الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 13th February,2006 العدد : 140

الأثنين 14 ,محرم 1427

البريد الهندي: من كابول إلى بغداد (1)

*فاضل الربيعي
وكان قد بدأ ظهور أول مستوطنة هندية في العراق. رغم أن الهنود لم يكونوا حتى ذلك الحين معروفين في المنطقة على المستوى الذي أصبحوا عليه فيما بعد. وفي أوائل عام 1821 كانت طائفة منهم تدعى (نواب) تسكن في بغداد وهي التي سلب منها داود باشا مبلغ خمسة آلاف روبية، ثم جاءت من بعدها طائفة (نواب أوض) وسكنت هناك عام 1850م.
ج.ج. لوريمر (دليل الخليج)
عندما عزم الرحالة الإنجليزي و.س. بلانش، ترافقه السيدة آن بلانت على تنظيم رحلة إلى العراق في عام 1877، من أجل تجربة العيش وسط القبائل العربية البدوية في الشمال، قامت الحكومة البريطانية ومن دون توقع بإحباط مخطط الرحلة بوضع كل العراقيل.
لم يكن بلانش ولا السيدة بلانت ليعلما سبب العراقيل لولا أنهما أدركا تاليا (وبسرعة، أن بريطانيا كانت تسيطر فعليا) على (نشاطات الاستشراق) وتقوم بتوجيهه؛ وأنها مصممة على عدم تركه لرقابة وتدخل رحالة هواة يريدون التعرف على الحقيقة الفطرية، المجردة والمهذبة في (الشرق الساحر). وكانت تفرض قيوداً صارمة بقدّر مزعج، على حب الفضول هذا.
وقد لاحظت السيدة بلانت في كتابها (بدو الفرات - جزء 1 ص: 110-111) ذلك حين كتبت تقول: (ومما لا شك فيه أن السلطات كانت تعتقد أنه من المؤسف أن يتدخل في مثل تلك الأحوال التي ترضيها مجرد أناس فضوليين من أوروبا. ومن المعروف أن بريطانيا كانت لها أطماع في الفرات).
بعد عام وحد فقط من اضطرار بلانش وبلانت لتمضية الوقت في (تركيا الآسيوية) لمعرفة أحوال البدو في الفرات، قام رحالة آخر هو المستر جيري برحلة إلى العراق (1878) بعد أن تلقى مساعدة من موظفين إنجليز سهلوا له القيام برحلة (استشراقية) منظمة جيداً من أجل لقاء (مسلمين من ذوي النوايا الحسنة)، ولكن ليكتب ما يلي: (قالوا لي - أي المسلمين من ذوي النوايا الحسنة - : إن البلاد سوف تزدهر لو حكمتها إنجلترا فسرعان ما ستزداد التجارة وتختفي السخرة. لا يعد السكان العرب استبدال حكم السلطان بالحكم البريطاني في هذه المنطقة نكبة، بل العكس هو الصحيح. ومن رأي الرجال الذين توفرت لديهم فرص كافية لتكوين رأي صحيح أنه لا يوجد أحد، باستثناء الموظفين والجنود، يمكن أن يقاوم أدنى مقاومة، ليمنع مثل هذه المهمة).
هذه هي مهمة الصور الاستشراقية الأولى للعراق، تكريس وجود متخيل لجماعات بدوية متلهفة لمجيء البريطانيين من أجل تحويل بلادهم إلى (بومباي) ثانية.
كان سحر بومباي الخفي، يُضاهى، في الاستشراق الكلاسيكي، بسحر الغرب أو يساويه ويماثله، وقد نتج عنه، بصورة شبه تلقائية وعرضياً، نوع طاغٍ من عدم الإحساس بأي فارق مهما كان طفيفاً، بين (استعمار تركي) يوشك على الاحتضار وآخر بريطاني يوشك على الولادة. محو الفارق بين الاستعمارين، موظف لغرض وحيد، هو تعظيم الاستعمار الأوروبي من خلال الزج بمشاعر مصنعة وتخيلية، لجماعات تريد استبدال الأتراك بالغربيين. ولم يكن هذا الانطباع صحيحاً أبداً.
لم يلامس الاستشراق أو يحتك، بأي شكل فعال، بطبقة أخرى من المسلمين العرب من غير (ذوي النوايا الحسنة) الذين كان الرحالة يحرصون على اللقاء بهم لتلقي المعلومات، وذلك لاختبار جدية هذه الأفكار والانطباعات ومعرفة الزائف والحقيقي منها.
ومع ذلك؛ فإن هذه الانطباعات أخذت طريقها بسرعة إلى مؤلفات مستشرقين آخرين راحوا ينشئون فوقها عمارة متراصة الأحجار من الانطباعات الزائفة المماثلة.
ثمة بدو (على الفرات) التوراتي، الذي اجتازه داود الملك في (سفر الملوك - التوراة) يستعدون لتسليم معاصمهم لذوي الأيدي البيضاء من أجل تأخذ بها في الطريق خارج الغابة، أو تعيدهم إليها ولكن بعد أن تحول الغابة إلى بومباي ساحرة.
كانت بومباي في الاستشراق (العراقي) هي النموذج الملائم للبدو، وكان على الرحالة والأطباء والضباط والقناصل والمستكشفين، أن يقوموا بعمل شاق من أجل تطهير هذه الصور من كل شائبة. لا تكاد صورة العراقيين في المخيال السياسي الأمريكي المعاصر بشكل خاص، والأوروبي بشكل عام إلا ما ندر، تفارق هذا الإطار النمطي للعراق القديم أيام الاحتلال الإيراني أو التركي أو البريطاني؛ ولا تكاد تخرج عن حدود الصورة ذاتها للعرب كما رسمها الاستشراق القديم. جماعة من البدو متسخة الثياب، أصواتها غريبة وتبدو فوق ذلك تائهة في دروب الغرب الساحرة.
وكما أن (بغداد الأمريكية) لا تبدو اليوم، في عيون الجنود الأمريكيين بعيدة بما يكفي من المسافة اللازمة والضرورية، وكأنها خارج هذا الإطار المتآكل، حيث الصورة الفخمة ذاتها، كما رسمها المخيال الاستعماري البريطاني مطالع القرن قبل الماضي؛ فإن (بغداد الإنجليزية) الحالمة بالتحول إلى بومباي بفضل المشاعر المتحرقة للأسر البغدادية، حسب ما يقول نص جيري، لم تبدو، قط في تلك اللحظات من التلهف إلا كمدينة تنتظر قدرها الذاتي، أي أن تقبل برضا تام تحويلها إلى جزء من الهند.
وكما أن البريطانيين كانوا يتوجهون صوبها من أجل قتال (العثمانيين المستبدين) و(الظلاميين الرجعيين) الذين لا يراعون حقيقة مشاعر السكان العرب؛ فإن الأمريكيين اليوم لا يرون في المعركة الدائرة سوى استطراد ومواصلة لمعركة أخرى. إنهم ذاهبون إلى محاربة طالبان (عراقية) في جبال قندهار أخرى تراقصت سفوحها أمام بنادقهم وعليهم أن يكسبوا (الحرب من أجل الحرية). إنها (معركة كسب العقول والقلوب معا) في الشرق الجديد. ثمة فارق جوهري للغاية بين الاستشراق القديم وما بعد الاستشراق.
مع الاستشراق الكلاسيكي كانت المعركة تدور من أجل (كسب القلوب) واستثارة عواطف السكان (الشرقيين) ودفعهم إلى التأمل في منافع الحرية؛ بينما يبدو ما بعد الاستشراق معركة كبرى من أجل (كسب القلوب) والسيطرة على (العقول). إنه نمط جديد من أنماط السيطرة على الأفكار وتنظيمها وتوجيهها. ولذلك سوف تنصرف عقولنا، وطوال ثلاثة أعوام من الاحتلال الأمريكي للعراق، إلى (بغداد أخرى لا نعرفها ولم نتجول في شوارعها ولم نعرف أدنى فكرة عن سكانها. إنها بغداد مستولى عليها بواسطة قوة التخيل؛ إلى الدرجة التي لا تبدو إلا بوصفها عاصمة الإرهاب الأفغاني، المُصنع هناك والمُصدر إلى هنا.
ولذلك أيضاً لا تبدو (بغداد الأفغانية) التي تتراءى لنا في عالم الإعلام؛ أي التي تم دمجها ومماهاتها مع كابول، والتي ظل الإعلام الأمريكي حريصا على تثبيتها دون توقف قبل وأثناء الهجوم على البلدين؛ انقطاعاً أو انفصالاً عن تجربة استعمارية طويلة ظهرت فيها المدينة نفسها في صورة (بغداد هندية - بريطانية) تارة، وبغداد (تركية) تارة أخرى؛ بل وبغداد (إيرانية) في بعض الأوقات. على نحو ما، ستبدو المدينة استطراداً في هوس من طبيعة كولنيالية خاصة عاش العراق تحت كابوسه، وذلك عندما كانت المصالح الاستعمارية تتصادم عند شواطئه. كانت التنافسات الدولية المحمومة للسيطرة على العراق قد انطلقت بقوة منذ العام 1800م وترافقت معها وصاحبتها، اكتشافات، متواصلة لتصويره كامتداد للهند طوال أكثر من مئة وأربعة عشر عاماً، أي حتى العام 1914 يوم نجح البريطانيون في السيطرة على البصرة. ولكن هذه التنافسات التي انحصرت بين الفرنسيين والبريطانيين والروس في هذا الوقت، ما لبثت أن توسعت واحتدمت، لتشمل القوى الجديدة الطالعة على المسرح السياسي العالمي.
لم يقيض للعراق أن يتخلص بعد، مع انهيار العثمانيين والقاجاريين، من الكوابيس المزعجة التي قضت مضاجعه وتركته يصارعه قدّر التنازع عليه داخل إسلام تشظى؛ آنئذ، إلى قوتين حربيتين ولكن ضعيفتين مترنحتين أمام قوى هائلة النفوذ. بيد أن العراق نفسه، مع ذلك، سعى من دون توقف إلى الإفلات ولمرات عدة من قبضة التتريك أو التفريس، ومن سياسات دمجه وتحويله إلى امتداد جغرافي لمستعمرة أخرى.
وبالفعل كان القاجاريون والأتراك في هذا الوقت، وفي ذروة صراعهم على العراق من أجل ضمه وإلحاقه يواجهون المصير ذاته والمخاوف ذاتها: ان يسقطوا هم أيضاً بأيدي الأوروبيين وتتحول إيران وتركيا إلى مستعمرتين. وسرعان ما فاجأت الأقدار هذا البلد مرة أخرى بمخاطر دمج غير مألوف من قبل. عليه أن يستعد لارتداء ثياب الفقير الهندي.
فقبل عامين فقط من بداية القرن السابع عشر، وقبل أن يغادر هنري دوندس وزير الحرب الفرنسي ورئيس مجلس السيطرة، ميناء طولون عام 1798 متجهاً لملاقاة المصريين (أثناء حملة نابليون) كان واضحا أن هدف الفرنسيين النهائي لم يكن مصر. كانت مصر هدفاً فرنسياً تكتيكياً عزيزاً؛ بينما كانت الجائزة المنتظرة هي الهند، حلم نابليون الكبير والحقيقي. وكان ذلك يعني أن الفرنسيين صمموا على تدمير القوات البريطانية هناك.
على الطرف الآخر كان العراق يتجلى في مرآة المصالح البريطانية أعوام 1798-1898 وطوال قرن كامل، بوصفه المركز الاستراتيجي للاتصالات بين لندن ودلهي عبّر البصرة والخليج العربي. لقد كان العراق حلما إنكليزياً أيضاً؛ ليس إيرانياً أو تركياً وحسب. ولذلك ذعر البريطانيون وهم يرون منافسيهم الروس والفرنسيين والألمان والهولنديين، يقتربون من شواطئ العراق والخليج العربي. ولكن؛ وخلال هذا القرن حدث ما تمناه البريطانيون. فجأة تلاشت تقريباً المخاطر الفرنسية أمامهم بفضل سرعة التدابير التي اتخذوها لمواجهة حلم نابليون في الاستيلاء على الهند.
ومع هذا وجدوا أنفسهم ومن جديد في مواجهة مخاطر جدية تمثلت في صعود الإمبريالية الروسية في عالم التنافس العنيف.
أدرك البريطانيون أن روسيا بطرس الأكبر 1672-1725 ما تزال - منذ مطلع القرن السابع عشر - تشخص أمام أبصارهم كالشبح وقد راح ينافسهم على الجائزة الهندية، التي سوف تمكن المنتصر في أي خطة ناجحة للاستيلاء عليها، وتلقائيا، من بلوغ أهدافه التكتيكية استعدادا للوصول إلى المياه الدافئة في الخليج العربي. في هذا الوقت كانت روسيا تخطط وتحلم بالوصول إلى الهند والسيطرة على تجارتها من البوابة الخليجية.
وقد ارتأى بعض الباحثين العراقيين ان أقدم تصريح يتعلق بالتنافس الروسي - البريطاني على العراق، هو الذي صدر عن المفتش الأول بدار الهند في لندن عام 1829 والذي قال فيه: لقد أصبح للروس الآن سفن تجارية في نهر الفولغا وبحر الخزر وسيصبح لهم مثل ذلك في نهر سيحون وبحر الأورال وأغلب الظن في دجلة والفرات.
ويبدو أن ثمة آراء أخرى حول التنافس الروسي - البريطاني المحموم حول العراق، أقدم بقليل من تصريح المفتش الأول بدار الهند في لندن؛ من بينها ما سبق لهارفورد جونز وهو أول مقيم بريطاني في بغداد أن صرح بها علنا، عندما كتب ذات يوم في مطلع القرن التاسع عشر (قبل نحو عشر سنوات من تصريح المفتش الأول) قائلاً: وسواء تقدم الفرنسيون من سوريا نحو الشرق أو الروس من جورجيا نحو الجنوب الشرقي؛ فإن القتال من أجل الهند سيجري يوماً على ضفاف دجلة والفرات.
كانت هذه التوقع حاضرة بقوة في خيال البريطانيين عندما جرت أولى عمليات الاستطلاع لإمكانات العراق الملاحية في وادي الفرات من قبل ضابط صغير من البحرية الهندية التابعة للجيش الهندي - البريطاني هو الملازم أورمسبي H Orimsby وذلك مع مطلع عام 1830م. وفي العام نفسه قام جيمس تايلور بعملية مسح موازية لنهر دجلة بإذن من والي بغداد داود باشا 1817-1831م. بيد أن تيلور (وهو شقيق المقيم البريطاني في بغداد روبرت تيلور) سرعان ما ُقتل لينتهي مشروعه إلى الفشل.
كان البريطانيون المحاصرون طوال قرن كامل بفعل التنافس الروسي الفرنسي معهم، حول العراق ومن أجل الوصل إلى الهند، يدركون مثل منافسيهم أن الموجة الأولى من ثورة الاتصالات التي فجرها العصر الصناعي، تفرض عليهم التفتيش عن عقدة مواصلات نفيسة ومركزية، يمكن أن توصل البريد بسهولة أكبر بين الهند ولندن. ويبدو أنهم وجدوا في العراق ضالتهم. وهكذا بدأت أولى عمليات مسح الأنهار للكشف عن إمكاناتها على هذا الصعيد.
وقد ارتأى تقرير مهم قدمه الملازم روودن تشيزيني R.Chesney F.
ان تنامي النفوذ الروسي وظهور خطر محمد علي باشا في مصر (المتحالف بشكل غير وثيق مع الروس عن طريق العثمانيين) سيفرضان عليه التحمس، برغم المصاعب المالية، لمشروع الملاحة البديل في نهر الفرات؛ بل والعمل على تخطي كل العقبات، لأنه الطريق الأقصر مقارنة بالطريق المصري عبر المتوسط، ولأنه يضمن لبريطانيا التواصل الفعال مع الهند.
وبحلول العام 1834 كانت هناك باخرتان بريطانيتان تبحران في نهر الفرات، بإذن وتسهيل من السلطان محمود الثاني.
على هذا النحو استمرت أهمية العراق في الاستراتيجية البريطانية بوصفه عقدة المواصلات، التي تضمن نقلاً سريعاً للبريد بين لندن والهند، وكان يمكن لمعاهدة يعقدها جونز بوصفه المقيم البريطاني في بغداد، مع الوالي المملوكي سليمان باشا في العام 1841أن تضمن نقل البريد براً بواسطة البغال من البصرة إلى بغداد وعبر نهر دجلة بواسطة السفن، ومن ثم إلى بواخر شركة الهند الشرقية.
في هذا الإطار اكتسب تخيل العراق أهميته وضرورته بالنسبة للمصالح البريطانية، وليتأسس على تصور ديناميكي لعلاقة هذا البلد الجغرافية المتميزة، بطريقين استراتيجيين هما طريق التجارة الدولية عبر الممر المائي الجنوبي البصرة - بومباي مرورا بقناة السويس، وآخر طريق الهند البري عبّر آسيا الجنوبية - الخليج العربي وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط وسوريا ومن ثم أوروبا عبر الأناضول.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved