الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 13th March,2006 العدد : 144

الأثنين 13 ,صفر 1427

استراحة داخل صومعة الفكر
جداول وينابيع عبد الرحمن سليمان رفه

* سعد البواردي
حيث تكون الجداول والينابيع يحل الربيع بخضرته وبهجته.. بعطوره وزهوره.. بنمائه وغذائه.. شاعرنا اختار لديوانيه الأحلى والأغلى.. هذا ما نحاول معاً تلمُّسه من واقع سطوره ومضامين شعوره..
بداية (بينبوع الحياة) هذا ما استقبلنا به في حفاوة وسخاء.. إنه الشعر.. بل إنه المشاعر التي تصوغ الشعر كلمات مموسقة وموحية بأجراسها وإيقاعاتها:
الشعر ينبوع الحياة وانه
لتجارب منها السنا يتسرب
ورؤى يطاردها الخيال مفذة
لينال منها ما يُعز ويُرغب
يرنو إلى الآفاق وهي بعيدة
وإذا استثير فكل شيء يقرب
بيته الأخير أجمل أبياته الثلاثة سرداً وحبكة.. ولأن الشاعر عادة يحلِّق بفكره يلتقط صور ما يدور حوله ويصوغها شعراً هكذا فعل شاعرنا (الطائر) يخاطب طائراً.
يا طائراً فوق الغصون يغرد
يهنيك غصنك دائماً يتأود
يا طير أنت كما نراك مغردا
صداح دوح لا لشيء تقصد
يا طير قل ما الذي كابدته
وعليك من حلل الربيع زبرجد
الشطر الثالث قبل الأخير تنقصه مفردة (لي) كي يستقيم وزنه هكذا يصح (يا طير قل لي ما الذي كابدته).. مقاطع ثلاثة انتزعتها من قصيدته الطويلة التي ناجى فيها طائره وبثه فيها عظته وشكايته.. وأخيراً دعوته للإنصات:
يا طير اصمت واستمع لشكاتنا
وكفاك منها أنة تتردد
فلسوف تدرك ما يعاني مثلنا
وتقر عينا بالذي تتزود
يريد من طيره أن لا يغني لأن غنوته لا تغنى في جو مشبَّع بالحزن والسهد والوجع.(الحياة) في لغته أخلاق، ودروس مستفادة هكذا قال عنها:
لي في حياتي، والحياة معابر
تمضي بكل معانق أو مدبر
درس وطأت بساطه في نهزة
ملأت كؤوسي في حياة تذكري
فإذا لقيت أخا الضغينة لم أكن
ألقاه إلا باسماً كالمزهر
وأمد كفي صافحاً ومصافحاً
في غير عتب عن جناية موغر
من يقدر على هذا الكتمان والصفح يا صديقي.. من السهل كتابته ومن الصعب تطبيقه في زمن تهادت فيه المشاعر.. وتداخلت فيه الأهواء.. الحلم أخلاق.. (البدر كان لعاشق ترنيمة) عنوان قصيدة اجتزئ منها الأبيات ذات الدلالة.
المجد ويحك في عزائم أمة
هبت لتبني مجدها بمضاء
نالت عزتها وشادت حصون قوتها.. ونالت من العلم أرقى ما فيه من أجل تحقيق التطلعات والأماني.. هذا ما أوحت به أبياته.. لكنه أيضاً يشير إلى عظمة العلم، وجسارة وجدارة العلماء الذين امتطروا مخاطر غزو الفضاء ونجحوا..
فالبدر كان لعاشق ترنيمة
واليوم أمسى مطمح العلماء
صعدوا إليه على مطية عالم
عرف الطريق بعلمه المعطاء
دعوة إلى التقدم في عصر لا مكان فيه للتخلف.. ومن قمر الفضاء إلى قمر الأرض تريد بنا القافلة أن تهبط أمام عنوان (قالوا فلان قد سلاك) حيث عاطفة الحب.. وحيث التساؤل:
أتراك ليلى قد نسيت لقانا
في روضة مخضلة الأغصان؟
ولياليا مرت بنا في موكب
تغشاه منا فرحة الجذلان؟
أبيات توصيفية أخرى تسبر بدر السماء بعنونة وكأنه يكشف لهما ساحة اللقاء في غيره.. أما الكواكب فقد اختصرها الشاعر في قوله:
وترى السماء فما ترى من كوكب
إلا كواكب صدرك الظمآن
فأمد كفي نحوه.. فتردها
أنفاس صدر ناهد نشوان
غزل لا يعرف الغموض ولا التردد يمتد طويلا طويلا عبر أبيات طويلة تنتهي بهذه النهاية:
تهفو القلوب إذا ذكرت لعاشق
أغراه منك تلطف الوجدان
فلديك ألفيت الكرامة كلها
ولديك عشت موطد الأركان
ليلاه موطن حب.. وليلاه أيضاً وطن حب تغنى في أبيات كثيرة.. الوطن أيضاً كان لعاشق ترنيمه.
لضيق مساحة الدرب تجاوزت قصائد ترتبط بمناسبات قضت وانقضت.. وأفسحت الفرصة المتاحة لأخواتها دون مفاضلة..
(للعيس ليلي).. عنوان.. وللعيش مضمون طغت ملامحه منذ الوهلة الأولى
للعيس ليل ما ترين وغاية
لم أدر أين مقرها في السير
ولأجل عيش قد نأت أوطانه
فلك الهناء مصانة في الخدر
عشرون عاما قد طوينا عهدنا
في خير حال مفعم باليسر
فدعي الذي خفته وتجملي
بالصبر أنتِ حرية بالصبر
لا ندري من يعني في خطابه.. إلا أن الدلالات توحي وتشير إلى أم أولاده التي شاركته حياته وخاف عليها أن ترحل مخلفة أطفالا خشي عليهم الضياع وافتقاد حنان الأمومة..
ما كنت يوماً نازعا لفراقكم
كلا ولا كان النوى من أمري
فإذا قضيت من الفراق لبانه
ورجعت رجعة كلما فر ذي يسر
فلسوف نحمد للفراق زمانه
ونعيش عيش مودع للعمر
عل المياه عادت إلى مجاريها..
(حمامة الأيك) المسالمة الباكية أقضت مضجعه.. ناشدها أن تغرد بدلاً من النوح.. أن تبوح بسر شكواه له.. ربما لأنه الطرف الثاني.
وربما لأنها حواء في سلامها:
أحمامة الأيك المحطمة غردي
ودعي البكاء فإنه لا يجدي
وخذي بأسباب الحياة لعلنا
فيما نعاني نلتقي بالمنجد
ولعل عهداً قد أضعنا عنوة
فمضى وليس لعهدنا من عهد
إنه يستعجل العودة تحت مظلة (عفا الله عما سلف) كي تعلو في سماء الدار الأعلام.. ويرخي السلام برواقه.. الحمامة امرأة.. شاعرنا رفه يتمنى.. وكلنا نتمنى:
أماني النفس قد عظمت ولكن
بما نهواه قد ضقت احتمالا
أرى الدنيا فيبهرني سناها
وعند الخبر افتقد الجمالا
الأنثى جمال روح قبل أن تكون جمال جسد.. أجمل ما في شاعرنا قصائده القصيرة التي تختزن الفكرة وتطرحها من باب ما قلّ ودلّ أفضل مما كثر وملَّ. كهذه القصائد الموجزة.
دعيني فيك اعتسف القوافي
وارسلها كصاحبة الخرافي
فجوُّ الحب أوسع من فيافي
أراها اليوم تنزع لاختطافي
والثانية عن الشعر وعذال:
للفت الدهر لا أخشى الملاما
من العذال أو ألقى الحماما
فحسبي منك أن أهدي سلاما
وحسب الناس إن راموا انتقاما
قراءتي لشعر شاعرنا أفرغت في محصلتي حصيلة تقول عن شعره.. فيه الجيد.. وفيه ما دون الجيد.. وأخال ديوانه حصيلة مراحل من عمر تشكَّلت من خلالها تجربته الشعرية المتدرجة، تطورت مفرداتها وصياغتها.. الشعراء ينفعلون أحيانا.. ويفتعلون أحيانا وعلى قدر اختمار الفكرة واستعدادها يتحدد مستوى الثمرة ومذاقها..
(شبح الرقيب) من تلك المقطوعات الموحية بجمالياتها وأسلوبها:
قالت فديتك ما الذي تخشاه؟
فأجبت: روضك عندما أغشاه
أرنو إلى الغصن النضير مضمخا
وعلى الروابي حارس أخشاه
يرنو إلي وفي يديه مهند
قد جردته بصري عيناه
قالت فديتك انه هو والدي
حامي العرين فلا تمل لقاه
فيه الصرامة لا يرى متسللا
في الحي إلا بالقنا أرداه
فدع التلكؤ لا يلاك بجانبي
وخذ الحذار فإنني أخشاه
حوار رائع.. يؤكد مقدرة شاعرنا إذا ما تأمل وأحسن الاختيار صياغة أفكار مكتملة العناصر ناضجة الثمر.. وهذا ما أرجوه.
ثمرة ناضجة أخرى تحت عنوان (سلوها)
سلوها كيف روعها حديثي
فلانت بعدما أبدت جماحا
سلوها كيف صورها خيالي
ملاكا ضل مضجعه فناحا
من هذا المستوى نطلب المزيد يا شاعرنا
الحذار من اللوم صوت استنكار يأباه ويرفضه لا لشيء إلا اعتقاده أنه على جادة الحق والصواب:
أنا لا أعيش كما تريد وإنما
لي عيش حر يأنف الاذلالا
ما راعه ظلم الحياة ولا ارعوى
عما يريد ولم يكن ضآلا
يهفو إلى العيش الكريم وغاية
هي للأباة تؤكد الاجلالا
من حق شاعرنا علينا أن نقف إلى صفه مشاركين مباركين.. الحرية مطلب.. والتخلي عنها إذلال واستغلال ونقيصة..
فالذل مرٌ لا أطيق مذاقه
فحذار لومي واتركي الأمثالا
الأمثال الكثيرة التي نقرؤها ونستدل بها ونضربها لغيرنا فيها ما يجل.. وفيها ما يُضل ويعمي.. إنها أي بعضها متناقضة في مغزاها..
العيد ينتظره البعد في شوق.. يطربون له، يزغردون ويرقصون لأن أعيادهم في قصورهم وفي خزائنهم المتخمة بالمال.. وفي المقابل ينتظره الطرف الآخر وفي حلقه غصة ألم.. وعضة جوع.. ولوعة فراق.. ودوامة ضياع.. أما هو:
يا ليل عيدي لم يعد لي مؤنسا
في ظل يأس قاتل وعنيد
رحماك ليلي فالحياة جميعها
أضحت كقيد آخذ بالجيد
في أسره نفسي تلوذ بربها
وتمد كفا ضارعا في العيد
رأت اليتامى ليس في آماقهم
إلا الدموع ونظرة المفؤود
يا ليل ان كان الصباح قد انطوى
فلتطونا مع صبحنا المنشود
جميلة من شاعرنا صورة وخواطر الإنسانية الإيمانية التي رسمها بريشة عاقلة مدادها إيثار.. أوتارها قيثار تنجاب إليه النفس..
نطوي الصفحة تلو الصفحة.. نقرأها وما نلبث أن نتذكر صفارة قطار الرحلة يستعجلنا كي لا نتخلف.. كان علينا أن ندع الكثير مما نرغب اقتناءه من مقتنيات نرغب الاحتفاظ بها أو الاطلاع عليها.. ورغم صفارة القطار كان الاختيار لهذا الخطاب الباسم والمرح عن العذارى:
سألت القوم ما بال العذارى
يزاحمن الشباب على الرصيف
ويمشين الهوينا في ثياب
قصيرات من النوع الخفيف
ويرسلن الشعور مقصقصات
كشعر التيس، أو شعر الخروف
القوم الذين سألهم صامتون.. لا يعرف جوابهم رغبة، أو رهبة..! كما تذكر العذارى وذكَّر بهن فقد اختزن في ذاكرته صورة حواء أخرى كان له معها هذه الوقفة:
كم ذا إليك تهزني الأشواق
والقلب يهفو للقا تواق
والعين سهرى لا تذوق منامها
والطرف يشكو دمعة مهراق
مثل هذه الشكوى مررنا بها وأكثر.. ماذا بعد التأوه والحنين؟ والصد أيضا..
فدعي العواذل والوشاة فإنهم
رشقوا بنبل نحونا ينساق
فتمكن النّبل الأثيم نصاله
وسرى بخبث كله إملاق..
ونهاية الوشاية دائما جارحة تلعب لعبتها في دنيا العاشقين.. هل استعاض عنها بمن سامرها ذات ليلة..؟
وربة ليلة سامرت فيها
غضيض الطرف، والظبي الأغنا
وبات البدر في كنفي نجيا
يزف لمسمعي لحنا فلحنا
عليه من الاباء خمار عف
وفيه من الحياء جميل معنى
توصيف طبيعي لا غبار عليه.. فقط ذرة من غبار على مفردة (وربة ليلة) انه يقصد (ورُبّ ليلة) وأيضا (خمار عف) ويقصد (خمار عفة) وددت لو تداركهما تصحيحا في طبعة قادمة.. أعود عن السمر وحكايته.. بل نهايته:
فديت عيونه قد أسكرتني
بكأس اللحظ فرادا ثم مثنى
فغبت عن الوجود وجود حسي
وظل العقل يدرك ما تمنى
نهاية سمر استطاب.. وانتهى بقبلة غيبتة ولكنها أسعدته.. هكذا يحكي:
(طبيعة الغادات) متقلبة المزاج.. وحين ترسم خطها فإنها لا تتوارى وراء حائط الصمت ولا المجاملة.. إنها جريئة:
فقالت وهي تنظر نحو وجهي
إلى شيب يلوح كما السراب
رعاك الله قد ولى زمان
وعهد كنت مصقول الاهاب
فلولا عطفك السامي لقلنا
طواك الدهر عنا كالكتاب
صمت الشيخ عن الجواب.. لأن في شيبه وقار الحكمة، وحياءها..
شاعرنا عبد الرحمن رفه لا يجهد خطاه السير.. ولا المنادمة.. ولا المناجاة.. ولا الإبحار في العيون التي تقتل بسحرها وتموجاتها.. فمن غزل إلى غزل.. ومن تردد إلى تجلُّد:
قالت تملَّكك الذهول: فقد لا
هو بعض ما ألقاه في لقياك
لولا التّجلد كنت شخصا هالكا
يغنيه منك إذا رنت عيناك
الذهول مرحلة تسبق الغياب عن الوعي تفضي إلى جنون الحب.. أو جنون العقل أيهما جاء الموقف..
موقف غرام لا دفاع عنه:
تبسمت الحياة لنا، ولكن..!
أبينا أن يدون لنا ابتسام
واعطينا الزمام فما حفظنا
فضاع الحق.. وانفلت الزمام
فسجلنا بأيدينا سجلا
مهينا كل أحرفه ظلام
الاعتراف صوت ضمير لا يقوى عليه الجبناء.. شاعرنا يتملَّك ناصية شعر بلاغي يختزن الفكرة في أضيق المساحات كأبياته عن الضدين:
إني أعيش وما شربت مدامة
سكران غير معربد أو صاح
ضدان يجتذبان كل مشاعري
كسفينة في قبضة الملاح
ما ضل ركاب السفينة إنما
ضل الشراع دربه في الساح
للشاعر صور في الحياة وتجارب انتزع منها بعض المواقف:
أنا لا أخاف منية تغتالني
لكن أخاف رذيلة تغشاني
إني خبرت من الزمان أناسه
أعمالهم كقوارض الجرذان
يلقاك باسم ثغره وفؤاده
يغلي عليك كمرجل النيران
عاملت أكثر من رجوت إخاءه
يبقى.. فكانوا هادمي بنياني
لكنني.. وبرغم ذاك فإنني
أعطي الوفاء برغبة الإحسان
وأمرّ عن هفواتهم متجنبا
ما قد يثير كوامن الأضغان
أبيات عظة.. ومواعظ.. وأخرى:
عركت الناس حتى لست أدري
وقد لاقيت ظلما واضطهادا
وعاملني الرفاق بكل غدر!
فمن اصفيه قلبي والودادا؟
هذه نصائحه.. وكما ينصح هو يُنصح.. أخته هذه المرة تعطيه العظة..
قالت: فديتك يا ابن أمي لا تكن
حجراً ولكن بلبلا غريدا
واصدح على فن الحياة بما تشا
لحن الخلود. ولا تكن عربيدا
وتذكِّره بماضي الآباء والأجداد المجيد:
واذكر زمانا قد طوته حوادث
غالت بنيه.. سادة وعبيدا
كانوا جميعا لا يبالون الردى
وإذا تمثل قابلوه أسودا
شادوا الحضارة بالعلوم وأيقنوا
ما للجهول لدى الحياة خلودا
وأخيراً مع نفحاته الزكية عن طيبة الطيبة التي احتضنته يتيما.. وأحبته مقيما على ترابها، وحول تراثها..
نفحات طيبة.. وهي أطيب نفحة
هبَّت فصرت بطيها نشوانا
أشدو كما تشدو الطيور على الرُّبا
وأصوغ من لحن السنا ألحانا
منها وفيها قد نشأت يتيما
حرا أبيا لا يطيق هوانا
جميل معك أن تكون قفلة الرحلة روحانية مع مدينة مع أهلها محببة إلى النفس.. وجميل أن أقضي معك برهة زمن في صراعك مع الحياة.. والحب.. تارة أشعر بإخفاقك، وأخرى أشعر بأنك تحلِّق.. لقد عشت مرحلتك.. خاطبتها بما تعقل أسلوبا وخاطرة.. أدَّيتَ ما عليك.. سعدت بأن أكون أحد ضيوفك في دعوة مائدتها (جداول.. وينابيع) اغترفت منها ما بلَّ الظمأ.. وهذا يكفي؟


الرياض : ص.ب 231185
الرمز : 11321 فاكس : 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved