الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 13th February,2006 العدد : 140

الأثنين 14 ,محرم 1427

قصة قصيرة
المتسول
إبراهيم بن فهد الوسيدي القصيم
عبر الشارع غير آبه بأبواق السيارات المتذمرة من خطاه المرتبكة والثقيلة بثقل السنين الطويلة التي أمضاها بالسجن، ولا بالمارة الذين ينظرون شزراً إلى هيئته الرثة ولحيته الكثة وجلبابه الذي ضاقت به أكتافه بهذا اليوم القائظ.. اتجه للناحية الأخرى من الشارع، استرعى انتباهه محل مقهى نت.. ألقى عليه نظرة من الخارج.. ويبدو أنه لم يعرف كنهه بسبب أجهزة الكمبيوتر الكثيرة ورواده الصغار فواصل مسيره لزاوية الشارع حيث كافتيريا الجامعة..
تسرع بخطاه المتعثرة.. جموع البشر المتزاحمة التي لم يعهدها من قبل.. دخل من باب الكافتيريا فوجدها لم تتغير عليه بشيء.. اتجه حالاً إلى الطاولة التي كان يجلس عليها قبل خمس وعشرين سنة مع حبيبته رودين.. وجد حولها شابا وفتاة يتبادلان الهمس، استعاض عنها بطاولة قريبة.
نادى الجرسون وطلب فنجان قهوة سادة.. وصار يلقي نظرات هنا وهناك.. نظر إلى طاولة الشاب والفتاة حيث كان آخر مرة يجلس حولها مع رودين أجمل بنات الجامعة المعجبة جدا بثقافته وثقته بنفسه ووسامته.. قبل أن تقبض عليه السلطات حينها بتهمة تحريض طلاب الجامعة على الحكومة.
جاشت به الذكرى.. ضم ركبتيه لبعض وشبك يديه على صدره ودفن رأسه وسط ياقة جلبابه..
يبدو أنه يداري دموعه ويبدو أن تداعيات المكان كانت أكبر من أن يداريها فأجهش بالبكاء حتى صار ينحب.. لم يشعر بنفسه إلى ويدين رقيقتين كالحرير تمسحان دموعه وأنفاس كنسائم بردى تهدي روعه ورائحة كأزاهير نيسان توقد أنفاسه.. أخذ اليدين وصار يقبلهما.. غمر بهما وجهه وكأنهما حقل ياسمين يمرغ به روحه المهترئة.. صار يناديها: رودين حبيبتي رودين.
استغرب حركة يديها المتملصة من قبضة يديه رفع نظره إليها.. وإذا بها الفتاة التي كانت تجلس مع الشاب، نظر إلى الشاب وإذا به مسروراً من تصرف حبيبته الإنساني فعرف أنه تقدم بالعمر بما يكفي أن يمحو غيرة الآخرين منه وأن هناك هوة بين قلبه وعمره لن تردم.. اخرج منديلاً ومسح به دموعه وقف وربت على كتف الفتاة وابتسم لها وخرج من الكافتيريا يبحث بمدينة الإسفلت والإسمنت عن شق يواري فيه قلبه المشروخ.. بعد مدة رأوه بحديقة تشرين يتسول الحب وقد أمسك بيده وردة قد ذبلت:
خذ يابحر..
خذ يابحر..
قادته خطاه التائهة بحيث لايدري إلى البحر.. وقف على أطرافه وصار يتأمل الشمس التي بدت كبرتقالة باهتة على مقدمة بساط الشفق الذي بدأ يمتد.
هالته غزارة البحر كثيرا ولكن خلص بأنه لا يروي العطشان كحالها (هي) تماماً تملك كل مايتمناه لكن هيهات..
كيف الوصول إليها؟! زفر بإيه...
ثم نظر إلى قدميه وإلى تلك الموجة التي تحفر تحتهما في كل رواح لها وجيئة وكأنها تسحب خطاه العالقة بقدميه إلى البحر لتحافظ على صفحة الشاطئ الرملية الصافية من أي أثر ابتعد عن مكانه قليلاً فأتت الموجة ومسحت خطاه أعجب بطريقتها فرسم خطاً طويلاً بقدمه فمسحته أيضا.. خطرت بباله فكرة! لماذا لا اجعلها تمسح همومي أيضا وتقذفها في قلب البحر فهو واسع جدا ويحتمل الكثير بعكس صدري الذي ضاق كثيرا خصوصاً هذه الأيام وهمومي نفيسة وغالية والبحر لا يقبل إلا النفيس والغالي.
رفع بنطاله إلى ركبتيه وجثا على الأرض وقد اتكأ على يده اليسرى وكتب بيمينه أول هم.. فأتت الموجة ومسحته وكأنه شعر بالارتياح وصار يكتب ويكتب والموجة تمسح وتمسح حتى أتى على آخر هم فشعر بأنه خالي البال وبوضع جيد الآن أو هكذا أوهم نفسه فمد يديه جانباً وأخذ نفسا عميقا وكأنه طائر قد تحرر من قيوده ويستعد للطيران ليحلق عالياً ويجوب كل جزر العالم وبكل حرية.. ثم زفر ما بصدره من هواء وهو يضم يديه على صدره حتى شبكهما ببعضهما فكأنه لمس نبضات قلبه المتوترة فتذكر من تسكنه فهي من أبعدته عن الناس حتى صار بينهم غريباً ومع ذلك لم تقترب منه وشغلته عن اهتماماته وأعماله حتى بدأ نجمه بالأفول فقال في نفسه: لماذا لا أهبها للبحر فهي مصدر همي وهي أنفس ما عندي، سيضمها البحر إلى لآلئه فلا أرى لها غير البحر مالكاً وستبدو حياتي بعدها صافية كصفحة هذا الشاطئ.
انحنى مرة أخرى وكتب اسمها ومجرد أن قرأه انتابته رعشة بدت في قلبه وسرت في كل جسده كعادته دوماً عند ذكر اسمها، سمع صوت الموجة وهي قادمة فانكب على اسمها بسرعة وحمله بين يديه ووضعه على صدره فحمد الله أنه لم يهب سراج عمره وقنديل حياته إلى البحر في حين سفه منه... وقف وهو يحمل التراب المبلل على صدره حتى سال على قميصه بشكل مزر ولم يلحظ ذلك إلا من خلال نظرات المارة المستغربة من تصرفه الأقرب لتصرفات المجنون منه للإنسان العاقل الذي تبدو عليه هيئته..
تأكد بأنه وصل لمرحلة لا يمكنه السكوت عليها فإذا استمر على حاله هذه لاشك سيجد نفسه يوماً مجنوناً بحيث لا يدري فيجب حسم أمره مع هذه الإنسانة العالقة في فؤاده المستعمرة لكل حواسه حتى سرت بجسده مسرى الدم وسكنته سكنى الروح.. قال في نفسه: ماهي إلا صبر لحظات واجد نفسي في عالم آخر أرحب لا يشغلني فيه شيء وكأني لم اعرفها كموت الشهيد ماهي إلا قرصة ويجد نفسه في الجنة
استعان في كل ذرة شجاعة يحملها من أصلاب أجداده فوضع التراب الذي كتب عليه اسمها على صفحة الشاطئ ووقف ووضع كفيه على عينيه وكأنه محكوم عليه بالإعدام قرئت عريضة إعدامه ولم يبق غير التنفيذ وعندما سمع صوت الموجة القادمة شعر بأن الجنود صوبوا بنادقهم ناحية قلبه وعندما لامست الموجة قدميه كأنه سمع صوت ضغطة الزناد والموجة تلملم أطرافها من بين قدميه وهي عائدة للبحر.. شعر بأنه دخل العالم الآخر الموعود.. فتح عينيه نظر إلى اسمها ولم يجده.. فزع.. هلع.. أصابه الجزع.. شعر أنه بلا قلب ولا رئتين.. بدأ الهواء الخارجي يضغط على أضلاعه، تكاد روحه تقفز من أنفه بدأت أطياف الموت تحاصره.
استجمع قواه.. استنهض همته.. رفع جسده الواهن واستدار للناحية الأخرى نظر إلى خصمه الهادر الذي ذابت حبيبته في جوفه الغزير ومحيطه الواسع ولكن هذه المرة لم يثر خوفه فغريزة حب البقاء كانت أقوى فقرر...... أن يشرب البحر.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved