الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 13th February,2006 العدد : 140

الأثنين 14 ,محرم 1427

روح ثائرة تبحث عن الحقيقة
*أمل زاهد
كان نيتشه عاشقاً للحقيقة، متيماً ومغرماً بها، يسافر وراءها إلى مسافات بلا حدود، وإلى سماوات بلا مدى، وينطلق لاهثاً يلاحقها ليقبض عليها، فتتملص من بين يديه، ليعود ثانيةً محاولاً إيقاد شمعة علَّه يجدها بين دياجير ظلمات أطبقت على روحه التي يسكنها القلق، ويعربد فيها الظمأ والعطش إلى محبوبته: الحقيقة. فقد قال: (لا يكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصاً في قصده، بل عليه أن يترصد أخلاقه، ويقف موقف المشكك فيها؛ لأن عاشق الحقيقة إنما يحبها لا لنفسه مجاراةً لأهوائه، بل يهيم بها لذاتها ولو كان ذلك مخالفاً لعقيدته، فإذا هو اعترضته فكرة ناقضت مبدأه وجب عليه أن يقف عندها فلا يتردد أن يأخذ بها).
ولقد كان هذا الفيلسوف الفذ مخلصاً أيما إخلاص في بحثه عن الحقيقة، فلم يكن يركن إلى فكرة حتى يعود ويضرم النار فيها، لينتقل إلى فكرة أخرى يلمع في أحداقها ضوء يرى فيه الحقيقة، ويستشف منه الصدق.
قلب نيتشه رداء الفلسفة الجامد، وكساها ثوباً قشيباً من الروح الشعرية، وحوَّلها من جسد باهت إلى روح تتألق. وتجلت عبقريته في شلالات ذهبية من حكم تغنى بها (زاردشت)، حكم تأرجحت ما بين قمة العبقرية وسفح الجنون، حكم متدفقة جارية لا يوقفها سد ولا يقف في وجهها حاجز. ويقال: إن نيتشه كتب (زاردشت) في حالة من الإلهام والتجلي. ويؤكد لنا هذه النظرة أن كل فصل من فصول (زاردشت) الأربعة استغرقت كتابته عشرة أيام فقط.
ويرى الكثير أن قوة وتميُّز فلسفة نيتشه ليس في صحة مبادئها ومدى صدقها وإمكانية تنفيذها على أرض الواقع، بل في الروح الشعرية التي اكتست بها، وفي عبقريته الجياشة في المشاعر والأحاسيس والأخيلة، وفي قدرته البيانية الخارقة. ومن الذين تبنَّوا هذا الرأي ميخائيل نُعيمة في كتابه (الغِربال).
انطلق نيتشه يقوِّض بنيان كل ما يجده أمامه، يزلزل الثوابت، ويهشم القناعات، ويشكك في الموروثات. انطلق كالبركان الثائر يفتح العيون، وينزع الأقنعة، ويكسر الجمود. فشنَّ حرباً شعواء على الدين، ورأى أنه سبب من أسباب التخلف والانحطاط؛ فالأديان في نظره ليست إلا امتداداً للتفسير البدائي الذي كان يرجع كل شيء إلى السحر والخرافة. فلم ير نيتشه إلهاً إلا الإنسان، ولم ير عبادة إلا عبادة الأرض، وانطلق يحلم بالإنسان السوبرمان ويغنِّي أنشودته، الإنسان القادر على صنع قدره وتاريخه وتسطير حروفه، فطلب التفوق في كل شيء؛ في الصحة والجسد، ونادى بقتل المعتلين والمرضى، ومقت الضعف والضعفاء، واعتبر أن كل ضعف أو ما يؤدي إلى الضعف شر، وأن كل قوة أو ما يساعد في تحصيل القوة خير. وقسم الأخلاق إلى أخلاق سادة وعبيد، ورأى أن في العطف على الفقراء والمساكين حافزاً لهم إلى الركون إلى حالهم، واستكبر على الدهماء فمقت الديمقراطية.
ولكن نيتشه غفل أو تغافل عن حقيقة أن الإنسان كائن يسكنه الضعف، وأنه مهما وصل إليه من قوة فهو معرَّض للضعف والمرض والذبول والموت والفناء.
ونظريته في العود الأبدي التي يرى أنها تشمل كافة المنطلقات التي افتقرت إليها العقائد الشائعة لم تقدم لنا بديلاً عن الدين أو حلولاً لرغبة الإنسان الدائمة والمستمرة في الخلود.
فهل كان ضعف نيتشه الجسدي وابتلاؤه بالأمراض والعلل هو الحافز والدافع له لتبنِّي نظرية الإنسان القوي؟ وهل كان ذلك رغبة منه في الخروج من ضعفه وثورةً على نفسه؟ وأليس في فلسفته ما يدعوه إلى التخلص من نفسه والقضاء عليها؟ وهذا يدفعنا إلى التساؤل: هل جُنَّ نيتشه بإرادته، ثم مات بإرادته بعد أن رفض نفسه وحاول أن يخرج من الثوب الذي أُلبسه ووجد نفسه مكبلاً داخله؟
كبر حلم نيتشه بالإنسان الخارق، كبر حتى أصبح مارداً جباراً يكتسح كل شيء يقف في وجهه، وانطلق مدمراً لكل ما يقف في وجه تحقيق حلمه، فكل شيء جائز في سبيل الوصول إلى السوبرمان حتى الحروب (أحبوا السلم، ولكن كوسيلة إلى حروب جديدة، وأحبوه قصيراً أكثر منه طويلاً)، (تقولون: إن الغاية الجيدة تبرِّر حتى الحرب، أما أنا فأقول لكم: إن الحرب الجيدة تبرِّر كل غاية وتقدِّسها). وهذه الأقوال دفعت الكثيرين إلى اتهام تعاليم نيتشه، وفلسفة القوة التي تبنَّاها، بأنها كانت السبب في إشعال وإضرام نيران الحربين العالميتين. وبغض النظر عن صحة هذه الآراء أو عدم صحتها فدون شك أن فلسفة نيتشه مجَّدت القوة ودعت إليها بكل الطرق والسبل.
ويرى كاتب مقدمة (زاردشت) أنه على الرغم من أن نيتشه تفاخر وتباهى بإلحاده، وانطلق يعلن موت الله، فقد كان إلحاده أقرب إلى الإيمان، وكان كفره ينطوي على اليقين بأبديةٍ يُتيَّم نيتشه بحبها ويغني بها ولها: (أواه، كيف لا أحن إلى الأبدية وأضطرم شوقاً إلى خاتم الزواج، إلى دائرة الدوائر؛ حيث يصح الانتهاء ابتداءً؟! إنني لم أجد حتى اليوم امرأةً أريدها أماً لأبنائي إلا المرأة التي أحبها؛ لأنني أحبك أيتها الأبدية).
في رأيي أن إلحاد نيتشه انبثق وتفتَّق من الإيمان؛ الإيمان بالأبدية والخلود، وربما كان رغبة في الوصول إلى الحقيقة؛ الحقيقة التي كانت تراوغه فتختبئ منه كلما حاول الوصول إليها، فعشقه وتبتُّله في محراب الحقيقة دفعه إلى إنكار وجود الله الذي يخفي هذه الحقيقة عن مخلوقاته، فكان يتساءل: (أيكون إلهاً خيراً ذلك الذي يعلم كل شيء، ويقدر على كل شيء، ولا يعبأ مع ذلك بأن تكون مقاصده مفهومة لمخلوقاته؟! ألا يكون إلهاً شريراً ذلك الذي يملك الحقيقة ويرى ذلك العذاب الأليم الذي تعانيه البشرية من أجل الوصول إليها؟!).
من دون شك كان نيتشه ولا يزال من أولئك الرجال الذين ترتفع فوق رؤوسهم مئات العلامات من الاستفهام، ومئات الأسئلة المثيرة للجدل، ولكن لولا رجال ك(نيتشه) زلزلوا الثوابت، وهدموا صوامع الأكاذيب، لما تغيَّر وجه الدنيا، ولما تحوَّل مسار التاريخ.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved