الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 13th March,2006 العدد : 144

الأثنين 13 ,صفر 1427

تركها أمانة للتاريخ
لوحات الرضوي أسرار ورسائل سلام

* إعداد: محمد المنيف
بعد رحيل رائد التشكيل السعودي الفنان عبد الحليم رضوي يوم الأحد الماضي لم تتوقف رسائل الجوال بين الفنانين من مختلف مناطق المملكة تحمل عبارات الأسى والترحم على فقيد الإبداع التشكيلي، إذ لم يكن الرضوي رقماً أو اسماً هامشياً أو متسلِّقاً على الفن بقدر ما يحمل تاريخاً ومؤسسة إبداعية على كاهله سنوات عمره الطويلة، وإذا كان الأمر طبيعياً أن تتقارب قلوب الفنانين وتتعاطف في مثل هذا الموقف فإن هناك أيضاً جانباً يستحق الاعتزاز به وبما يعنيه التفاعل بأن يتلقى الفنانون تعازي جمهور عريض من عامة الناس المثقفين منهم وغيرهم مؤكِّدين ما كان قد حققه الراحل الرضوي من تواجد في قلوب الناس شأنه شأن رفيق دربه الراحل محمد السليم، فهما وجهان لعملة واحدة قيّمة يتم تداولها في بنوك اسمها قلوب الناس التي لا يمكن أن يتعامل معها أو تقبله إلا من كان مستحقاً للحب والمحبة والتقدير، فمن السهل أن نمسك فرشاة وأن نستعرض قدراتنا على اللوحة ولكن لا يمكن أن نسيطر بها على مشاعر الآخرين ونكتسبها إلا حينما نصدق النية ونخلص العمل، هذه هي مقومات الجسور التي بناها الراحلان السليم والرضوي في مسيرتهم فأصبحا علمين من أعلام الإبداع والثقافة ومن أركان تاريخ حضارة الوطن المعاصرة.
لم يكن الرضوي فناناً آلياً يقوم بدهان اللوحة وتنميقها لمجرد أحداث ما يثير الآخرين ويتلقى بها إعجابهم، بل كان يحفر اللوحة بأزميل صهر في نار الحياة الصعبة، لم يكن الرضوي - رحمه الله - مولوداً وفي يده ملعقة من ذهب، بل كان يتيماً يبحث بعمله الشريف ما يسد رمقه، لهذا فتعامله مع الفن تعامل حميمي ممزوج بالعاطفة أحال بها اللوحة إلى صندوق أسرار في كثير من الأحيان ورسائل حب للآخرين في أحياناً أخرى ظاهرها جميل يزهو بالخطوط والألوان بمضمون مفعم بالسلام ومحبة كل من التقى به.
***
الدعم الرسمي في حياته
كان الرضوي - رحمه الله - يجد الدعم المتواصل من المسئولين في الدولة وكان محط أنظارهم، فعلاقته بالرئيس العام لرعاية الشباب الراحل صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد - رحمه الله - متميِّزة، تبعتها علاقة لا تقل أيضاً مع الرئيس العام لرعاية الشباب حالياً صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن فهد وسمو نائبه الأمير نواف بن فيصل. تشرّف - رحمه الله - بأن مثَّل المملكة في كثير من المناسبات، وتشرَّف بأن افتتحت معارضه الداخلية والخارجية من شخصيات رسمية وعالمية.
***
رحيله يكشف محبته
لا يمكن لأي مبدع مثل الراحل الرضوي أن تخلو حياته ومسيرته من منافسين يختلف معهم ويختلفون معه في مجال الإبداع إلا أن هذا الأمر مع ما حمل من شكوك وبما أضيف إليه من مسميات أو صفات كانت في غالبها تسيء إليه وكان - رحمه الله - يتقبلها بصبر جميل أضعف قلبه وضاعف آلامه تبقى خارج محيط الإنسانية التي لا يمكن أن يدنسها اختلاف رأي أو عبارة شاردة أطلقها من لا يعي معناها، لهذا كان أكثر الناس أسى وافتقاداً له هم من كانوا مختلفين معه مما يدل على أن القاعدة التي ينطلقون منها مبنية على صدق المشاعر بينهم جميعاً مدركين أنه سيأتي يوم يرحل عنهم ويترك لهم كل ما كان سبباً في خلافات لا طائل منها معهم، هذا الإحساس والعودة إلى حقيقة العلاقات الإنسانية جمعت قلوب التشكيليين كما كان يتمناها الرضوي في حياته ومع هذا ففي كل رسالة تضمنت دعاء له بالرحمة والمغفرة رصيد كان يجمع له دون علمه في قلوب محبيه.
***
رهافة إحساس ودبلوماسية
عرفت الفنان الراحل قبل أن التقي به، كنت أتابع عطاءه وأنا في المرحلة المتوسطة، ثم التقيت به بعد تخرّجي في أول معرض للفنانين التشكيليين أقامته جمعية الثقافة والفنون عام 96هـ وتوالت اللقاءات في كل مناسبة تشكيلية كان منها معرض الجنادرية الأول مع نخبة من الفنانين الرواد والشباب من بينهم الرواد الفنان السليم والرضوي واليحيا، كان لقاؤنا بالراحل بمثابة الدورة بما نتلقاه منه ومن زميله الفنان السليم من توجيهات وإشادات لا تنقطع، كان فيها الرضوي دبلوماسياً لا يمكن أن يجرح أو يقلِّل من إبداع أي إبداع لموهوب مع حرص على أن يتعرَّف على الأعمال والأسماء الجديدة، كان بيني وبينه تواصل عبر ما ننشره في الصفحات التشكيلية كان - رحمه الله - يتقبّل نقدنا لبعض الجوانب المتعلّقة بأعماله بروح رياضية، أتذكر منها ما علقنا عليه حول أحد الأعمال فجاء اتصاله الهاتفي يحمل عبارات لا يمكن أن يتعامل بها إلا مبدع مثل الرضوي وبحجم قامته الإبداعية كانت كلماته الأبوية وتوجيهاته ما زلت أحملها في ذاكرتي كلما شاهدت خبراً له أو صورة للوحة من لوحاته، كان معلماً في أسس النقد أضفى عليها الكثير من خبراته.
***
هذا العشق الذي لم يفارقه
الفنان الرضوي مسكون بإبداعه إلى درجة العشق لم تكن اللوحة والألوان تفارقه مهما كانت الظروف كان يحمل أدواته في سفره وفي إقامته يرسم في الطائرة والقطار وعند مواقف الباص يحمل ألوانه التي تتناسب مع الظروف أحياناً ينتج أعمالاً بالألوان المائية وأخرى زيتية كانت مراحله الأخيرة تتسم بالشفافية ورهافة الحس مع تمسك بروحه وأسلوبه الفني كان يرسم وهو على سرير المرض حينما جاء إلى الرياض عند تعرضه لوعكة صحية أجريت له فيها قسطرة للقلب فرسم بشفافية نظرته للحياة قلباً كبيراً تحيط به طيوره التي ترافقه أينما كان. قال لي عندما زرت معرضه الأخير في أتيلييه جدة وقت وجودي لتغطية معرض الفنان ضياء عزيز إن لا بقاء إلا للفن الحقيقي، مشيراً إلى بعض التجارب الحديثة والسريعة الذوبان تأتي سريعة وتذهب أسرع دون أن تبقي في ذاكرة المتلقي أي أثر. كان - رحمه الله - متمسكاً بخطه ونهجه مع ما يطرأ عليه من تطوير وتحديث دون المساس بثوابته ومصادر إلهامه وعناصره وألوانه. عشق الرضوي الوطن بكل تفاصيله أرضه وسماءه جباله ورماله وبحاره، رسم أنماط منازل وأنماط الحياة ووجد في طائر النورس معنى كبيراً للسفر والترحال والغربة ثم عقد صفقة أزلية مع السلام ورمز الحمامة أحال بها لوحاته إلى شعار عالمي يتنقل به من بلد إلى آخر يحمل معه روح ورائحة الوطن وطن الإسلام والسلام.
اتصل بي - رحمه الله - بعد افتتاح الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز لأحد معارضه في إسبانيا وهو مندفع اختلطت حروفه بالجمل والعبارات نتيجة سعادته بهذا الحدث الذي رعاه الأمير سلمان وشرّفه بالافتتاح ابنه فيصل معلقاً أن المعرض كان يحمل رسالة السلام للعالم وسوف ينقله إلى مواقع عالمية أخرى كان يشرح تفاصيل المعرض وينقل ما تضمنته اللوحات من رموز ومعان سامية تنبع من الإسلام وتدعو للسلام، هكذا كان وهكذا أعطى وبهذا المبدأ اختتم رحلته الكبيرة والمهمة في تاريخ التشكيل السعودي.
***
منافسة وإثبات قدرات
أخذ على الفنان الراحل وجوده ومساهماته المباشرة في ما أنتجه من معارض ومن مجسمات وأشكال جمالية احتلت كثيراً من أهم المواقع في محافظة جدة والرياض، وينبع، توقع البعض أن وراء هذا الحضور دعماً خاصاً مع أن الحقيقة تبرز في تحرك الفنان الرضوي وديناميكية إنتاجه الذي لم ينقطع وتحمله مصاعب التجول بأعماله باسم الوطن مثبتاً وجوده على المستوى العالمي فكانت تمثّل بطاقة تعريف للآخرين ممن لديهم إمكانية الاستفادة من هذه الطاقة على مستوى الوطن أن يقدروه ويستقطبوه ويمنحوه الفرصة مع ما أتيح من فرص لمن هم على شاكلته، لم يسع الرضوي بعلاقاته وإنما كانت أعماله نوافذ يطل منها الآخرون على ما يمتلكه من عطاء حقق له الشهرة  والحضور الدولي فأصبح رمزاً تشكيلياً عربياً وعالمياً.


monif@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved