الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 13th June,2005 العدد : 110

الأثنين 6 ,جمادى الاولى 1426

موسوعة نقد نقد العقل العربي
إشكاليات العقل العربي «3»
د.عبد الرزاق عيد
ما كان يمكن تناول هذا الجزء الثاني من هذه الموسوعة، بدون أن نخص الفصل الثاني من هذا الكتاب (إشكالية اللغة والعقل) بوقفة خاصة، فهذا الفصل يمتد على مدى أكثر من 200 صفحة، تتوفر على كم هائل المصادر والمراجع باللغة الفرنسية والعربية ما يدعو للدهشة والعجب لتنوعها وتعددها، وتعدد مجالاتها ومناحيها وغنى موضوعاتها التي تكشف عن مدى من النزاهة والصدق والتفاني في البحث العلمي الذي يثير الحزن والرثاء لواقع الثقافة العربية الشاحب والكئيب بل والجاحد، إذ كيف يمكن أن تمر أعمال تنطوي على كل هذه الجهود والمثابرة وصبر العلماء بحق، دون أن تتحول الجامعات والمجلات والصحف إلى ورش للنقاش والحوار والسجال، بل إن البؤس كل البؤس أن تكون ردة فعل صاحب مشروع نقد العقل العربي (الجابري)، أنه (دكتور) أعطى العديد من شهادات الدكتوراه، في حين أن ناقده (طرابيشي) لا يحمل شهادة الدكتوراه!
ولن نسف في مثل هذه المماحكات لنقول: إن هذا الفصل عن (إشكالية اللغة والعقل) من هذا الجزء الثاني فيه وحده من الجهد والقيمة العلمية والمعرفية ما لم تتوفر عليه أطروحات دكتوراه ليس للتلامذة الذين منحهم الدكتوراه بل والأساتذة الذين أشرفوا أيضا.
لكن إذا كان الواقع الكئيب للفكر العربي يفسر موضوعيا غياب الاستجابات الضرورية على تحديات مشروع (طرابيشي)، إلا أن المشروع ذاته من جهته يتحمل قسطا من المسؤولية الذاتية في إنتاج عقبات الاستجابة، ويتمثل ذلك بهذا الحشد الهائل من كمية المعلومات والإحالات والمصادر والمراجع التي تضع المتلقي أمام تحدي (الانخراط) في المشروع ذاته، وإلا فإن ملامسته الخارجية تبدو للقارئ المبهور وكأنها غير مجدية، مما يضع المرء أمام سؤال إما أن تشارك أو أن تفارق!
الأمر الذي دفعني أن أنصح بعض الباحثين الشباب أن يخصوا مشروعي (الجابري / طرابيشي) بأطروحات جامعية تتطلب زمنا للبحث تتيح للدارس أن يعود إلى مصادر الاثنين (النقد / ونقد النقد) هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن غرض البحث وإشكاليته الأساسية (نقد النقد) قادت إلى ما كان يسميه طه حسين ب (هدم الهدم)، ومن ثم تفكيك التفكيك، الذي أفقد مشروع الجابري بريقه وقوض عنصر دهشة الاكتشافات التي فاجأ بها الفضاء الثقافي العربي في الربع الأخير من القرن الماضي، مما يبدو أمام القارئ وكأن طرابيشي يعيد للقارئ اطمئنانه إلى ثوابته، إذا لم نقل مرتكزات وثوابت عناصر استشعاره بهويته التاريخية والحضارية بأدوات منهجية حداثية، بل هي على درجة من الثقة بالنفس تريد أن تشكك بكل منجزات عمارة الحداثة التي شيدها الجابري، بل وتدميرها تدميرا، إذ يتصف الحوار بالسجالية القطبية، حيث الأطروحة تستمد مغزاها ودلالتها ليس من تناقضها الجدلي مع الأطروحة الأخرى، لإنتاج تركيب نوعي جديد، بل من خلال الأطروحة التي تصطدم بالأطروحة المضادة لتدميرها تدميرا بل وإبادتها، حيث تبدو الحقيقة وكأنها ليست ثمرة جدل الأطروحتين، بل ينبغي أن تتموضع في أحد الركنين أو في إحدى الجهتين، مما يخلف شعورا بالخيبة والإحباط ممزوجا بنكهة (اللا أدرية) التي تخلف فراغا معرفيا محيرا في داخل المتلقي الذي يستشعر بدوره استلاب الإرادة والعزم في الدخول كشريك في إنتاج النص، وذلك لعدم قدرته على التدخل، وذلك بدل أن فرح الاكتشاف الذي كان الجابري قد منحه لقارئ قد جسد العلاقة معه من خلال خبرة أكاديمية جامعية تدريسية، تقرب البعيد، وتجعل المناهج والمذاهب القديمة والحديثة في متناول اليد، ولعل مأثرة الجابري في مشروعه النقدي أنه أتاح الفلسفة للجميع، بغض النظر عن الاتفاق والاختلاف، فلم تعد النصوص التراثية القديمة الفلسفية والكلامية والفقهية أو حتى مناهج البحث الحداثية، وما بعد الحداثية، من نوع العلوم المضنون بها على غير أهلها.
هذا لا يعني أن المقاربة الأسلوبية للأستاذ (طرابيشي) تميل إلى التجريد أو الغموض والتعقيد، بل إن الرجل على درجة من الخبرة والدربة والممارسة، ترجمة وتأليفا وبحثا ونقدا، عمقت لديه إحساسا بالمسؤولية العالية أخلاقيا تجاه القارئ الخاص والعام، فلا يغادر نقطة غامضة إلا وأشبعها إضاءة، لكن هذه الأخلاقية كثيرا ما قادته إلى نوع من الجدية العلمية والبحثية المتزمتة التي تفقد الكتابة (طزاجتها الفانتازية)، التي تتيح للجابري مثلا شطحا تأويليا يحقق للقارئ إحساسا نقديا طازجا نحو حالة الانحطاط التي يتردى فيها واقعه الحضاري السياسي والثقافي والاجتماعي، فيراها في درجة حضور الميراث القبلي والبدوي في اللاوعي الجمعي العربي، الذي يمكن أن تطربه جملة (الأعرابي صانع العالم العربي) ص (71) هكذا يبدأ الفصل الثاني من الجزء الثاني (إشكالية العقل العربي) هذا النزوع لتنبير المعنى عبر التبئير السردي لمعاورة هذا المعنى، إذا استعرنا لغة السرديات يؤدي إلى إنتاج إيقاع مشوق للمتلقي صادما أفق انتظاره من خلال ما يسمى بالأسلوبيات (الانزياح) عن مألوف النسق التعبيري، وهي استعارة أسلوبية من الجماليات الشعرية والتي تحركها غائية بناء النسق، بغض النظر عن مآلات هذا النزوع الذي كثيرا ما يقود إلى أنساق مغلقة، هذه المزية الأسلوبية التنبيرية ذات الإيحائية الدلالية في كتابة الجابري تستثير الرصانة العقلانية التي لا تخلو من نزعة (محافظة) متشددة في تقشفها البحثي، وذلك في تأبيها على قبول هذه الانزياحات والانتهاكات، ولذا فقد كان مشروع الجابري بكامله حسب عقلانية طرابيشي متهما بالنزعة الهجائية للعقل العربي، رغم أن الجابري ايديولوجيا وسياسيا ينتمي إلى ايديولوجيا قومية كان قد تخطاها المسار الفكري الديناميكي لطرابيشي، وهي ايديولوجيا رغم حداثتها المنهجية في نقدها للعقل القومي العربي التقليدي، لكنها ظلت على الأقل محافظة سياسيا!
ولهذا يحتج طرابيشي على القول: فالعربي (حيوان فصيح) حيث يرى أن المسكوت عنه في هذه الصياغة هو تعريف أرسطو (الإنسان حيوان عاقل) لكن تعبير الجابري ينطوي على مضاربة على الإنسان العربي (حيوان فصيح) وذلك بالضدية مع الإنسان اليوناني الذي هو حيوان عاقل، وهذه الضدية الثنائية النسقية كان قد توقف عندها نقديا مطولا في الفصل الثالث من الجزء الأول (نظرية العقل).
ثم يقوم بمراجعة مطولة ردا على فكرة أن ثمة خاصية انتربولوجية تميز العربي بأنه (يحب لغته إلى درجة التقديس)، وأنه يعتبر كل من لا يتحدث بالعربية ب(الأعاجم) والتي معناها من لا يفصح ولا يبين في كلامه حسب الجابري، ليبرهن ناقده بأن هذه المزاعم ليست وقفا على العربية بل إن هذه النزعة تميز السنسكرتية لغة الثقافة العالمة في كل العالم الهندي الذي لا يزال يتكلم إلى اليوم بأكثر من ألف لغة واسمها بنفسه يعني (اللغة الكاملة)، بل هي تصم كل ما عداها بالبربرية (فرفارا)، وهذه الخاصية (النرجسية والمغايرة) نجدها حسب ناقد النقد حتى في اليونانية التي يتمحور تاريخها الحضاري على جدلية اليونانيين / البرابرة، وهذا المفهوم ورثه الرومان ليصفوا به ما عداهم من الشعوب وليبرروا حقهم الأرستقراطي في استعبادها، وستتضخم الدلالة السالبة للفظ بشكل لاحق، حيث تلتبس معنى (الهمج) عندما أطلق على القبائل الجرمانية الهمجية فعلا التي هاجمت روما وأسقطتها في عام 476 وعملت بها ما عمل المغول ببغداد، ص 77 وعلى هذا فإن صفة العُجمة في السياق العربي لم تكن تنطوي كما يوحي الجابري على هذه الدرجة السالبة بوصف نصاب العجم من الحضارة العريقة الإسلامية كنصاب (الحيوانات العجمى) وترد عليها مقدمة ابن خلدون التي تلصق تهمة (البكم الحضاري) بالعرب دون العجم، رغم نسب ابن خلدون إلى أسرة عربية من جنوب جزيرة العرب، ونقده للبداوة العربية والبربرية ما كان أكثر مهادنة من موقفه من البداوة الشرقية والعربية، فعمران إفريقيا والمغرب كان بدويا، بينما عمران العجم (قرى وأمصار ورساتيق) من بلاد الأندلس والشام ومصر وعراق العجم وأمثالها.
وعلى هذا فإن الجابري وفق طرابيشي ينتج مصادرات أشبه ب(حبائس)، مما يجعل من إغلاق الإشكاليات علامة فارقة ل (الابستمولوجيا) الجابرية، التي يطمح في نقده لها أن يجعلها إشكاليات مفتوحة، متحررة من النزعة الهجائية القائمة على جلد الذات.


يتبع....

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved