الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 13th June,2005 العدد : 110

الأثنين 6 ,جمادى الاولى 1426

الرواية السعودية: «مسيرة بين إيقاعين» (12)
د. حسن النعمي

بدا لي وأنا أتأمل ظاهرة التجربة الروائية في السعودية أن أتساءل ما إذا كانت التجارب الروائية تقاس بمعيار التقادم الزمني الصرف أم بعمق التحولات المصاحبة لتشكلها؟ ولعل هذا التساؤل نابع من طرافة التجربة الروائية المحلية.
فبعد أكثر من سبعين عاماً من التراكم الروائي نستطيع أن نقول إننا أمام إيقاعين روائيين يحددان معالم التجربة الروائية فالظهور الأول لرواية (التوأمان) لعبد القدوس الأنصاري في عام 1930م بدا باهتاً ليس من الناحية الفنية فحسب، فذلك منسجم مع طبيعة ولادة الأشياء، بل إن ضعف الرؤية وهشاشتها هو ما يمكن أن نتأمله في الحقبة الأولى من تاريخ الرواية المحلية.
مرت الرواية السعودية بمراحل مختلفة في تطورها، وهي مراحل يمكن أن توفر قدراً من الفهم لطبيعة التطور الفني المنجز في كل مرحلة، غير أن دراسة من هذا النوع رغم أهميتها ستنظر للرواية من خلال تطور السياق الفني لكل مرحلة روائية دون تركيز يذكر على الخطابات التي شكلت تجربتها أو محاولة تفسير غيابها أو حضورها من مرحلة إلى أخرى.
إن ما يمكن أن يكون نظرة، لا أقول بديلة، بل مختلفة تضيف ولا تتعارض مع القائم من الدراسات الحالية هو استحضار السياقات وتحولات المجتمع بوصفها التربة التي غذت هذه التجربة على امتدادها ومن هنا فإن أي تحول في مسار الرواية في كيفية تقديم الموضوعات الروائية المختلفة أو جماليات السرد وتطورها من مرحلة إلى أخرى، أو من حيث تعاطي موضوعات بعينها ومدى جرأة التداول في بعض مراحل تطور الرواية، فإن الرواية من خلال هذا المنظور تصبح نوعاً أدبياً تلده التجارب الاجتماعية ومدى عمقها، وتغذي نموه التحولات الكبرى، بل تغير من تكوينه الجمالي والمعرفي.
إن قراءة الرواية السعودية قراءة سياقية تقتضي النظر للمكونات الخارجية التي شكلت الخطاب الروائي فالرواية من الأعمال التي تتغذى في وجودها من تسارع إيقاع المجتمع من حيث التحولات الكبرى التي تقع في محيطه أو تصب في أعماق كيانه. كما تتغذى الرواية على ما يقدمه المجتمع من هامش للروائي في خلق أجوائه الروائية. وهذا لا يعني أن الروائي يجب أن يحجم عن المغامرة في سعيه عن كشف المسكوت عنه في الخطاب الاجتماعي المعلن. غير أننا لا نتكلم عن الروائي بعينه، إنما نتكلم عن مسيرة تراكم التجربة الروائية بوصفها جنساً أدبياً ينظر للواقع بعينين، عين تلتقط وتشكل عالمها من خلال تقاطعها مع وقائع الحياة وعين تراقب ردة الفعل تجاه جرأتها وقدرتها على كشف المسكوت عنه، وبقدر القدرة على الالتقاط والتقاطع، والقدرة على خلق هامش تتحرك في فضائه يمكن للرواية أن تشكل خطاباً يسعى إلى التنوير.
إننا نرى أن أقرب وصف لتجربة الرواية في ضوء السياقات الخارجية هو ما يمكن أن نصطلح عليه بالإيقاع. ومن هذا المنطلق فإن النظر للرواية السعودية على امتداد تاريخها لا تخرج عن كونها تجربة إيقاعين لا ثالث لهما، أحدهما بطيء والآخر متسارع، فما دلالة هذا التغاير؟ لمقاربة مفهوم الإيقاع ومعرفة حصيلة تفاعله مع حركة الواقع يجدر أن نقرأ خارطة الرواية من منظور التحولات الكبرى وعلاقتها بطبيعة المجتمع المحافظ. ولعل قراءة من هذا النوع تشكل مدخلاً مهما يمكن أن نقيس عليه تطورات التجربة الروائية منذ صدور رواية التوأمان في عام 1930م وحتى الوقت الراهن. ويتحدد مفهوم الإيقاع بحجم الحضور الروائي وتراكمه من ناحية، وقدرته على تحقيق فاعلية اجتماعية من حيث قدرته على تفكيك خطابات المجتمع. وهذا التحديد يخضع لشرط العوامل الخارجية وما تحدثه من تحولات في الوعي العام سواء تحت إلحاح الضرورة أو استجابة لمطلب اجتماعي داخلي.
يبدوا الزاما في البدء أن نضع محدداً أولياً لرصد مفهوم الإيقاعين في سياق تجربة الرواية. الإيقاع الأول: بطيء، يبدأ منذ صدور رواية (التوأمان) في عام 1930م وحتى عام 1980م ولعل أبرز ملامح هذا الامتداد الزمني من تاريخ الرواية هو قلة الإنتاج مع ضعف البنية الفنية وعدم القدرة على تقديم موضوعات تكسر تقليدية ورتابة الطرح الروائي. أما الإيقاع المتسارع فيبدأ منذ 1980م وحتى الوقت الراهن. وهو إيقاع يرصد زيادة التراكم الروائي بشكل ملحوظ في فترة زمنية قصيرة مقارنة بالفترة السابقة، بالإضافة إلى تطور التجربة الروائية وجرأة الطرح الروائي وهذا التحديد لا علاقة له بترتيب الأجيال، بقدر ما له علاقة بالسياقات المحيطة بالتجربة الروائية ذاتها. فالجيل أو الإنتاج الروائي هو في الأصل افراز للتفاعلات الاجتماعية سواء كانت تفاعلات خارجية أو داخلية.
أولاً: إيقاع الرواية في مجتمع محافظ أو الإيقاع البطيء
تنظر الثقافة المحافظة للفنون عادة نظرة غير متصالحة، نظرة تحسب مكاسبها من توظيفها للفنون، من حيث تطويعها لأنساقها وخطاباتها، ولذلك تضع الثقافة المحافظة محدداتها واشتراطاتها في علاقتها بالفنون مسبقا وما يمكن أن ينتج من الفنون في ظل الثقافة المحافظة لا يخرج عن نوعين، نوع منقاد لاشتراطات الثقافة، مستظلا بهيمنتها حتى يغدو تابعاً من توابعها، بل ولسان حالها، وإما أن يكون مشاكساً ومتحدياً، وكاشفاً وفاضحاً لأدواتها وزيف أنساق الهيمنة في خطاباتها، لكنه في هذه الحالة يحمل رسالة أقرب للصراخ منها للفن الذي يصنع البدائل الخلاقة للحياة، هدفه في هذه الحالة ثوري أيديولوجي غير مستبطن لمأساة الثقافة التي لا تؤمن بالتعدد ولا خلق مساحة قابلة للتحاور.
ويبدو الانقياد لاشتراطات الثقافة المحافظة قسرياً أحياناً وهو ما يعنينا هنا فقد ذكر أحمد السباعي في كتابه (أيامي) ما نصه:
وكنت أحد المتحمسين لقضايانا الاجتماعية، أتمنى لو استطعت أن أفرغ كل ما يدون في رأسي من أفكار شابة، وأن أذيبها حروفاً مقروءة في مقالي الرئيس ولكن البيئة لا تميل لمثل هذ الشطط، فقد عاشت محافظة بكل ما في هذا من معنى، وهي تأبى عليك إلا أن تعيش رزينا، وأن تخنق في نفسك صبوة الشباب، لئلا تزحف على ما الفت أو تهاجم ما ورثت.بدأت مسيرة الرواية بما اصطلح عليه دارسو الرواية السعودية بمرحلة النشأة، وهي مرحلة تمتد من عام 1930م تاريخ صدور رواية (التوأمان) إلى أواخر الأربعينيات بصدور رواية (البعث) لمحمد علي مغربي وهي فترة عقدين من الزمن واكبت بدء تكوين المجتمع السعودي وما صاحب فترة التكوين من استقطابات سياسية وقبلية وبناء مؤسسات الدولة الفتية حتى استقر المجتمع تحت الكيان السياسي الحالي، وقد كان المجتمع الثقافي في الحجاز، مكة وجدة على وجه الخصوص، هو السباق للتفاعل ثقافياً مع الأدب العربي في مصر والشام، بالإضافة إلى الأدب في المهاجر الأمريكية. جاءت نتيجة هذه التواصل ظهور جيل شاب متطلع للخروج من ظلال الثقافة التقليدية، ومتطلع إلى الأخذ بالمكتسبات المتجددة في المحيط العربي ولعل كتاب (خواطر مصرحة) 1926 لمحمد حسن عواد هو خير معبر عن هذا التيار الرافض للتقاليد البالية.
لقد كان العواد جريئا وهو يكتب نقداً اجتماعياً محاولاً التنبيه على عمق التخلف وآثاره السلبية التي تواجه محاولة المجتمع النهوض والبناء. فالتعليم ضعيف وللرجال دون النساء، والمجتمع محكوم بالخرافة بدلا من الأخذ بأسباب العلم والتقدم. لقد كان الكتاب جريئاً في زمنه إلى أبعد مدى ولو كان رواية لتغيرت نظرتنا للرواية بالكامل. غير أن الكتاب نثري نقدي غايته تنويرية. ورغم أن أول رواية (التوأمان) قد صدرت بعد صدور الكتاب بحوالي أربعة أعوام، فقد جاءت نكسة بالنسبة للسياق الذي تبناه الكتاب وهو الدعوة إلى إخراج المجتمع من ظلاميته لقد كانت الرواية ذات رؤية معاكسة تماماً حيث تدعو إلى رفض الأخذ بأسباب العلم الحديث الذي يتمثل في الغرب، والتمسك بكل ما هو تقليدي بصرف النظر عن جدواه لأن فيه نجاة الأمة وخلاصها كما تطرح الرواية فمن خلال عرض سردي ضعيف تجري الحوادث بين مصيرين لا سبيل للتعايش بينهما، وهما: إما التمسك بالتقاليد وبالتالي رفض الغرب وكل ما يمثله، أو اختيار الغرب والوقوع في الضياع وفقدان الهوية. فهذا أب يترك لطفليه، وهما في السادسة، ويمكن أن يؤخذ هذا العمر على أنه تعبير رمزي على حداثة المجتمع وحداثة الصراع في سياقه المحافظ أن يقررا أي المدارس يختاران، فأحدهما، وهو رشيد يختار مدارس التعليم التقليدي، حيث ينجح ويصبح له شأن في المجتمع، بينما فريد يختار الالتحاق بأحد المعاهد الأجنبية، حيث يفقد هويته ودينه وحياته. وبصرف النظر عن ضعف الرواية فنياً، فإن مشكلتها أنها تكرس سوء الفهم بالآخر، وتزيد من عدم الأخذ بأسباب الحياة المتطورة. إن هذه الرواية وأشباهها معاكسة حتى لفكرة الدولة الجديدة التي هي شكل من أشكال التمدن، فبدلاً من التكتلات القبلية التي تفرق أكثر مما تجمع اصبح هناك كيان له صلاته بالعالم الخارجي ويمثل هوية وطنية لها نظمها وتوجهاتها.
ولا تخرج روايات تلك المرحلة (فكرة لأحمد السباعي 1948، والبعث لمغربي 1944) عن قلق الرؤية الذي انتابت التوأمان، من حيث تلمسها طريقاً للتعبير في ظل مجتمع يفرض هيبته على المنتج السردي وإذا كنا الآن نطالب بهذه الجرأة فذلك يعود إلى مماثلة الأعمال أياً كان طبيعتها بكتاب خواطر مصرحة الذي ظل استثنائياً في خطابه التنويري وإذا كانت تلك المرحلة الروائية هشة في رؤيتها وكأنها تتلمس تأسيس حالة من القبول من قبل مجتمع محافظ، فإنها كذلك شحيحة في عددها بحيث ينتفي تأثيرها. وبالتأكيد فإن الاهتمام بها الآن يأتي من حيث قيمتها التاريخية كونها أعمال مرحلة التأسيس، حيث تقرأ في سياق أكبر من التأثير والتفاعل.
وتعد فترة الخمسينيات الميلادية فترة جمود روائي حيث لم تصدر رواية يمكن أن تسجل علامة فارقة في مسيرة الرواية. غير أن رواية ثمن التضحية لحامد دمنهوري التي صدرت في عام 1959 شكلت قفزة نوعاً ما مقارنة بما سبقها من أعمال سردية. فقد بدت أكثر الروايات استعداداً لتقديم رؤية جريئة مفارقة للواقع. غير أنها لم تستطع أن تخرج عن النسق المحافظ للمجتمع فقد اختبرت الرواية فكرة الخروج على التقاليد واستشرفت آفاقا مناهضة للسائد في الثقافة المحافظة، لكنها ما لبثت بوعي أو دونه أن تراجعت مستجيبة لنسيج الثقافة الكائن فقد قدمت رواية ثمن التضحية صراع الذات مقابل الآخر وهو صراع ينهك الذات الحالمة حتى تسليم بالنهاية المحتومة التي يختارها المؤلف عادة من خارج سياق الاحداث المنطقي وفق اشتراطات سياق الثقافة المحافظة. وهذا النوع من النهايات، في الغالب، فيه الكثير من الشفقة على الشخصية الرئيسة التي تعاني ويلات الصراع النفسي. وهذا الصراع عادة هو صراع رغبات ذاتية يكون الحب الحالم أحد أبرز معالمها، وهي إشارة رمزية إلى علاقة الفنون بالثقافة المحافظة.
وغالباً ما يتم الربط في سياق هذه الثقافة بين الحب والواجب الديني أو الاجتماعي مثلما حدث من تضحية أحمد، بطل الرواية، عندما فضل الزواج من فاطمة غير المتعلمة على فائزة المثقفة بدافع الولاء الاجتماعي واحترام رباط الزواج الذي قطعه على نفسه وهو في الحقيقة احد اشتراطات الثقافة المحافظة، حيث وجوب المهادنة وتكييف الفن الروائي مع السائد.
وللاقتراب أكثر من رواية (ثمن التضحية) نرى أن حبكة الرواية تدور حول أحمد الشخصية الرئيسة في الرواية وعلاقته بابنة عمه فاطمة الأمية التي أحبها منذ صغره وعندما أنهى دراسة الثانوية، عقد قرانه عليها على أن يتم الزواج بعد عودته من دراسته في مصر وهناك في مصر يتعرف على فائزة الوجه الآخر لفاطمة، لكنها متعلمة ومثقفة، وهو الشيء الذي تفتقر إليه فاطمة. يناضل أحمد من أجل كبح جماح عاطفته التي انساقت وراء فائزة. ورغم انه أحبها لذاتها ولثقافتها، فإنه يحسم أمره وفاء لرباطه المقدس بفاطمة، مضحياً بقناعته وإعجابه وحبه في سبيل الوفاء بعهده. وبعد عودته يجد فاطمة خير ثمن لتضحيته، كتعبير من الرواية عن ثمن تمسكه بالتقليد الاجتماعي.
إلى جانب هذه الحبكة الرئيسة، هناك أحداث ثانوية لكنها كلها نمطية تؤكد القناعة بما هو مقدر للإنسان، ولذلك فإن الرواية تخلو من الأفعال الدرامية التي تغير طبائع النفوس، وتنقلهم من حالة إلى أخرى.
إن الشخصيات في معظمها سطحية غير متبلورة من خلال الاحداث حتى شخصية أحمد فهو ذلك الحالم المتطلع برومانسية للحياة، مخضعاً إرادته لقوة الفعل الاجتماعي المتمثل في الحفاظ على الترابط العائلي ولذلك فإن الرواية تتراجع عن حدة الصدام الذي اضطرم في نفس العاشق أحمد. فحبه لفائزة كان أكثر عقلانية ومنطقية من حبه لفاطمة، لكن الرواية تطفئ جذوة هذا الحب، بافتعال واضح معاكس لمجرى الاحداث. فلو أن أحمد أقدم على الزواج من فائزة، أو على الأقل، التخلي عن فاطمة بعد أن أدرك أن ما يبحث عنه ليس الجمال المفرغ من الفكر، لكننا امام عمل آخر أكثر منطقية في أحداثه، متناغماً مع الذات الإنسانية المتمردة على كل ما هو مفروض عليها. وإذا كان أحمد قد أحب فاطمة في البدء فحبه مدفوع بالعاطفة، أما حبه لفائزة فهو حب عقلاني أدرك من خلاله خاصية المتعة الفكرية المقرونة بالجمال الإنساني.
*قدمت هذه الورقة بجماعة حوار بنادي جدة
(1) الحازمي، منصور، فن القصة في الأدب السعودي الحديث. الرياض: دار العلوم، 1981، (ص36).
لقد ذكر الحازمي (سنفاجأ للأسف بقلة المحصول وضآلته من الناحية الفنية، إذ إن مجموع الأعمال الروائية المحلية، مع التساهل كثيراً في تطبيق المصطلح الفني على معظمها، لا يتجاوز العشرين رواية، فإذا أحسنا الظن وافترضنا أن بعض الإنتاج قد أفلت من قبضة الباحث فإننا لا نستطيع بأية حال من الأحوال أن نتساهل في العدد إلى أكثر من ثلاثين عملا قصصياً طويلاً، (ص36).
(1) السباعي، أحمد، أيامي. (ص 216) يورد د. منصور الحازمي هذا النص في سياق حديثه عن العوامل التي أدت إلى تخلف الإنتاج الروائي في المملكة، (انظر كتاب فن القصة في الأدب السعودي الحديث للحازمي، الرياض، دار العلوم، 1981، (ص 7172).
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved