارفها الكاتب - ما تصوّره الآية القرآنية الكريمة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ، فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ، مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ، لِنُبَيِّنَ لَكُمْ، وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ، إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً. وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً، فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ، اهْتَزَّتْ، وَرَبَتْ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}. (سورة الحج: آية 5). فسيأتي الفصل المتعلّق ب«مدينة السحاب» استكمالاً لذلك الاهتزاز الخصب، الذي أصاب بطل النصّ، وأصاب أهل القرية من حوله، في كل مقوّمات حياتهم الذهنية والنفسية والاجتماعية.
لقد كانت أولى صدمات الفتى، وهو يدخل مدينة السحاب - هذا الاسم الذي يذكّر القارئ بأسماء المدن الغربية، ك «مدينة النور»، أو «مدينة الضباب» - أن انكسرت محبرته ولوّثت ملابسه وكلّ ما اشتراه له أبوه. فكانت تلك لديه كارثة لم يُزلها إلا اختراع سحريّ يزيل الحبر عن كل شيء، وكان أيضاً من صناعة سويدية، كالحكيم الذي عاد من قبل إلى القرية. والمحبرة المكسورة ها هنا وإزالة آثارها بالمزيل السويديّ هو إيماء إلى إزالة آثار الثقافة التقليدية بالوصول إلى «مدينة السحاب».
أمّا الموقف الثاني، فقد كان في اكتشاف الفتى أن فنون المدينة أغنى وأغزر من فنون القرية، على أنها فنون جنون. (ص101-102). وهو جنون كانت قد غزت السارد لَوْثَتُه من قبل، منذ أن كان ما يزال في القرية، كما تقدم.
وفي المدينة أيضاً عرف الفتى جوع البطن، وجوعاً آخر، وهو يشاهد الممرضات الجميلات كل صباح، مما لم يألفه في القرية. وإذ يستذكر أسطورة حزام عن مدائن الكنز التي تمثّل أصل نشوء المدن، كان يَعُدُّ ما يكتنزه المستشفى المجاور له رمزاً لذاك الكنز، بما يحتويه من إطلالة أعمق على أجواء المدينة الحديثة، في علمها وتحرّرها. (ص103).
هنالك يستذكر الراوي شظف القرية وهي تعالج جراحها بالبول والتراب والشمس، وتستخدم السكاكين في تخليص الجسم من الأجسام الغريبة، كالشوك، أو في تزويدها بأجسام أخرى، حينما تستخدم الآلة نفسها لذبح الماشية.
لقد اكتشف الفتى في المدينة جسمه لأول مرة من خلال اكتشافه نموّ أظافره، التي كانت أداته الأخرى إلى جانب السكاكين في القرية، مثلما سيكتشف بقية أجزاء الجسد من بعد في (باريس)! وكأنما جسد المرء في القرية يصبح جزءاً من أجساد القرية أو من جسد الطبيعة بمجملها، دون شعوره باستقلال. وهو ما أخذ السارد يشعر بتحرّره من وطأته إبّان إقامته أول مرة في مدينة.
إن قرب الفتى وأصحابه من (الشمس) في المدينة - برمزية الشمس التي سبق الوقوف عليها في هذه القراءة - لم يكن، كما عبّر السارد، خيراً كله؛ فلقد عانى، إضافة إلى الجوع، جفاف المدينة مقارنة بالقرية، كما عانى نظام المدينة في شتى تفاصيلها؛ ذلك النظام الذي صوّر تأثيره في طبائع الناس وسلوكهم، رجالاً ونساءً، وهو ما كان يجرحه بعمق، ولا سيما وقد كان في هذا الطور، وبعد أن اختتن، يعدّ نفسه رجلاً، حسب الأعراف القَبَلِيَّة. (ص 104-105).
هذا إضافة إلى التجربة الاقتصادية التي صُدم بها في المدينة التي لا مجّانية فيها لشيء، ولا أمل في الحياة بها في ظلّ نظام كالنظام الذي عهده في القرية، من الإيثار والتعاون والتكاتف. فحتى ذلك القريب الثري الذي كان سبباً في الفتق الذي أصاب أبا السارد لم يجد لديه ما يرجوه، وإن على سبيل التعويض، عمّا حدث لأبيه بسبب ما حمله له من أكياس القمح الثقيلة. إن ذلك القرويّ الثري الذي تحوّل إلى مدنيّ قد انسلخ حتى من دينه وهو يقسم على المصحف أنه لا يملك ريالاً واحداً في جيبه. (ص 106). ولم تَكْفِ المدينةَ هذه الحلقةُ من ترويض نفسية القرويّ، ببراءتها وسذاجتها - إنْ بعامل السنّ أو بعامل الخلفيّة الاجتماعية المختلفة - بل ما أن عاد الفتى من رحلته قاصداً ذلك القريب الثريّ حتى أوقعته المدينة في تهمة سرقة جاره، وأنه إنما ذهب ليُخفي ما سرق لدى قريبه في مدينة أخرى.
يتذكّر الفتى أباه وأمّه وجملة «لا تنس الله!»، التي غرستها أُمُّه فيه قبل أن يسافر، فيدعو الله أن يكشف عنه تلك التهمة، التي كان يشغله في عاقبتها ما هو أكثر من السجن أو قطع اليد، وهو أن تعصف بمستقبله، وهو النموذج الجديد الذي أُعجب به أهل القرية في نجاحه الدراسي، على الرغم من عدم تمتّعه بمقاييس القرية في الشجاعة وقوة الشكيمة. واستجاب الله، فشُلّ المُدّعي لمّا اكتشف أن ابنه هو السارق، فجاء يطلب العفو.
ابن المدينة هو سارق أبيه إذن وليس ابن القرية! (ص 107-108).
لقد كانت هذه المرحلة - كما قال السارد - هي أتعس مراحل حياته. وهو يكتشف المرة تلو المرة تبدّل أحوال القرويين في المدينة، حتى أولئك الذين كانوا يدينون لأبيه بمعروف. فها هو ذا يقصد أحد أقربائه الآخرين في المدينة نفسها، كان قد باع - كما قال - «حتى نصيبه من الرياح في قريته قبل أن يهاجر» (ص 109)، فما كانت حالته معه بأحسن من سابقتها، إذ ما كان من ذلك الرجل إلا أن ذهب بالفتى إلى صاحب متجر من القرى المجاورة ليَكْفَلَهُ، فما كان من هذا الأخير إلا أن سخر من الفتى وهو لا يحمل مالاً كالرجال، ممّا أثار حفيظة الفتى وأصدقائه إزاء هذه الإهانة التي تقذف القريةَ بها المدينةُ، فخرجوا بسكاكينهم لتصفية الحساب مع صاحب ذلك المتجر، لولا أن حال جارُهم - الذي ذكر السارد أنه كان يعرف تاريخ القرية ومقاومتها للاستعمار العثماني - دون نواياهم، فعرض عليهم شراء ما يحتاجون دَيناً إلى نهاية العام، حين يستلمون مخصّصاتهم، وفق شروط وضعها. وقد أبدى لهم كرماً أيضاً باستضافته إيّاهم ومنحهم ساعةً منبّهة، لكنه كان كرماً كذلك وفق شروط المدينة ومقتضياتها المادية. (ص110- 112).
وهكذا، فإن مدينة السحاب بلا سحاب، ولكنها مع ذلك كانت تحمل للسارد معنى المستقبل الذي يحلم به ويحلم به أهل القرية. لقد كان التحوّل من القرية إلى المدينة بمثابة ذلك التحوّل الأسطوري بين عالم الجِنّ وعالم الإنس الذي حكت عنه (أُمّ السّارد) في أحد فصول النصّ بعنوان «زمن الجِنّ». لقد علّمت المدينة الفتى السرقةَ تحت وطأة العَوَز، تلك الجريمة التي برأه الله منها حينما اتّهمه جاره بها. فها هو، رغم تفوّقه في الموادّ الدينية في فصله، يسرق الأحذية من المسجد، بما فيها أحذية مدرّسيه، لنفسه تارة، ولأُمّة تارة أخرى. كيف لا، وهو يتهيّأ ليلعب دور أبيه، سيّد البيت، دون أن يلوي على شيء يؤهّله لهذا الدور. (والقراءة مستمرة، بمشيئة الله).
ومضة:
.. وأمامي الساعةُ
تبكي تبكي
الليل رواق من صمتٍ أسودْ
ومصابيح هطلتْ حولي
هل تكفيني
لإنارة صمتِ الليلِ
وكفكفة الوقت الباقي؟!


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved