الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 13th March,2006 العدد : 144

الأثنين 13 ,صفر 1427

المختارات الأدبية وسياسيات الاختيار (1)

* سعد البازعي
قبل الدخول في تفاصيل الموضوع ينبغي أن أوضح الجانب الملبس في العنوان وباختصار شديد ف(سياسيات) ليست من المفردات الشائعة، ولكنها من المفردات التي تغدو ضرورية أحياناً لأنها تحمل دلالة لا تحملها المفردة الشائعة والبديلة (سياسة). ذلك أنه على الرغم من كون (السياسيات) مشتقة من (السياسة) فإن ظلال الدلالة ليست واحدة. السياسة هي مجموع المبادئ أو المواقف المتبناة في التعامل مع قضية أو ظاهرة أو ما شابه ذلك. لكن (سياسيات) (وهي ترجمة لمفردة politics الإنجليزية) هي كيفية التحرك لتطبيق سياسة معينة أو هي التكتيك السياسي، الخطوات المتبعة لتحقيق هدف ما.
وفي معظم الأحيان يكون ذلك الهدف غير بريء، أو متحيز بشكل فاضح لمصلحة صاحب السياسيات. وعلى افتراض أن المفردة أصبحت واضحة، ينبغي أن اتجه للمفردة الثانية، أي (اختيار). فعلى الرغم من كون المفردة معروفة، إلا أنني أطرحها للمناقشة لأنه شاع في الإعلام الثقافي العربي استعمال (أنطولوجيا) (التي تعد مقابلاً معرباً للأجنبية anthology) بدلاً من (اختيارات)، وهو تعبير ملبس لأنه يختلط بذلك الفرع من الفلسفة المعروف بالاسم نفسه. فالأنطولوجيا Ontolgoy هي المبحث الذي يعنى بالظواهر الخارجة عن الذات البشرية أو الذات العارفة، أي العالم بالنسبة إلى الذات أو العقل. ويعني هذا أن الأنطولوجيا تقع في الطرف المقابل للابستيمولوجيا، أو المبحث المختص بعملية المعرفة داخل العقل وامتدادها إلى العالم، أو ما يعرف أحياناً - خطأً - بنظرية المعرفة.. فهما إذاً مبحثان مختلفان أو متقابلان، ومن هنا أرى أن استخدام (أنطولوجيا) لهذا المعنى ملبس ولا مبرر له طالما أن مفردة (مختارات) و(اختيارات) موجودة ومتداولة.
سياسيات الاختيار بالمعنى المشار إليه ظاهرة تمتد من الفرد إلى الثقافة بمعناها الأشمل، ولا أظن أنه توجد ثقافة تخلو منها. فالاختيار بين شيئين يقوم دائماً على موقف ورؤية فردية أو جماعية والرؤية الفردية مهما تفردت واختلفت فإنها تعود في النهاية إلى موروثات اجتماعية وحرص وإن لا شعوري للحفاظ على المصلحة العليا للثقافة أو للجماعة التي تتبنى تلك الثقافة أو جانباً منها. وهو ما يأخذنا إلى ما أسماه ميشيل فوكو شيفرات الثقافة التي يهضمها الفرد منذ طفولته.
وإذا كان هذا لا يعني استحالة الخروج على الرؤية الجماعية فإن من غير المتصور أن يتفرد أحد ما برؤية أو ممارسة فكرية أو ثقافية منبتة تمام الانبتات عن المحيط والموروث. غير أن درجة القرب والبعد عن ذلك المحيط وذلك الموروث هو ما يميز فرداً عن آخر، بين مندمج محافظ يرى أهمية تكريس الرؤية السائدة ومتطرف يسعى إلى الاختلاف سعياً حثيثاً وينفر من الاندماج أو حتى التشابه.
لن ابتعد كثيراً فالموضوع لا يحتاج إلى المزيد من التنظير حول هذه المسألة، غير أنني وجدت مثل هذه التوطئة مفيدة لتوضيح ما أنوي الذهاب إليه حول سياسيات الاختيار. فقد تبادرت تلك المسألة الشائكة إلى الذهن وأنا أطالع بعض ما تفيض به المطابع الغربية من نتاج في السياق المشار إليه، أي من مختارات فكرية وأدبية لا تكاد تتوقف دور النشر عن الزج بها إلى معترك السوق الثقافي والأكاديمي تكريساً لهيمنة ثقافية باتت من مسلمات عصرنا وتحقيقاً لمكاسب مادية ليست مجال شك في كتب تبيع عشرات الآلاف من النسخ أو مئاتها إن لم تزد عن ذلك أحياناً. ولا يحتاج القارئ إلى كثير من الحصافة أو الخبرة ليكتشف السياسيات الكامنة وراء بعض تلك المختارات، وسأضرب لتلك مثلاً بنوعين منها، الأول ينتج باسم دار نشر كبرى ويقوم عليه عدد من المختصين، والثاني ينتجه فرد من الحقل الأكاديمي ويعبر من خلاله عن موقف فردي هو في النهاية معبر عن موقف جماعي إلى حد ما. يتمثل النوع الأول هنا بما تنشره إحدى أكبر دور النشر الأمريكية المختصة، هي دار نورتون Norton تحت عنوان (روائع العالم) أو (أعظم الأعمال العالمية) World Masterpieces والأعمال أو الرائع هنا هي أعمال (أدبية) بالمعنى الواسع للأدبي. فقد أصدرت تلك الدار مجلدين ضخمين عام 1956م أعيدت طباعتهما عدة مرات تحت العنوان المشار إليه.
وكان محتوى المجلدين أعمالاً (أدبية) امتدت من التراث العبري متمثلاً بالعهد القديم، مروراً باليوناني والروماني ثم المسيحي لتصل من ذلك إلى العصور الوسطى الأوروبية وعصر النهضة وما تلا ذلك عبر عصور الأدب الأوروبي حتى تاريخ صدور المجلدين.
وقد توفر على المجلدين سبعة من الأساتذة المعروفين آنذاك لعل أشهرهم رينيه ويليك المعروف بكتاب (نظرية الأدب). لكن المهم هو هذا التسلسل التاريخي الثقافي الذي لم يتردد جامعوه من نعته بالعالمي. فروائع الغرب هي روائع العالم، والعالم هو الغرب، وهل لدى العالم كلّه ما يمكن أن يعتز به الإنسان سوى تلك الأعمال التي أنتجتها أوروبا ثم أمريكا، وليس دخول العهدين القديم والجديد، وهما القادمان من خارج أوروبا، سوى أنهما صارا موروثاً أوروبياً/غربياً.
غير أن دار النشر الأمريكية نورتون شعرت بعد أربعين عاماً على صدور الطبعة الأولى أنه حان الوقت لمراجعة مفهوم العالمية في اختياراتها، فأصدرت عام 1997م طبعة ثانية من الكتاب الواسع التداول، بعد أن ضغطت في مجلد واحد تجاوز الألف صفحة وبتعديلات تمثل أقصى ما استطاعت الرؤية الغربية لمفهوم العالم أن تصل إليه. فقد اشتمل المجلد هذه المرة على أعمال من خارج النظاق الأورو- أمريكي ليدخل الموروث الصيني والهندي، بل وبعض الموروث العربي الإسلامي.
وقد حظي الموروثان الأولان، أي الصيني والهندي، بتغطية أشمل مما حظي به العربي الإسلامي، لكن كل تلك لم تحظ بربع ما منح للتراث الغربي الذي امتد على المساحة الأوسع من تراث الإنسانية وصفحات المختارات أو الروائع.. والطريف هنا هو النظر إلى النصوص الدينية بوصفها موروثات أدبية.
وهذه نظرة تطورت في أوروبا منذ القرن السادس عشر على يد سبينوزا، حين أخذ مفكرو أوروبا وأدباؤها ينظرون إلى التوراة والإنجيل بوصفهما أعمالاً أدبية. فمن المنطلق نفسه أدخلت بعض سور القرآن الكريم بوصفها موروثاً أدبياً إسلامياً. كما من المنطلق نفسه أدمجت أعمال أدبية فارسية قديمة مع أعمال أدبية عربية حديثة لتشكيل ما اعتبره المحررون (تراثاً أدبياً إسلامياً). فنجد من هذا المنطلق مختارات من ملحمة (الشاهنامة) لفردوسي إلى جانب مختارات من (ألف ليلة وليلة)، وعملاً قصصياً لنجيب محفوظ!!
ولعل هذا الاختيار الأخير، على أهميته، مثير للعجب، فمحفوظ دخل بطبيعة الحال نتيجة لجائزة نوبل وليس لأنه أهم كاتب في تاريخ العربية. أما (شاهنامة) فردوسي أو (كتاب الملوك) فإدخالها طبيعي لأهميتها بطبيعة الحال، لكن اختصار كل الأدب الفارسي بمختارت منها فيه إجحاف أيضاً لتراث أدبي عريق.
هذا مع العلم بأن الشاهنامة تغطي تاريخ فارس من الألف الثالث قبل الميلاد حتى الفتح الإسلامي وتتألف من ستين ألف بيت، أي سبعة أضعاف إلياذة هوميروس.
أما الأدب العربي فمتثيله بألف ليلة وليلة ومحفوظ فيدل مرة أخرى على حدود المعرفة الغربية بتراث الشعوب الأخرى، ولاسيما لدى غير المختصين بتلك الآداب من المستشرقين مثلاً، ممن لا يتاح لهم المشاركة في تلك الاختيارات عادة. كما أن ذلك التمثيل، شأنه شأن غيره من التمثيلات لآداب الشعوب الأخرى، يحمل دلالات سياسية واضحة تشير إلى تمركز غربي قوي ما زال يهيمن على رؤية الغرب للعالم.
قد يقول قائل هنا: أليس من الطبيعي أن يكون لدى الغرب تمركز تجاه نفسه، أي أن يعلي من شأن ثقافته في مقابل الثقافات الأخرى؟ أليس هذا موجوداً لدى الثقافات الأخرى بنفس القدر؟ والإجابة هنا ان نعم من الطبيعي، كما أشرت في مقدمة هذه الملاحظات، أن تحكم السياسيات حدود الاختيار، لكن المشكلة هي في تأثير ذلك على الشعوب الأخرى نفسها، أولاً من خلال انتشار نظرة أحادية لدى الغرب تجاه نفسه وتجاه الآخر تؤثر في علاقة الغرب بالشعوب الأخرى وفي تعامله معها، وهو في موقع القوة والهيمنة؛ وثانياً، تؤثر تلك الرؤية على الشعوب الأخرى حين تتبنى تلك الشعوب نفسها رؤية متأثرة بالتمركز الغربي نفسه، فنجد من يقصر صفة العالمية على الغرب فقط وينظر لنفسه نظرة دونية.
تخيلوا مثلاً لو أن مختارات أدبية أنجزت في بلد عربي وسميت (مختارات عالمية) ثم لم تشمل من آداب الغرب كلّها سوى عملين أو ثلاثة؟ ألن يضج المثقفون ويعدو ذلك ضيق أفق وفشل ذريع.
إننا، هنا كما في مناطق العالم غير الغربي، أقرب إلى أن نختار مما لدى الغرب أكثر مما نختار مما لدينا، لأن العالمية لدينا، وليس لدى الغرب وحده، تكتسب دلالاتها من الثقافة الغربية نفسها.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved