الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 13th June,2005 العدد : 110

الأثنين 6 ,جمادى الاولى 1426

الرحلة اليمانية (12)
بين يدي صنعاء كانت لنا أيام بلقيس ما زالت على قيد الحياة في صنعاء!!
خالد أحمد اليوسف
لم يكن أمام الأساتذة/ فهد المصبح وناصر الجاسم وعبد الرحمن المحسني ومنصور المهوس إلا أن يتبنوا ويطرحوا أسئلة واستفهامات عريضة لصديقهم الخامس؟؟ تتالى نسجها والتفنن في ألوانها كي تفرش له خالد اليوسف بسهولة مبسطة، وبعبارات منمقة لكي تقع ويقع في شباك الإجابة الغامضة عنهم حول أرض اليمن السعيد!!
كنت أرغب طوعا أن يكتشف كل واحد منهم أرض اليمن بإنسانها وكيانها وتاريخها الطويل، وماضيها المحلق في آفاق بعيدة، وحاضرها المتشبث بالتاريخ وكأنما هو يقول:
هنا التاريخ أيها العاشق للعصرنة والتغريب ما زال على قيد الحياة ينعم برغد النعمة الشامخة بالبناء والإنسان، هنا أصلك وعروقك وجذورك الموزعة على خارطة الأرض الكبيرة، ما زالت تحافظ على حياتها، هنا الشموخ والحرية والفكر والإبداع، هنا الدين الحق كيفما تشاء تعبد الله الواحد الأحد، هنا العروبة باعتزازها وموطنها، هنا صنعاء بوابة الزمن.
كنت صامتا لا أجيبهم عن أي شيء يرغبون معرفته عن صنعاء الأرض والإنسان صنعاء بلقيس وأروى وقبلهما سبأ، حيث إني سبقتهم لهذا في منتصف عام 2002 م لاكتشاف صنعاء أمام نفسي وذائقتي ومعرفتي، حينما زرتها لحضور المهرجان الرابع للقصة والرواية في اليمن ورافقت الأديبين/ يوسف القعيد الروائي المصري الكبير وسعيد يقطين الدكتور المغربي المتخصص في البنيوية والنقد الحديث، وكنا حينها في ذهول أمام صنعاء وأدبائها وأدبها وكرمهم الباذخ، كنت معهم أسير في طرقاتها صنعاء ولست معهم؟؟ كنت لثلاثة أيام أو تزيد أثناء الرحلة وبعدها في عودة إلى مسقط رأسي حي دخنة وسط مدينة الرياض، وأنا أتمثله في صنعاء، حيث كان اليمني هو سمة تلك المرحلة وذاك الحي المجاور لسوق المقيبرة، رأيت القمصان الملونة والمحزم العريض هنا الجنبية والإزار الملون القصير، فعدت دون إحساس وإرادة إليه، من هنا جاءت الأسئلة إلى تتراكض على ألسنة أصدقائي السالف ذكرهم، وكأنهم يلحون على هذه الذاكرة كرة ثانية!!
بدأت الرحلة في أرض مطار صنعاء والساعة الثالثة ظهرا ليوم الخميس 26 مايو والأديب زيد الفقيه والقاص منير طلال والقاصة بشري المقطري ونحن الخمسة في لقاء أخوي رائع لا ينسى، ثم تبدو لك المدينة الممتدة إلى الأعماق التاريخية، يتتالى شيئا فشيئا إلى أن تصل مكان السكن في فندق الشميري بلازا المطل على ميدان التحرير وسط صنعاء وقد اتكأ على السايلة وصنعاء القديمة وباب اليمن وأحياء لا تحصر، كنا موزعين في الدورين الأخيرين السادس والسابع، وكنا على موعد جميل عند هدأة الليل في متنزه هاواي بالحي الدبلوماسي وهو من الأحياء الجديدة الراقية، مع كتاب القصة والرواية والشعر والصحافة اليمنيين، محمد الغربي عمران وهو كبيرهم الذي علمهم السرد الحديث، وصالح البيضاني ووجدي الأهدل وسمير عبد الفتاح وسامي الشاطبي ومحمد عبد الوكيل جازم، وغيرهم كانوا أمامنا في المتنزه، ودارت بين الجميع القبلات والتحايا والاحتضان والشعر بالعصائر والشاي والقهوة والمعسل والأحاديث التي لم تدع ثقافة وهما إلا طرقته حتى وقف مؤشر الساعة قريبا من الثانية عشرة ليفرقنا في وداع مؤمل باللقاء صباح الغد في رحلة طويلة.
يوم الجمعة في اليمن ولنا لم يكن يوما عاديا وهو كذلك لكل المسلمين، لم يكن عاديا أن تنتقل إلى الثقافة الغابرة والمعرفة الاستيطانية والبناء الذي تحدى الجغرافيا والطبوغرافيا والتكوين، أن تأتى إلى صنعاء حتما عليك زيارة وادي ظهر لترى ماذا فعل اليمني القديم في نحت مسكنه، فبنى له بيتا وقصرا منسجما ومتداخلا مع الجبل، ها نحن نقف بباب هذا القصر المسمى قصر الحجر وهو متعدد الأدوار والغرف والمطلات والأسطح والواجهات ونسائم الهواء البارد تدخل إليك من كل الأنحاء، والبيت اليمني غالبا ما يكون موزعا بهذا الشكل والتعددية، وأهم ما في هذا البيت مكان المقيل التخزينة: أي الاستراحة الخاصة بتناول القات وهو النبات الشهير باليمن وارتبط ارتباطا وثيقا به لزمن طويل، لاقتناعه بما يملكه من خاصية تمنح المتناول راحة وخيالا وسكينة لا يجدها في غيره، وهو يمضغ مضغا في الفم من غير أكل له لمدة زمنية تتراوح بين ربع الساعة إلى نصف الساعة في المضغة الواحدة، لذا يستغرق الشخص وقتا لا يقل عن أربع ساعات في اليوم، وربما تتجاوز إلى سبع ساعات، استمتاعا بهذا النبات السحري لتعدد المضغات وبحجم الحزمة المشتراة، ومن أجله تشاهد الاستراحات في أعالي المنازل والبيوت وباتجاه البساتين والمزارع والأودية، وهذه الإطلالة تزيد في خلق الجو العام الأريحي لمتناول القات، نعود إلى جولتنا حيث كنا في استبطان ومعرفة هذا القصر وكنا في معرفة الإنسان ذاته، من خلال الزائرين الذين امتلأت بهم ردهات القصر رجالا ونساء وأطفالا من اليمن نفسها ومن السائحين العرب ومن الجنسيات الأخرى، وكانت (كاميرات التصوير) لا تفتأ أضواؤها عن التوقف في كل الزوايا والمواقع المبهرة.
في فناء القصر وبعد مسافة من الباب الرئيس وجدنا بعد سماع الأصوات الإيقاعية في أنحاء الوادي أن هناك رجلين من كبار السن وكبار الموهبة والتمكن من التراث اليمني، قد جلسا على الأرض ووضع كل واحد منهما طبلا أو ما يشابهه، والآلتان مختلفتان عن بعض، وجعل كل واحد هذه الآلة في وسطه بعد أن فتح ما بين فخذيه وساقيه وجعلهما على شكل دائرة، وكان لكل واحد طريقة في الضرب لكي تجتمع هذه الضربات مكونة إيقاعاً يمانياً متميزاً تنوعت مستوياته وحركاته وتنقلاته، فانعكس بالتالي على من يقوم بالرقص والأداء الحركي مع هذه الإيقاعات، وقد شاهدنا هذا من الحضور الذين تناوبوا على المشاركة مع استخدام الجنبية، وهي سلاح تراثي قديم ما زال اليمني يحافظ على الاحتزام به في خاصرته، ويلوح به في كل خطوة يقوم بها، وقد شارك عدد من الإخوة المرافقين لنا، خاصة الأستاذ/ زيد الفقيه الذي أطال الرقص والاهتزاز، فزرعت هذه المشاركة تفاعل الأستاذ/ المهوس وقوفا بجوارهم، ثم زاد الحماس لديه فدخل مشاركا في كل الرقصات، حتى توقف لاهثا متعبا لعدم الخبرة كالإخوة اليمنيين الذين يزداد تفاعلهم مع كل ضربة.
أثناء عودتنا وقفنا للغداء في مطعم مأهول بالرواد والسيارات، والأصوات تعلو المكان ضجيجا وصخبا غير طبيعي، يقدم الوجبات الشعبية كالسلتة وهي شربة الحلبة، والخبز البلدي المكون من البر والدخن والشعير، وفسحة وهي أكلة لحم مهروس مع الخضار والفلفل والبهارات في إناء حجري أسود تشعر وهو أمامك على الطاولة أن النار معه، نتيجة للغليان الطبيعي والخلطة المكونة له، وشربة اللحم المعروفة، والخبز الكبير التنوري أو الصاج، وقد أكل من أكل وتوقف للفرجة آخرون، لم تقبل شهيتهم مثل هذا الأكل رغم أن طبخه فوري وفي قدور كبيرة، هكذا رأينا الطهاة في زاوية من المطعم.
عند الساعة الخامسة كانت الرحلة الثالثة والدخول إلى تفرد وعالم آخر، وقد كانت على الأقدام إلى صنعاء القديمة، إلى عبق الماضي الحديث، إلى التاريخ الذي ذكرته في بداية الرحلة، كان لا بد أن نمر بالسايلة وهي وادٍ قديم يشق صنعاء من الشمال إلى الجنوب، وقد طور مؤخرا وسفلت ورصفت جوانبه بعد إعادة بناء وترميم هذه الأحياء القديمة، كي تبقى شاهدا على التاريخ للتاريخ، وهي نتيجة تكاتف بعض الدول مع اليمن للحفاظ عليها من الاندثار والضياع، هي بيوت متراصة متلاصقة عشوائية، أزقتها متعرجة متداخلة بعضها واسع والآخر يضيق، البيوت متعددة الأدوار كما ذكرت سابقا وتعلوها الشرفات، والطرز على الواجهات بالبياض مع ضرورة تقوس كل الشبابيك ويكون القوس ملونا بالزجاج المعشق، وغالبا ما تكون بالحجارة الملونة.
وسط هذه المنطقة عدة أسواق قديمة للصناعات اليدوية المميزة المندثرة في كثير من الدول، وهناك أسواق خاصة بأشياء النساء: كسوق الحناء، سوق العطارين، سوق الملابس، سوق البهارات، سوق البن.... أسواق كثيرة، كذلك حولت عدداً من البيوت إلى متاحف ومعارض للصور الفوتوغرافية واللوحات الفنية والمجسمات التراثية، كذلك ما زال الحمام العربي القديم موجودا وهو حمام البخار وقد دخلنا أحدها حينما رأينا أن هذا اليوم للرجال، مررنا على جامع صنعاء القديم جامع الملكة أروى ودخلناه لرؤية التباين الزمني العمراني الذي مر به، وكذلك توقفنا على حلقات تعليم القرآن الكريم بالطريقة القديمة التقطيعية مع الترتيل المميز.
ثم ختمت هذه الجولة بالمقهى الشعبي وسط هذه الأحياء في سوق الملح بعد أن أظلم الوقت ودخل الليل علينا، فكان الختام بعرض لأنواع البن أو القهوة اليمنية.. وماذا نطلب شربا منها، وكان الاتفاق على شرب القهوة المرة، ثم الشاي اليمني وهو المكثف داهم السواد، أكملنا الفرجة والنزهة بعد فترة الراحة، وفي الليل تختلف المنطقة عن النهار حركة وتسوقا، حيث غالبا ما تختفي النساء عن التسوق ليلا فيبقى الرجال والصبية، سرنا وسط هذه الأسواق، وقبل أن نخرج من التاريخ فوجئنا بدعوة الطفل/ محمد الذي كان يرافقنا لرؤية كعبة أبرهة الأشرم، ثم استدرك وقال (زبالة) أبرهة فنحن لا نعرف إلا كعبة ربنا في مكة المكرمة، مررنا بهذا الأثر وأضيف إلى معلوماتنا من الأستاذ/ منير طلال أن صنعاء هذه تربض فوق صنعاء الأقدم منها، وقد ثبت هذا من الحفريات التي توصل إليها الخبراء، سرنا حتى بلغنا باب اليمن وولجنا منه إلى خارج المنطقة في الميدان الواسع المطل على هذا الباب، وهنا أعلن الشاعر السوري/ عبد الكريم الناعم المرافق لنا أنه مرهق للغاية ولن يستطع المسير ورغب العودة بالسيارة رغم قرب المكان.


يتبع....

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved