الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 13th June,2005 العدد : 110

الأثنين 6 ,جمادى الاولى 1426

قصتان قصيرتان
رجل يخشى المرأة
إبراهيم الناصر الحميدان

كنت حزيناً ذلك المساء، كسير الخاطر، حتى أن أبي تنبه إلى تغير في تصرفاتي.
فناداني بصوت حنون على غير عادته جعل إخواني يتهامسون. أكيد.. بيعطيه شرط.
سألني وهو يبتسم على نقيض عادته في التجهم لا سيما عندما يخاطبنا ليلاً وقد عاد متعباً من عمله.
من الذي أزعلك؟
فأجاني السؤال فطأطأت رأسي ناظراً إلى قدمي المتسختين نتيجة العبث وركل التراب وفكرت بأن أخفيهما بثوبي المتسخ القصير لعله يتجاوز عن التوبيخ بعد أن تتبدد ملاطفته لي.
إنه أستاذ التعبير.
من ؟ الأستاذ عادل.. أعرفه منصفاً فلا تتهمه بالتحيز.
أعلنت باندفاع وتظلم.
ولكنه منح الفوز لطالب غيري.
فقال ساخراً بنوع من التباهي.
أتريد أن تحتكر التقدير دون باقي زملائك يا حسن.
مسحت أنفي وتمنيت لو أستطيع أن أتناول طرف ثوبي القصير المتسخ حتى يواري بعض مخاطي الذي لا يسيل عادة إلا في أوقات الخجل والهزيمة.
قال فجأة: أحضر دفتر الواجب لأقرأ ما كتبت.
انطلقت بسرعة لإحضار كراسة الواجب وقد اصطدمت من فرط استعجالي بشقيقي الصغير الذي كان يستمع لحديثنا فرفع صوته باكياً مما جعلني أقبله بإشفاق.
وبدأت أقرأ بصوت جهوري.
أيقظتني أصوات النسوة في سطح جيراننا وكنا ننام هكذا في فصل الصيف بحيث يسهل الحديث من خلال جدار يفصلنا عنهم فشعرت بالارتياح لسماع تلك الأصوات الناعمة خاصة حين تخللتها ضحكات مغرية وتنهيدات فحاولت أن أشب على قدمي عساي أرى وجوه هؤلاء النسوة التي قدرت بأنهن فتيات جميلات من بنات الجيران اللاتي يلاحقن خيالي كلما مرقن من الأزقة حيث كنا نلعب ونعبث بكرة القدم.
فجأة غضب أبي عند سماع هذا المقطع مما قرأت فقاطعني:
انت جريء يا بني.. بل تستحق العقاب.
تساءلت باستغراب: لماذا..؟
أجاب بحدة: من يسمع قولك يعتقد بأنني أحرضك.
فقلت: أليس علينا أن نختار زوجاتنا منذ الصغر..؟
فرد بسرعة: من أخبرك بهذا..؟
قلت بعفوية: أنت يا أبي..
فأجاب: يالك من ولد ساذج.
وأضاف:
الكبار هم الذي يبحثون عن زوجات صغيرات وليس الصبية
فقلت: سوف أخبر أمي
فصرخ بحدة بينما أمسكني بقوة وهو يهمز يدي بنصف ريال:
خذ هذا وأغلق فمك يا أهبل.
الصبي البائس
تأملت الصبي وأنا أحتسي قهوتي الصباحية في ذلك المقهى الشعبي في بلد شقيق. كنت أراقبه منذ بضعة أيام هذا الصبي الذي لا يتجاوز عمره الثانية عشرة. من رتقة ملابسه التي يحاول أن تبدو مقبولة المظهر منزعاً ابتسامة خفيفة وهو يستجب لطلبات رواد المقهى. بينما عينا صاحب المقهى العدائيتان كانتا تراقبه بحذر وعدم ارتياح وهو صامت يصغي فقط للأوامر التي تنهال عليه فيسرع لجر قدميه المتعبين بالحذاء القديم الذي تغوصان به والذي يبدو أنه أكبر من حجم قدميه قليلا إما لكونه لشقيق أكبر منه أو أن الحذاء قد اتسع من فرط الاستعمال والركض وراء إجابة الطلبات المنهمرة من رواد ذلك المقهى الشعبي الذين لا يكفون عن طلب المزيد من الماء المثلج لمواجهة حرارة الجو في ذلك الصيف القائظ. والصبي الذي لا يدعى باسمه إنما بكلمة (وله) التي تكفي لتجعله متيقظاً حاد النظرات يسكبها بتوسل أحيانا لا سيما عندما يحتك حذاؤه الكبير بطرف قدمه التي تغرق بالعرق من ذلك الجو اللافح. ولسبب أجهله أردت أن أخفف عنه ما يعانيه فاستدعيته بإشارة من يدي لكي يقترب فسألته إن كان متعباً حتى أحاول أن أساعده بيد أنه ومن خلال ابتسامة عابرة نفى أنه يشكو من أي مشقة بل همس في ارتباك أرجو ألا يسمع (المعلم) ما تعرضه عليَّ من مساعدة حتى لا يحرمني من أجري هذا اليوم وربما طردني أيضا. أشفقت عليه من هذا الاستعطاف والمذلة لذلك الرجل الكريه الذي لم أرتح لنظراته العدائية نحو الصبي. وفي مرة أخرى سألته بهمس لماذا لا يذهب إلى المدرسة حتى يتعلم؟ رد بحرارة ومن أين أشتري لأمي دواءها. إنها مقعدة في الفراش ولا تستطيع خدمة نفسها منذ أصيبت بالعمى قبل عدة سنوات. صدمتني إجابته الحاسمة وتساءلت: متى يوجد في المجتمع الإنساني من يهتم بأمور الأسرة الفقيرة ويطرح نوعا من الضمان الذي يستطيع أن يمنع الجوع عن أمثال هذه العائلات في المجتمع ولا يحرم الأطفال من حقهم في التعليم والحياة البسيطة في حدود تحقيق أدنى المطالب. ويبدو أنني استغرقت في أحلام هذه العدالة الاجتماعية فلم أنتبه إلى الموقف المأساوي الذي حدث على مسافة قصيرة من مكاني إذ سمعت صفعة مدوية وصرخة استغاثة من الصبي المسكين عندما تعثر وهو يقدم كأس ماء إلى زبون يجلس ليس بعيداً عن مكاني وبدلاً من أن تصل إلى يد الرجل اندلقت على ملابسه فقفز لأن الماء كان مثلجاً وكان صاحب البهى يتابع بنظراته العدوانية ذلك الصبي الذي وقف معتذراً من الزبون ولكن الرجل الكريه كان أسرع من الجميع إذ قفز من مكانه هائجاً وصفع الصبي بقوة أوقعته الأرض فتمدد ذلك الجسد الصغير بينما تطاير حذاؤه بعيداً عن مكانه واكتفى بأن أمسك بموقع الصفعة على وجهه والدموع تنهال من عينيه الكسيرتين. فتطايرت من ذهني أية أحلام بالعدالة على الأرض وكل ما استطعت فعله أن ذهبت إلى الصبي مواسياً حتى أنهضه من عثرته المؤلمة بينما صوب نحوي صاحب المقهى نظراته العدائية.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved