الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 13th February,2006 العدد : 140

الأثنين 14 ,محرم 1427

آثار الطائر الذي رحل بعيداً
عامان على رحيل عبد الرحمن منيف الروائي الخالد بأعماله التي تمحورت فيما يواجهه الإنسان العربي من تمزق وانهزام.. كان قوميا عربيا، هو الكاتب العربي الوحيد الذي تجسدت الوحدة في شخصه على نحو مدهش، وحدة عربية متماسكة ولد في الأردن عام 1933 لأب من قرية قصيباء في الجزيرة العربية ولأم عراقية تلقى علومه في الأردن والسعودية، وأتم دراسته الجامعية في كلية الحقوق ببغداد وحصل على الدكتوراه في اقتصاديات النفط من يوغسلافيا، وعمل في سورية ولبنان والعراق ثم عاد إلى بيروت ومنها إلى فرنسا ليعود إلى سورية من جديد التي عاش فيها وتزوج من السيدة سعاد القادري وانجب أربعة من الأبناء، وبقي في سورية حتى وفاته في إحدى مصحات دمشق في 24-1-2004م.
وبموت الروائي الكبير عبد الرحمن منيف فقدت الرواية العربية أهم من رسم معالمها الواضحة عبر الزمن الصعب، فقد ظل وفياً لأوجاع أمته يضيفها إلى أوجاعه، فهو العربي الذي يبث صوته إلى الآخر وينقد الوضع المتردي ويوجهه ويعالج قضاياه، بمعنى أنه كاتب متفرد في جميع مؤلفاته الروائية التي كان أولها (الأشجار واغتيال مرزوق) عام 1973 وتلتها (قصة حب) و(شرق المتوسط) عام 1975 و(حين تركنا الجسر) 1976م و(النهايات) عام 1977 و(سباق المسافات الطويلة) عام 1979 وفي عام 1984م صدر الجزء الأول من خماسيته الشهيرة ليستكملها عام 1989م وآخر رواية صدرت له بعنوان (أرض السواد)، بالإضافة إلى عدة كتب اقتصادية منها: (البترول العربي مشاركة أم تأميم) و(الديمقراطية أولاً) وكان رئيساً لتحرير مجلة (النفط والتنمية) التي تصدر في بغداد قبل أن يغادرها إلى فرنسا.
إن الأعمال الكاملة للروائي عبد الرحمن منيف تؤكد لنا أنه وفق بين الإبداع والنقد وطرح رؤى متألقة للمستقبل، فقد قدم لنا ما لديه من عمل روائي ورحل وأعطانا صورة عن طبيعة المرحلة التاريخية التي عاشها وحلق خلالها من شرق المتوسط إلى مدن الملح إلى أرض السواد، فقد قدر له أن يعيش في تلك المرحلة ولأنه كان صادقاً مع أحلامها وهمومها وحتى مع احتمالاتها، فقد بذل ما يستطيع من أجل أن تكون حياة الناس أكثر إنسانية وبما يتناسب مع التقدم البشري في نهاية القرن العشرين، مقارنة بما حصل في أماكن أخرى.
وتأتي أكثر روايات منيف لطرح أثر التحولات السياسية على أفراد الأمة والمناداة ببعض القضايا المتعلقة بهذه التحولات، مثل الحديث عن حرية القول والعمل والإقامة والسفر والحياة الهادئة وغيرها، وقد ظهر ذلك جلياً في باكورة أعماله الروائية (الاشجار) فهي تشتمل على رؤية عامة وشاملة للحياة السياسية في الوطن العربي، وتتناول أحداثها بعرض الهموم التي أفرزتها حروب العرب مع إسرائيل وتعتبر (شرق المتوسط) امتداداً للمضمون الذي قدمه في هذه الرواية، ولذا يقول عنها الناقد أحمد علي عطية في (أصوات جديدة في الرواية العربية): (تصور روايتاه الأشجار واغتيال مرزوق، وشرق المتوسط، زمن الحرية في وطننا العربي، وتقدمان بحثاً فنياً في أوجه هذه الأزمة أو تنويعات على لحن الحرية المفتقدة في عالمنا العربي المعاصر، ويوجه الروائي في هاتين الروايتين نداء للحرية، وصرخة احتجاج ضد مصادرة حرية الإنسان في الوطن العربي).
(الأشجار) رواية لا تشير إلى حدث كلي يتنامى مع الشخوص عبر السرد والحوار، ولكنها ترصد مجموعة من الأحداث في شكل يوميات أو بلاغات مختلفة ذات مضامين متعددة، يسترجعها الشخص الأول بالرواية أثناء رحلته بالقطار معبراً عن شخصية رجل سياسي هارب من وطنه، ويدور الحوار بينه وبين الشخصية الثانية التي يمثلها (الياس نخلة) حيث يفضي بكل آلامه وآماله إلى رفيق دربه (منصور عبد السلام، بحيث استغرقت اعترافاته القسم الأول من الرواية، وكان منصور في هذا القسم مستمعاً ومتسائلاً ومتداخلاً في الحوار بصورة متقطعة، ولذا يعد الياس الشخصية الأولى في القسم الأول من الرواية الذي ينتهي بحجز رجال الجمارك له، ويتحرك القطار بدونه ويبقى فيه (منصور) الذي يسترجع رحلة حياته بأسلوب المنولوج الداخلي وتدفق تيار الوعي وبخاصة موقفه من السلطة، وقصته مع المرأة، وسفره من أجل العلم ورحلته الأخيرة التي يغادر فيها الوطن وتنتهي الرواية بمجموعة من اليوميات التي سجلها بعد نزوله عن القطار، وأثناء عمله في البحث عن الآثار، وترجمة ما عليها من لغات، معبراً عن لون العلاقة بين الشرق والغرب تقوم الرواية على شخصيتين رئيسيتين الأول منصور عبد السلام، أما الياس نخلة فهو شخصية فقيرة في المجتمع تعبر عن أزمة الحرية لدى الإنسان العربي وهو البطل الشعبي المهرب المحاصر، والمهدد في أمنه وحياته بسبب صراعه مع السلطة، ورفضه لقيم المال والمنفعة التي تلتهم قيم الإنسان الأصيلة، وحبه النبيل للحياة والزرع والأشجار ومن انهيار القيم الإنسانية واستبدالها بقيم غير إنسانية، ان الياس نخلة يمثل أحد وجهي أزمة الحرية في الوطن العربي يقول عبد الرحمن منيف على لسان (الياس): (في المدينة عملت صانعاً عند دهان ثم عاملاً للبناء، كان حظي في هذين العملين مثل حظي في الفرن جبت المدينة الكبيرة بقيت وأنا أدور، صدتني الوجوه القاسية التي لا تعرف رائحة الأشجار ولا تعطف على الغرباء، فكرت في أن أعود إلى الطبيعة مرة أخرى، ولكن الكراهية الصفراء التي رأيتها في وجوه أهلها صدتني بسرعة ودوت في أعماقي صرخة تؤنبني، تقول لي: (ابق حيث أنت أبحث عن عمل آخر) ويرفض الياس إذلال صاحب العمل له ويتحول إلى تاجر صغير ليحمل مبيعاته على حمار يطوف به القرى، ويتحدث عن الأشجار التي ترمز إلى الأمل والعطاء والتواصل والكرامة والحرية والحياة.
وفي القسم الثاني من الرواية صور لنا الروائي أزمة الحرية السياسية التي جسدها منصور عبد السلام السياسي المثقف الهارب إلى الخارج بحثاً عن عمل جديد بعد أن فصل من الجامعة التي كان يعمل بها مدرساً للتاريخ المعاصر، وذلك بسبب عدم اقتناعه بالمنهج الذي يدرسه فيخرج عليه معرضاً نفسه للخطر، ويعرف أنه مراقب وتتحول قاعة المحاضرات في نظره إلى سجن وتتحول كلماته إلى قطع من الحديد الصديء، وصار يلقي المحاضرات وكأنها واجب ثقيل ويتساءل المؤلف على لسانه فيقول: (لماذا هزمنا أول مرة، وكانت لدينا جيوش وكانوا هم عصابات ولماذا هزمنا للمرة الثانية، وكانت لدينا جيوش وعصابات وليس لديهم إلا جيوش؟ ماذا أقول لهم؟ هل أصرخ واتعرى؟ هل أقذف نفسي من النافذة؟ كنت أريد أن أتحدث عن هذا ساعة متواصلة).
يعكس الروائي بهذا المقطع تلك المرارة التي سيطرت على شباب الأمة بعد حرب 1948 وحرب 1967، وكيف تأثر أسلوب التعامل مع العلم والفكر بعد كل هزيمة عسكرية أو سياسية.
نشر الروائي في نهاية الرواية مجموعة من اليوميات التي يستدل بها على نوع من الصراع النفسي الذي ينتاب البطل، لموت مرزوق أو قتله، ذلك الرجل الذي يمثل كل من يسعى للحصول على رزقه، أو انه النموذج البشري للإنسان العربي المعذب المغتال في صمت.. كان البطل يمزج بين الزمنين الماضي والحاضر، وهو يتذكر ماضيه أثناء الرحلة ويمتد الحصار إليه، وهو قابع في كرسي الدرجة الثانية بالقطار، وتنهال عليه أسئلة الرقابة ورجال الأمن والجوازات ويصرخ لهم بأنه غير موجود، وأنه مات منذ زمن طويل.
إن الروائي عبد الرحمن منيف قد استغل الرمز والإيحاء في مخزونه اللغوي للاستدلال على الواقع الذي عاشه هذا الجيل، لقد اختار اسم (الياس نخلة) ليعبر عن خطورة اقتلاع الأشجار واسم (منصور عبد السلام) الذي استسلم ورفع الرايات البيضاء بعد الحصار المفروض عليه من كل جانب، ليشهد على فقدان الذات وضياع الهوية العربية الأشجار واغتيال مرزوق، هي رواية سياسية يسترجع فيها (منصور) أحداث التاريخ الذي عاشه (الياس) أو عاشه منصور نفسه، أوعايشته الأمة العربية بصراعاتها مع الغرب وإسرائيل، وتدل الأحداث على الزمن التقريبي للرواية، وهو الحقبة التي عقبت حرب عام 1967م، أما المكان فيشمل كل ارجاء الوطن العربي الذي تشترك أقطاره في الكثير من الهموم والآلام لذلك سيبقى عبد الرحمن منيف خالداً بأعماله باعتبارها تصويراً لمرحلة تاريخية بكل ما فيها من عناصر ومؤثرات، ولأنها تعبير عما يعتمل في وجدان المبدع والمتلقي معاً.


الطائية

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved