الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 13th June,2005 العدد : 110

الأثنين 6 ,جمادى الاولى 1426

قراءة في كتابات الشاعر محمد الجلواح

عرف الشعر السعودي في الآونة الأخيرة انفتاحا كبيراً سمح بولادة العديد من الأسماء الوازنة التي أصبح حضورها يغزو آفاقاً تواصلية أكثر رحابة، ويساهم في إغناء التجربة الشعرية العربية الموسومة بقدر كبير من الاختلاف؛ إذ أصبحنا نجد العديد من الشعراء السعوديين يطلون علينا عبر منابر ثقافية تصدر من معظم العواصم العربية وبقصائد تحمل الكثير من الفرادة والتميز، وتثير قضايا كونية دون أن تتعصب لحداثة مطلقة أو تنتصر لكلاسيكية منغلقة ومتحجرة؛ فتحررت القصيدة من بعض العادات التي حكمت عليها بالدوران في فلك الإقليمية لتنفتح على هموم الإنسان المعاصر وتنقل توجسه من المصير الغامض أحياناً ، أو تبشره بمراق جديدة أحياناً أخرى، مزاوجة بين إضاءة الخفي ونقد المبتذل والسمو به إلى مراتب أكثر جمالية وتنورا.
ويبدو أن شاعر محمد الجلواح يمثل نموذجا حيا لهذا الانفتاح الواعي القائم على تعدد روافد الكتابة وتنوع تجلياتها؛ إذ نجده يفجر طاقاته الإبداعية في عدة أشكال تعبيرية، سنحاول حصرها من خلال ما أتيح لنا من مادة كالآتي:
أ القصيدة العامية المضمخة بما يعتمل في وسط شعبي يستنبت القول الملغز ويمنحه رونقا خاصا؛ وله فيها ديوان شعري بعنوان ترانيم قروية.
ب القصيدة التناظرية (العمودية)؛ ونجدها تحتل حيزا كبيرا في تجربة هذا الشاعر وتحظى بكثير من اهتمامه، فهو شديد الحرص على زرع بذور التجديد فيها رغم احتفاظه على تجليها البصري وقالبها الكلاسيكيين. كما أننا نسجل لهذه القصيدة ارتباطها الوثيق بهموم الواقع المعيش وتفننها في التقاط لحظات إنسانية والحرص على تقديمها في صور فنية رائقة.
ج الشعر الحر؛ الذي يبدو أن كتابات الشاعر فيه تستحضر إن لم نقل تتفق مع تصور المجلس القومي للثقافة العربية لمفهومي التأصيل والتحديث الواردين في تقديم العدد 8283 من مجلة (الوحدة) ضمن محور (التأصيل والتحديث في الشعر العربي) حيت تم تعريفهما كالآتي (التأصيل هو البحث في مخزن التراث عن أصل لظاهرة طارئة، وهو أيضا غرس ظاهرة غريبة في تربة التراث الخصيبة وتعهدها بالرعاية حتى تكتسب خصائص البيئة الأصلية وتغدو عنصراً مكونا من عناصرها. أما التحديث فهو قلب تربة التراث وغرس بذور جديدة...، بحيث تتحلل العناصر الآيلة للفساد وتنتشي الجذور والبذور... وتتحرك نحو النماء والاخضرار والازدهار ثم العطاء). إذ نجد معظم القصائد التفعيلية ترتد دائماً إلى القصيدة التناظرية باعتبارها القصيدة الأم أو القصيدة المعيار التي ينبغي أن ينطلق منها كل تجريب ويقاس عليها ليكتسب مشروعيته الأدبية، ويتضح هذا الارتباط بجلاء على مستوى الإيقاع حيث الاحتفاء بالبحر والخليلية والقوافي، وكذلك على مستوى بناء المعنى الذي يتضح فيه إصرار الشاعر على البعد عن الغرابة المطلقة التي تسربت إلى أدبياتنا الحديثة، وحصلت على مشروعيتها تحت مسمى بلاغة الغموض بعدا يقصي كل ما من شأنه أن يغمم فضاء الرؤيا، ويجعل القارئ يحار في الإمساك ببوصلة المعنى.
5 الكتابة الصحفية؛ وتتجلى في أعمدته الثابتة التي تجمع بين الطرافة والجدية كما في صفحتي (غرابيل) و(فضاءات) المنشورتين على التوالي بجريدة الرياض والمجلة العربية. هذا فضلاً عن استطلاعاته التي يمكن تصنيفها ضمن أدب الرحلات. وحتى نتمكن من إيفاء تجربة الجلواح بعض حقها سنسائل متونه الإبداعية محاولين استنبات المعاني وتجميعها بقصد الوقوف على البناء الفني للكتابة وقراءة ملامح أبعادها الإنسانية.
من الناحية الفنية يستطيع القارئ رصد الملمح الجمالي في قصائد هذا الشاعر من خلال النظر في نسيج النص القائم على تضافر مجموعة من العناصر البنائية التي يتبوأ فيها الإيقاع والصورة مركزي الصدارة؛ فالأول حاضر بقوة تجعل القصيدة مفعمة بدرجة عالية من الإنشادية التي تساهم في بلورتها البحور الخليلية، واختيار الرؤى المناسب إضافة إلى تكثيف القدرات الصوتية لكلمات وأحرف بعينها عن طريق التكرار؛ كما ورد في مطلع قصيدة التقاعد الغنية بالقيم الجمالية رغم أن عنوانها يوحي بالمباشرة، إذ يقول:
قالت: (تقاعدت)، قلت: عن (علمي)
قالت: (تباعدت)، قلت: عن (مللي)
قالت: تقربت، قلت: قاتلتي
قالت: فمن؟ قلت: ربة المقل
والظاهر أن هذا المد الصوتي المتدفق يزداد تألقا في حضرة الصورة الفنية المعتمدة على الانزياحات البلاغية في حدودها القابلة للتأويل دون أن تتجاوزها إلى مستغلق القول، ونجدها في هذا تتفق مع حقيقة كبرى ارتبطت بمسيرة الإبداع الأدبي العربي منذ بدايته، حقيقة مفادها أن البلاغة شكلت ولقرون عديدة المنبع الفياض الذي متح منه الشعراء وأصحاب الكلام ماء تجاربهم العذب، حتى أصبحت معادلاً فنيا لكل متخيل الصحراء وواقعها وأحاسيس أهلها.
هكذا إذن تمكنت البلاغة من احتلال مكانة عليا في تراثنا الشعري، وإيمانا من مبدعينا المحدثين بأهمية هذا التراث نجدهم يتشبثون به باعتباره دعامة تعبيرية إلى جانب الدعامات الجيدة التي تم إرساؤها بإحكام عبر التاريخ المديد للشعر.
ولعل قصائد محمد الجلواح أوضح شاهد على هذا القول فقد جاءت في مجملها حافلة بالصور البيانية كما في هذا المقطع الصغير:
بريدك أضحى كالسراب مناله
إذا جاءه الظمآن خادعه الورد
متيمتي جودي بحرف وطيبي
مريضا يرى المكتوب طيرا له يشدو!
ويمكن إرجاع ولع الشاعر بهذه الأساليب إلى ثقافته من جهة، وإلى كونه يحاول اقتناص لحظات من صميم الحياة من جهة أخرى، فالبلاغة بقدراتها التصويرية المقيدة بقرائن وعلاقات تمنع انسيابها صوب اللامعقول هي الوحيدة القادرة على ضمان الحد الأدنى من التواصل لكتابة تمتح أبجدياتها من الواقع وتحاول تأسيس إيحائيتها داخل أطره. ويبدو أننا لن نبالغ أو نجانب الصواب إذا قلنا إن كل صورة صغرى تحوي زمرة انزياحات مجازيا يمكن إدراكها بمجرد الإنصات الأول للقصائد فلو تأملنا هذه الأسطر مثلا:
وهكذا.. أراكِ.. عبر الوَرَق
وعبر آفاق الرُّؤى، والقلقْ
وفي حُرُوفِ الوجْدِ مبثوثة
فوْقَ سماءِ النخل أو في الشفقْ
أراكِ في حلم.. ومعزوفة
تقتاتُ من صَبْري وترمي حُرَقْ
إني هنا.. أهمسُ..يا
(حلوتي):
حُبكِ.. قد (أدَّتْ إليه الطرُقْ)..
لوجدناها تقدم لوحة تشكيلية تحوي داخل بروازها مفاجآت غير متوقعة للقارئ؛ فالعنوان باعتباره عتبة أولى لولوج عوالم النص يوحي لفظه (رؤية) بتحقق الفعل في الواقع الملموس، وأن المحب يرى حبيبه أمام ناظريه. لكن منطوق المقطع يلغي هذه القراءة ليضعنا وجها لوجه مع الرؤيا الحالمة المتحققة عبر التأمل والحلم اللذين يدخلان في جوهر العمل الشعري، ويؤسسان له؛ فيصبح الورق مرآة تجلٍّ يُرَى فيها المحبوب من وراء حروف القصيدة هاربا كخيط ضوء يستفز رؤى الشاعر لتلحق به فوق هامات النخيل وفي حمرة الشفق.
إذا كان الغنى الفني سمة بارزة في شعر الجلواح تجعل المتذوق ينتشي كلما أوغل بين واحات القصيد. فإن المواضيع التي يتطرق إليها تحول هذه الدهشة إلى نور يشع في الأعماق ويغذيها بقيم سامية تشهد للشعر بنبل رسالته التي وجد من أجلها، كما تسجل للشاعر فكره المتنور ورغبته العارمة في زرع الفضيلة وتعهد أزاهيرها بالرعاية؛ فغزلياته تنضح بالشوق والحنين دون أن تركب المكاشفة. كما أن مفهوم الحب يتجاوز المرأة ليسبح في فضاءات أرحب؛ كما يتجلى في قصيدة نون الوطن التي تعطينا درسا في الوطنية الصادقة المتعلقة بالأرض مهما قست الظروف وتبدلت الأحوال، إذ يقول:
سلاما أيها الوطن
وقلب فيكَ يَفتتِنُ
أحِبُّ شتاءك المجنون
طابَ الطقسُ والزمنُ
وصيفك في حرارته
وإن لم يُؤونِي سكنُ
وشمسك تحرق الأرواح
ثلجٌ منعشٌ.. حسنُ!!
ونيسانا يهبُّ على
دياركَ والهوى أمِنُ
.......................
أمثلك قد أرى وطنا
تُطرزُ أرضَه سننُ؟
أحسُّ بأنني فرحٌ
لأنكَ في دمي شجنُ
منحتَ العين بهجتها
فشكرا أيها الوطنُ
ويأخذ حب الوطن بعدا أكثر شساعة؛ فيمتد ليشمل الأرض العربية من الماء إلى الماء، من المحيط الظلمات إلى بحر العرب في قصيدة: (إلى ابن المقرب في مهرجانه) التي يمزج شاعرنا فيها بين الاحتفاء برموز الأمة في شخص مبدع الأحساء على بن المقرب العيوني، وبين استحضار شريط جراحها الممتد من سقوط غرناطة إلى احتلال القدس. ويبدو أن تأثر الشاعر الشديد بما تشهده الأمة من مآس جعله يحضن جراحها السابقة الذكر ويسكنها ذاته، فكأنه يريد أن يقول لنا إن الإنسان الذي يعيش في وطن جريح سيحيى جريحا. وختاما أترك القارئ مع مقطع من القصيدة المذكورة يلخص كل ما قيل، وهو أفصح بيانا من كل لغة واصفة:
يا إمام الشعر إن كنتَ سَؤُولا
عن ديار سَمقت فكرا، ومشربْ
وعن الأمجَادِ والثغر المُفدّى
(مشرقا) كان لنا أو (معربْ)
وعن الأقصى وحق يتداعى
بين مهزوم، وطاغ، ومُخرّبْ
سيدي إن جراحاتي لشتى
ديارُ العُرب ما انفكت.. لتُسلبْ
فعن الأمجاد لا تسأل كسيرا
تخِذ الشجْبَ سيفا لهُ، ومشجبْ
وعن (الأقصى)؟.. فذا شيء قديمٌ
لحِقَ (الغرناطة الكبرى) و(قرطبْ)
......
إن تكن من دهرك الجاني مُضني
فلدينا ألف.. دهر.. يتعذبْ
أو يكنْ يومك صعبا حين تشكو
فليالينا.. طِوَالٌ، وهي أصعبْ!!


عبد الرحيم سليلي

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved