الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 13th March,2006 العدد : 144

الأثنين 13 ,صفر 1427

سفر الحكايا
* أمل زاهد
كم أحب عينيها وهي تسافر في أطراف الحكاية، وهي تنهش من ذكرياتها المختلطة بخيالاتها وتدسها في قصص تودعها داخل أسفار تتهدل سحراً وغموضاً وإثارة.. كما تتدلى عناقيد عنب من كرم ضاق بنضجها وأبى إلا أن يسقطها أرضاً.. حبات صغيرة مليئة بخمر مجدول بالنشوة ومغزول بسحر الحكايا..
أجلس القرفصاء أمامها وهي تسافر إلى أماكن لم تطأها، وحيوات لم تعشها، أدرك أن معظم حكاياها من نبض خيالها. لا أكترث بذلك.. أغرق في نبرات صوتها الدافئة.. اتوثب مع ارتفاعه.. واسكن عندما تخفضه.. اشرب ملامحها المتغضنة، اتلصص على صندوق ذاتها المملوء بالأسرار. اخترقها واسكن داخلها.. وأحس بالأمن يكتنفني.. وجموح الحكايا يأخذني بعيداً إلى تخوم لم أشهدها.. وإلى مشارف حياة استعصت عليّ وتملصت من بين يديّ وأنا أعيش في سجني..
قضبان ناعمة تحيط بي وتحولني إلى خيال امرأة تعيش في القرن الواحد والعشرين.. امرأة لا مفر لها إلا الرضا بسجنها.. ومحاولة اختراق جدرانه العتيدة البناء متسلقة أهداب حكايا.. أو مسافرة على جناح خيال.. أو ممتطية صهوة شاشة الكترونية تمررني إلى عوالم ساحرة تعذر وجودها من قبل..!! يأتيني صوتها عميقاً كأنه قادم من أغوار بئر سحيق، دافئاً كثمار كستناء أتسلى بتقشيرها وآكلها في ليلة شتاء قارصة البرد.. تفاعلي مع الحكاية يشعل حماسها ويطلق عقال خيالها بعيداً كي تضفي عليها مزيداً من الإثارة والسحر والغموض.. مستغفرة ربها لو تطرقت الحكاية لمنعطفات مدججة بالمحظورات وملغمة بممنوعات ثقافة تأبى إلا أن تطبق بخناقها على كل عاشق للحياة.. متبتل في محرابها..
أحبها حين تأخذني إلى مدينتي حينما كانت وطناً. مدينتي التي فقدت ملامحها وقسماتها وصار قلبها الدافئ موطنا لجحافل العمارات الشاهقة التي تطل بسخرية واستعلاء على حرمها النبوي.. تلك المدينة النائمة في أحضان القداسة.. أحبها حين تزج بي داخل دفء أزقتها الضيقة المحملة بعبق الأصالة والمعطرة بأنفاس الحجاج القادمين من أقاصي الدنيا..
يحملون دعواتهم وأمانيهم في صرر السفر وحقائبه، ينتظرون لحظة اطلاقها في ساحة الحرم بين يدي الله وبمشهد من رسوله. كحمائم سلام تطير إلى المجهول وإلى آفاق محملة برجاء الاستجابة..
أحبها حين تأخذني إلى دفء علاقات الجيران في تلك البيوت الملتصقة بعضها ببعض.. يشترك كل بيتين متلاصقين ليس فقط بالجدار ولكن بحميمية العلاقات ونبض القلوب وامتزاج الأنفاس.. كعاشقين وحدهما الحب فامتزجا واختلطا وزال الخط الفاصل بين ذاتيهما.. تلمع عيناي وهي تحكي لي حكايات العشق من خلف المشربيات الخشبية التي اندثرت ومحيت من وجه مدينتي..
عن العيون المتلصصة على الحبيب والتي تغلق ذاتها على صورته حتى لا تفر من حدقتيها.. عن رسائل العشق وسهامها المنطلقة من مشربية إلى أخرى.. والتي تكاد تتفجر من فرط ما تحمله من حرارة وما يعبق فيها من سخونة واشتعال..
تمتزج هي بالحكاية لتصبح طرفا فيها وأفقد ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل الرّاوية عن حكاياتها.. والكلمات عن قائلتها، والمؤلفة عن شخصياتها لأشعر أنها هي بوجهها المتغضن وملامحها المتيبسة التي فارقها الشباب كل هؤلاء الشخصيات مجتمعة ومحترقة داخل بوتقة ذاتها التي اسُتلبت منها الحياة، فراحت تستيعض عنها بتأليف الحكايا والغرق في تفاصيل كانت تحلم أن تكون طرفا فيها. تساءلت كثيراً لماذا تحكي لي أنا بالذات عن حكاويها ولماذا تصمت لو دخلت أمي أو لو أحست أن أحد الفضوليين من الأسرة يتلصص على أحاديثنا؟ حدثتني عن (ناجية) تلك التي كانوا يسمعون فحيح صوتها وهي تمارس الحب عبر جدران الأسطح التي تضيق بالأسرار والأصوات المبحوحة.. فتسربها من بين ثقوبها، لتأجج مشاعر السامعين وتدفع بالدم ساخناً في عروقهم.
لم تكن ناجية إلا عاشقة لذلك الزوج الذي يسافر عنها من آن لآخر إلى سوريا لجلب بعض البضائع فيعود محملاً بالشوق والحب والبضائع، لتنام ناجية في حضنه وتنسحق تحت أضلعه لا تبالي بصوتها المبحوح وهو يصل إلى اطراف الحي، فيعرف الجميع أن الغائب العاشق قد عاد..لم يكترث يوماً بكلام أهله بأن يتزوج بأخرى لأن ناجية لم تنجب له، ولم تكترث ناجية بأن بطنها لم يشم يوماً رائحة جنين، فقد كانت تحبل كل ليلة به، تحبل به ومعه بكل أنواع النشوة واللذة.. حكت لي كيف كانوا يترقبون عودته من السفر ليسمعوا فحيح الحب وأصوات النشوة..
وتمزقت نياط قلبي وهي تحدثني كيف كانت تحثو ناجية على جسدها التراب بعد أن مات وكيف رفضت أن تلبس إلا القماش الخشن، وكيف كان يجافي جسدها الفراش الناعم، وكيف رفضت خلاياها الطعام حتى لحقت به..
حكت لي عن (سعاد) تلك الهاربة من قسوة زوجها إلى علاقة مثلية تربطها بصديقتها التي كانت تجد في صدرها مهوى ومهرباً وملجأ من عنف رجل لا يعرف كيف يأخذها إلا بالعنف ليصل صوتها الرافض لجوانب الحي وأعطافه.. وتلذذه برفضها له ومقاومتها.. حتى تئن متعبة بين يديه وقد نال منها ما أراد.. تخيلت ملامحه وهي تنتشي بالظفر بعد أن يجهز على ذبيحته كل ليلة. تلك الذبيحة التي تهرب إلى الحبيبة تستلقي في أحضانها باكية بعد أن سال دمها وانتهكت خلاياها..
حكت لي كيف كان المجتمع يتقبل تلك العلاقات المثلية بكل رحابة صدر، لترى كل عاشقتين وقد خاطتا ثوبين لهما نفس اللون والتصميم لتدللا على حبهما وعشقهما أمام الجميع دون خوف أو وجل، بينما كان المجتمع يرجم كل امرأة ورجل جمع الحب بين قلبيهما!! حدثتني عن وردة تلك الطفلة الصغيرة التي تتنقلها أيدي الجيران عبر حيطان الأسطح رأفة بأمها وابيها من صوت بكائها الذي لا ينقطع كل ليلة، فتتناولها الأيدي والأذرع حتى تهدئا روعها بينما يروح والديها مستجيبن لنداء الحياة في جسديهما، غير مكترثين ببكائها وهي تتنقل من يد إلى يد ولا بافتضاح أمرهما أمام الجميع.. كان ذلك البكاء أحد المحفزات كي ينسل كل رجل هارباً إلى جسد امرأته.. متطلعاً إلى بحور النشوة راغباً في الولوج إلى أسرارها.. حكت لي عن أعراسهم وأفراحهم المتهدلة فرحاً وصدقاً.. عن العروس وهي تزف مغمضة العينين وأي رفة هدب أو حركة جفن تؤخذ كدليل إدانة يوجه إلى حياء العروس وعدم قدرة أهلها على شكمها وتطويعها.. العيون المغمضة والجفون المنسدلة هي دليل البراءة والحجة الدامغة أن تلك الفتاة متلحفة بالحياء متسربلة بحسن التربية.
بينما يفنجل العريس عينيه كي يرى أكثر عدد ممكن من الحاضرات اللواتي تتصاعد صدورهن وتنخفض وهن يراقبن زفة العروسين.. وتروح أحلامهن تنسج خيوطاً وقصصاً مترقبة لهن أو لأحباء يسكنون قلوبهن..
حكت لي عن الحجاج الأندونسيين وكيف كانوا يمارسون الحب أمام بعضهم البعض دون خجل أو حياء.. وكيف كانوا يترقبون رؤيتهم وهم خارجين من الغرف التي يستأجرونها من بيوت أهالي المدينة طالبين الاغتسال والتطهر كي يذهبون إلى الصلاة في الحرم وكيف تتأزر النساء تاركات نهودهن حرة طليقة تتكور على نفسها.. منتظرات دورهن في الاغتسال. تحكي وتحكي عن الأيام التي تتوق لعودتها وتلعن زمن التلفزيون.. الذي قتل العلاقات الاجتماعية.. وتجاهر بعدائها لعلب الكبريت التي يطلق عليها مسمى بيوت.. تحكي عن الحب وهو يسكن القلوب ويهرع مختبئاً إلى جوانح الناس.. عن الأرملة وهي تجد كل يوم من يقضي لها حوائجها ويخبز لها خبزها في الفرن.. عن (القفّة)* التي تترك فارغة على بوابة المنزل، ليملأها الجيران بكل احتياجات الأسرة التي فقدت عائلها..
تحكي وتشرد نظراتها بعيدا وكأنها تتوق إلى العودة وإلى السفر ارتجاعياً إلى ذلك الزمن.. تتعب من الحكايا وأنا لم أتعب من الاستماع.. تزجرني قائلة أن يكفي ما سمعتيه اليوم، أحاول نفخ أناها قائلة أن ليس هناك من يروي حكايات مثلها وأنها كان يجب أن تكون مذيعة في احدى الفضائيات.. تشيح بوجهها عني وتغض الطرف عن كلماتي التي تحاول رشوتها وتدفعني عنها.. وقد غشى جفنيها نعاس مجدول بأطراف الحكايا التي لم أشك يوما أنها تسافر معها حتى في إغفاءتها.


Amal-zahid@hotmail.com
*القفّة: سلة مصنوعة من جريد النخل

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved