الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 13th February,2006 العدد : 140

الأثنين 14 ,محرم 1427

الأشكال الشعرية:
هجرات ومحطات غائبة (1 ـ 3)

*د.سعد البازعي
في أواخر القرن الثامن عشر جاء المستشرق الإنجليزي وليم جونز بما اعتبره إضافة مهمة للشعرية الإنجليزية والأوروبية في عصره وذلك بنشر قصائد من الأدب الفارسي والعربي ضمن تعريفه ببعض آداب الشرق ولغاته. وكان من أبرز ما عرّف به جونز لتبرير إعجابه بنتاج الشرق المعلقات الجاهلية التي ترجم سبعاً منها ونشرها عام 1782م مستخدماً في تعريفها صفتين إحداهما العربية المعروفة، أي المعلقة، والأخرى كلاسيكية (يونانية / رومانية) هي ال(أود) (مطلقاً عليها the Seven Odes)، أو (الأغاني السبع)، والأود شكل شعري نشأ في اليونان وتطور عبر العصور ليشيع في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بين الشعراء الرومانسيين الأوروبيين على النحو الذي نجده مثلاً لدى الألماني شللر في قصيدته أغنية إلى الفرح والإنجليزي شيللي في قصيدته أغنية إلى الريح الغربية.
وجد جونز في المعلقات قصائد تنتمي إلى الطبيعة في نقائها الأول وكما استعادها ما عرف عندئذٍ بالشعر الرعوي، فالجزيرة العربية، واليمن الذي طالما عرف باليمن السعيد، حسب جونز، تبدو البلد الوحيد الذي يمكننا فيه وبشكل مناسب أن نرسم مشهداً للشعر الرعوي، مضيفاً ان الآسيويين يتفوقون على سكان أقاليمنا الباردة بحيوية خيالهم، وثراء ابتكارهم... لقد كان من الصعب أن نصدق مقدار الولع الذي يحمله العرب للشعر، والاحترام الذي يظهرونه للشعراء لو لم يؤكد ذلك كتاب ذوو مصداقية كبيرة.
الانتماء إلى الشعر الرعوي كان أحد الأسباب الرئيسة وراء اهتمام المستشرق الإنجليزي بالشعر العربي لأن الفترة التي كان جونز ناشطاً خلالها كانت تمثل إرهاصات ما عرف فيما بعد بالشعر الرومانسي في إنجلترا بوجه خاص.
فجونز على الرغم من انتمائه إلى العصر الاتباعي أو الكلاسيكي المحدث، العصر الذي ينسب إليه جل القرن الثامن عشر في إنجلترا، وعلى الرغم من انتمائه في فترة من الفترات إلى الدائرة المحيطة بعميد الأدب الإنجليزي وعميد الاتباعية الأدبية آنذاك، الدكتور صموئيل جونسون، كان أيضاً، وبسبب تعرفه على الثقافات الشرقية على ما يبدو، من الأصوات القليلة التي كانت أكثر إحساساً بالتغير القادم وأرادت التأسيس له وتمهيد الطريق لقدومه بطرح نماذج شعرية خارجة عن الأنماط الأوروبية المهيمنة.
ومما يؤكد ذلك أن جونز عمق احتفاءه بالشعر الشرقي، العربي منه بوجه خاص، بوصفه جرعة مضادة للهيمنة الهائلة التي اتسم بها حضور الشعر اليوناني والروماني واندفاع الشعراء لمحاكاته في أعمالهم. فكأن الشعر العربي جاء عندئذٍ ليمثل صوتاً حداثياً وانفتاحياً خارجاً على السائد. فالإنسان، كما أكد المستشرق الإنجليزي، في نقد واضح للاتكاء على النموذج اليوناني / الروماني، قادر على الوصول إلى جماليات الشعر بالفطرة ومن الاتصال المباشر بالطبيعة، كما هو الحال مع شعراء العربية الأوائل.
وإذا لم تكن لغة الإنسان الأولى شعرية وموسيقية في آن واحد فإن من المؤكد على الأقل أنه في البلاد التي لا يبدو أن أي نوع من المحاكاة يحظى فيها بالإعجاب، فإن ثمة شعراء وموسيقيين سواء بالسليقة أو بالتعلم، كما في الشعوب المحمدية، حيث تمنع القوانين النحت والرسم، وحيث لا يعرف الناس أي نوع من الشعر الدرامي، ولكن حيث تحظى الفنون الممتعة، فنون التعبير عن العواطف بالشعر الذي تدعمه الموسيقى باهتمام يصل إلى حد الحماسة.
من الصعب ألا نقرأ في هذا الكلام نقداً للشعرية السائدة في العصر الاتباعي ومحاولة لفتح فضاء جديد يسعى لتكريس تعددية ثقافية كانت لما تزال غائبة أو ضعيفة الحضور في الأفق الشعري والثقافي الأوروبي، الحضور الذي جاء العصر الرومانسي ليعمقه ويوسع أمداءه لاسيما على المستوى الإبداعي بالالتفات إلى آداب ما نعرفه الآن بالشرق الأوسط، آداب العرب والفرس بالدرجة الأولى. فقد كان ذلك هو العصر الذي تعرفت فيه أوروبا على ألف ليلة وليلة، ضمن أعمال أخرى، واحتفت بها ترجمة ومحاكاة واستلهاماً.
وإذا كان ذلك كذلك فإن من الصعب أيضاً ألا نقرأ في كلام جونز ما يذكر بأهمية الأشكال الشعرية - والإبداعية عموما - القادمة من الخارج بوصفها محرضات على التغير والنمو. صحيح أن الثقافات، ومنها الإبداع الشعري، لا تعتمد بشكل مطلق على محرضات خارجية لكي تنمو من طور إلى طور، لكن من الصحيح أيضاً أن المتأمل في تطور الثقافات المختلفة سيجد الشواهد الكثيرة على الدور الحيوي الذي تؤديه تلك الأشكال الغريبة إذ تهاجر من بيئاتها لتستقر في بيئات أخرى في محطات لا تلبث في الغالب أن تحتضنها وتتبناها لتصيرها من بعض نسيجها الثقافي ومن مكوناتها الإبداعية.
بل إن تاريخ الثقافات هو تاريخ تعارف وتلاقح قد لا يؤدي كله إلى الامتزاج لكن الكثير منه هو ما يصير مزيجاً بالفعل. ذلك ما يؤكده الدرس المقارن عبر عشرات السنين وآلاف الدراسات التي تبحث وتتأمل في آليات التغير الإبداعي ومحرضاته وأشكاله. لكن ما الذي يعنيه ذلك كله حين نتأمل في واقع الشعر العربي الحديث؟
ما دور الأشكال الشعرية القادمة من بيئات أخرى في تغيير الفضاء الشعري؟
وما الذي ينتج عن غياب تلك الأشكال أو انحصارها في مصدر واحد؟
ومع أن المقام ليس مقام تأريخ لحركة الشعر العربي منذ مطلع ما يعرف بعصر النهضة، ومع أن المقام لا يتسع لتناول تلك الحركة بما هي عليه من اتساع زماناً ومكاناً فإن من المعروف هو أن تلك الحركة منذ البارودي وشوقي هي حركة تتسم بالتوتر ما بين ارتداد إلى الأساليب الشعرية العربية القديمة، الأساليب التي أراد الإنجليزي جونز الإفادة منها، والاندفاع إلى أشكال شعرية قادمة من أوروبا مثلت في ذلك الحين أنموذج التحضر الوحيد.
فبينما عاد البارودي وشوقي إلى أساليب الشعر الجاهلي والأموي والعباسي في الكثير من أعمالهما، نجد أن هذا الأخير قد سعى أيضاً إلى أوروبا يحاول الإفادة منها تدعمه بعض توجهات نقدية تدعو إلى الانفتاح والتعرف على ما لدى الآخر.
وكان شوقي في ذلك مؤسساً لحركة اندفاع ما تزال قائمة لقراءة الشعر الأوروبي والغربي عموماً والسعي إلى التحاور مع بعض أشكاله وتقنياته الشعرية وتوظيفها على أنحاء مختلفة، على النحو الذي نعرف مما فعله الرومانسيون وشعراء التفعيلة ثم قصيدة النثر إلى غير ذلك.
السؤال هو: ما هي الأشكال التي اتخذها ذلك التحاور، وقد تكون صفة التحاور من قبيل التجاوز، لأن التحاور يقتضي التساوي في الأخذ والعطاء في حين نعلم أننا نأخذ أكثر مما نعطي على مختلف مستويات العطاء الثقافي، وأن أمثال وليم جونز لم يعودوا كثيرين في الغرب ولا الغرب في مقام المتلهف على ما لدينا لإغناء فضاءاته بما قد يتطور لدينا.
نعم هناك حركة ترجمة غربية لا بأس بها لبعض الشعراء العرب إلى اللغات الأوروبية وهناك مختارات تصدر هنا وهناك، لكن إلى أي حد كانت تلك مثمرة عن اختراقات شعرية عربية في الفضاء الغربي؟
هل هناك شعر غربي حديث يمكن القول إنه يحاكي أو يتمثل أو يعيد توظيف شيء مما لدينا سواء من القديم أو الحديث؟
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved