الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 13th March,2006 العدد : 144

الأثنين 13 ,صفر 1427

البريد الهندي:
من كابول إلى بغداد (4)

* فاضل الربيعي
كان انطباع محسن أبو طبيخ أحد أهم رجال العشائر، حاداً ومثيراً للاهتمام عندما قال لمرافقيه فور سماعه أسئلة المس بيل، إنه وجد فيها شيئاً من الخشونة والاستخفاف بالشعب العراقي، وأنه ليعجب كيف يكون السياسي ضيق الصدر؟ أما المس بيل؛ فإن الانطباع الذي خرجت به من اللقاء وسجلته في رسائلها الشهيرة، فقد كان صاعقاً للبريطانيين وذلك حين كتبت تخاطب الكابتن ولسن نائب الحاكم العسكري، الذي تسميه (المخلوق غير الاعتيادي إلى حد كبير): كيف تكون حينما تدعى أنت إلى التوفيق بين أفكار سكان عشائريين لم يتبدلوا قيد أنملة في التفكير خلال الخمسة آلاف سنة الأخيرة؟ بدوره، لم يكن وليس مستعداً لأن يتزحزح عن تفكيره السقيم قيد أنملة؛ لأن هذه الخمسة آلاف سنة التي تتحدث عنها بيل، هي مجرد فائض في الوقت لا يعني أي شيء أمام قوة النموذج الاستشراقي الخارقة. بذلك تفاقم سوء التفاهم المبكر هذا بين رجال العشائر والضباط البريطانيين، والذي نجم عن أولى الاتصالات مع إدارة الاحتلال في أرياف الفرات الأوسط (النجف وكربلاء والديوانية).
عبر هذا التدهور في أشكال ووسائل الحصول على طريقة تفاهم مقبولة، عن المنزلق الخطير الذي كان الاستشراق السياسي يتجه نحوه، جارفاً معه كل هيبة وغطرسة وشراسة ضباط الإدارة البريطانية.
كما عبّر في النطاق ذاته عن معنى المنفعة التي سوف يجلبها ظهور فريق الحكام السياسيين على المسرح: الميجر ديلي حاكماً سياسياً في الديوانية، الكابتن مان في الشامية، الكابتن لاين في منطقة أبو صخير، الكابتن اشتن في لواء (محافظة) السماوة، الكابتن سوتر في منطقة الرميثة، الكابتن فيش في مدينة الكوفة، وأخيراً الكابتن ويب في منطقة عفك.
يصف أبوطبيخ وصفاً بليغاً أحد ضباط هذا الفريق من الحكام السياسيين، هو الكابتن بلفور الذي عين حاكماً سياسياً للفرات الأوسط بكل أقضيته ومدنه: (كان هذا الضابط رجلاً استعمارياً من الطراز الأول، فهو إلى جانب عجرفته وتعاليه؛ فإنه كان فظاً قاسياً عامل الناس وكأنه في الهند): وكان ضباطه المعاونون على شاكلته، ولعل ما بدر من هؤلاء الحكام السياسيين منذ تعيينهم في مناطقهم تجاه السكان من ظلم وتعسف، كان السبب الأعمق في تحريك المشاعر ضدهم لدى كل الطبقات ابتداء من الفلاح إلى الملاك إلى المثقف فقد أصاب الجميع شرهم وصلفهم.
ويضيف أبو طبيخ إلى هذا التوصيف، الجملة المثيرة التالية عن التغييرات التي قامت بها إدارة الاحتلال لمعالجة الآثار المحتملة التي أسفر عنها سوء التفاهم بين الضباط ورجال العشائر: ولكن هذه التغيرات والتنقلات بين الحكام لم تغير شيئاً. فكلهم إنكليز جاءوا من الهند وعاملونا معاملة الهنود.
في هذا النص الواضح من مذكرات الزعيم القبلي الذي كان على دراية حسنة ومباشرة، بالأساليب التي اتبعها البريطانيون في مسألة الأرض والنتائج المأسوية لسياستهم الزراعية، إذ كان من كبار الملاكين في الديوانية ولديه جيش من الفلاحين الذين تقاسموا معه مشاعر الذل والمهانة؛ يمكن للمرء أن يمعن الفكر بهذا النمط من الصور النموذجية للاستشراق. كلّهم إنجليز جاءوا من الهند ويريدون معاملتنا بوصفنا هنودا.
إن الطريقة التي جرت فيها إدارة ما كان يُدعى في الأدبيات السياسية البريطانية بلاد ما بين النهرين، والتي تراءت كما لو أنها امتداد لمملكة اوده (اوض) لا تعدو أن تكون أكثر من محاولة لاختبار نظريات مبتذلة، مبنية على سلسلة من الفرضيات المغلوطة والأوهام الاستعمارية. إن شعوره، كزعيم عشائري، بالضيق والنفور من تخيل البريطانيين له بوصفه راجا هندي وليس كفلاح كعراقي، يعكس بقدّر كبير من النزاهة والصدق، المعنى الفعلي لقضية الحفاظ على الخصوصية ومنع أو إعاقة أي محاولة لانتهاكها أو الاقتراب منها حتى.
إنه انطباع قوي يخلو من التحريف أو التلاعب بالمشاعر والوقائع، كما يعكس في مستوى مذهل من البساطة الحاذقة التي غالبا ما يمتاز بها الفلاحون، الطبيعة الرخوة ولكن المعقدة في الآن ذاته للتدابير التي لجأ إليها البريطانيون من أجل بناء شبكة اتصالات شخصية وسياسية مع زعامات الريف. ومن يعلم مبلغ الصعوبة في اعتراف الزعيم القبلي بأنه تعرض للإهانة الشخصية والسخرية والتلاعب، وخصوصاً في تقاليد الريف العراقي الخشنة وغير القابلة للاختراق، سوف يعرف مقدار الصدق في هذا النص. كانوا في الواقع لا يقيمون أدنى قيمة لما اعتبره خطاب مود من أولى واجبات حكومته: احترام الخصوصية؛ هذه التي تتعين المحافظة عليها مهما كانت الظروف.
ولئن كانت الصبغة العسكرية التي أضفيت على البلاد منذ الأيام الأولى من خلال إطلاق يد الضباط في إدارة أقاليم البلاد، وطبعت بطابعها سائر نشاطات قوات الاحتلال، وإلى الدرجة التي صارت معها تعني أمراً واحداً هو توسيع نطاق النزعات البوليسية وإشاعة وتعميم أساليب إهانة رجال العشائر؛ فإن انتشار العملة الهندية (الروبية - تساوي بالعملة العراقية 75 فلساً) وبالنسبة للفلاحين، لم يكن ليعني أي شيء آخر سوى تقديم دليل آخر أكثر سطوعاً في رمزيته على التهنيد العاصف؛ الذي بات يزمجر في سماء الريف العراقي كالقدّر المحتوم.
هذه الرمزية بطاقتها القصوى على كشف جوهر المشروع البريطاني في الريف، تجلت فيما عدّ نظاماً قضائياً (ما سمي مجموعة قوانين مناطق العراق المحتلة) التي صدرت في الأول من آب - أغسطس 1915م، والتي هدفت فعليا إلى اعتبار الريف العراقي (الجنوب) بأكمله كما لو كان إمارة من إمارات بومباي، حتى إن الجنرال هالدن HALDEN شبه الإدارة البريطانية للعراق بأنها بالفعل مماثلة للإدارة البريطانية في الهند. على هذا النحو تلاشت أولى الصور الاستشراقية وحلت محلها صور الواقع الحية: كلّهم إنجليز وكلنا هنود.
لقد أصبح العراق في مرآة الاحتلال وفي وجدان الفلاحين المعذبين امتدادا كولنياليا للهند، فيه كل ما يلزم من مشاهد متماثلة ومتطابقة لانتهاك الخصوصية. وآنئذٍ تبددت فكرة التحرير كلياً.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved