Culture Magazine Monday  13/08/2007 G Issue 211
فضاءات
الأثنين 30 ,رجب 1428   العدد  211
 

الاستيراد النقدي وافتقاد النمط الافتراضي
دراسة في بواكير النقد الأدبي السعودي «2»
د. لمياء باعشن

 

 

شكّل الاستيراد النقدي أزمة عويصة واجهت المبدع السعودي الذي هو الأديب والناقد في وقت واحد، هو المستورد للنظرية والمستفيد منها والمروج لها والمطبق لجزئياتها، وهو متلقيها ومتذوقها وناقدها المستجلي لعناصرها داخل العمل الفني. لكن تواؤم النقد والإبداع في الساحة السعودية مختلف عنه في العالم الغربي، حيث المنظرون مثلاً للرومانسية هم أدباؤها ومبدعوها، فالمبدع السعودي لا يشتغل بالتنظير إنما يستورده جاهزاً. ويختلف السعودي في تلك المرحلة المبكرة من تكوينه النقدي عن مثيله في البلدان العربية المجاورة، فجماعات الديوان وأبولو والمهجر كلهم أدباء في الأصل، لكن الأديب السعودي حين جمع بين الجانب النظري النقدي وبين الإبداع كان يتلقى من متلقٍ وينقل من ناقل، فالتنظير الذي يتبناه لا يصله إلا بعد مروره بمراحل اجتذاذ وتصفية وانتقاء وبلورة، فهو متحرك عن أصله مرتين، (twice removed) على حد قول أفلاطون، وهذه جاهزية مضاعفة للمنتَج المستورَد تضرب بين المستهلك والفكر المنتِج للنظرية أسواراً مزدوجة.

ومما يزيد الأمر تعقيداً أن هذا المنقول المتحرك مرتين أخرجته عقول فذة لها أكبر الإجلال والتقدير في نفوس الكُتاب السعوديين الذين يعتقدون اعتقادا راسخا أن (مصر العزيزة) هي (منبع العلم ومركز الثقافة ومهد الحضارة ومصدر كل طارف وتليد). كانت علاقة الرواد بمصر علاقة وثيقة، فقد جعلوها قبلتهم الثقافية وشدوا إليها الرحال وترددوا عليها وسكنوها والتقوا بأدبائها، فسافر إليها أمين مدني ومعه أسرته وأقام سنوات بها عاكفاً على إنجاز عمله الكبير (العرب في أحقاب التاريخ)، وعاش فيها حمزة شحاتة ثم عزيز ضياء وغيرهم، كما انتقل إليها إبراهيم الفلالي حيث عمل بالعطارة ثم مساعداً بدار البعثات السعودية بالقاهرة. وقد فتحت هذه البعثات الباب للتعرف على الثقافة المصرية عن كثب، فقد ابتعث أحمد عبدالغفور عطار إلى كلية دار العلوم، والتحق عبدالله عبدالجبار بالجامعة ليعمل عقب تخرجه مدرساً ثم مديراً للبعثات السعودية وأستاذاً بمعهد الدراسات العربية العالية في جامعة الدول العربية. ووطد هذا التقارب المكاني علاقات الأدباء الحجازيين مع زملائهم المصريين على المستوى المهني والشخصي، فقد ازدادت صداقة القرشي بكل من رامي وناجي ومحمود حسن إسماعيل، كما صادق عبدالغفور عطار العقاد وكان يواظب على حضور الندوات بمنزله. وظهر تعلق العطار بالعقاد في سلسلة من المقالات عن (الكاتب العبقري الأستاذ العقاد) منها (العقاد الضائع) و(مؤلفات العقاد) و(العقاد يبدأ) (تدين العقاد) (دهاء العقاد). أما رابطة الأدب الحديث التي أنشأها في مصر إبراهيم ناجي 1944م فقد كانت تضم عدداً من الشعراء السعوديين منهم محمد سعيد العمودي ومحمد العامر والفلالي. وأتاح لشحاتة مقامه في مصر أن يعايش الحركة الأدبية والثقافية بها، فالتقى بشعراء مصر وكُتابها ونقادها ونشرت له الصحف المصرية بعض أشعاره وتحقيقات واستطلاعات عن أدبه وشعره.

ولم يكن الأمر يستدعي الارتحال إلى مصر للانخراط في منظومتها الثقافية، فقد كان أدباء الحجاز يتابعون مجرياتها عن بُعد، (فما يُلقَى في مصر وغير مصر من محاضرات وخطب نسمعه ونحن في مكة، وما يُكتب فيها يُقرأ بعد ثلاثة أيام في مكة.. إن المطابع والإذاعات والمواصلات السريعة قضت على الحدود الإقليمية ومحت المسافات). كان هؤلاء الرواد وثيقي الصلة بكل ما (تقذفه المطابع المصرية من غث وسمين من كتب أو مقالات في المجلات والصحف، يلتهمونها التهاماً، وأصبحوا يعرفون عن أدباء مصر أكثر مما يعرف المصريون أنفسهم عنهم). مثلت بواكير الصحف حجر الأساس في بنيان الثقافة السعودية ومرتكز انطلاقتها، ويتضح ذلك جلياً في الإعلان المتكرر في مجلة المنهل لوكيل الصحف الوحيد بمكة المكرمة السيد هاشم نحاس الذي يدعو (القارئ الكريم) إلى أن يثقف فكره ويوسع معلوماته ويلم بالأخلاق والحوادث بمطالعة هذه المجلات والصحف الراقية وهي: المقتطف، الهلال، المصور، المختار، روز اليوسف، وغيرها.. مروراً بالوفد المصري وروايات الجيب حتى نصل إلى الراديو والبعكوكة، فإن فيها - كما يقول الإعلان - (من الفوائد الأدبية والتاريخية ما يغنيك عن سواها). كانت هذه الصحف حاضنة لكُتاب أصلاء هم أقطاب حركة النقد الأدبية وأصحاب مدارسها واتجاهاتها، كما لعبت المطابع الحديثة دوراً حيوياً بارزاً في تنشيط الحركة الأدبية، وأشبعت إصداراتها فضول شباب مثقف ولوع بالمطالعة، (فكان شوقي وحافظ والجارم والبارودي وإسماعيل صبري والمازني والعقاد والرافعي وطه حسين وأحمد أمين وزكي مبارك والزيات و... مدارس فكرية وأسلوبية لها تلامذتها الكثيرون. ولم يكن يصدر لأحد من هؤلاء كتاب أو ديوان حتى يسارع هؤلاء القراء إلى شرائه ودراسته..).

لكن الذي قضى على الحدود الإقليمية حقاً ومحا المسافات ليس المطابع والإذاعات والمواصلات السريعة فحسب، لكنه بالمكان الأول الانفتاح على الفكر القومي وتنامي الشعور بالوحدة العربية. جاء تفاعل ناشئة الأدباء الحجازيين مع التيار الوطني مصاحباً للأحداث السياسية المضطربة تحت وطأة الاحتلال الأجنبي للبلدان العربية، وكان نشوء نظرية الأدب الإقليمي انعكاساً مباشراً لتطلع الشعوب العربية إلى الحرية وحماسهم الشديد للاستقلالية الذاتية ولتكوين شخصية عربية عصرية؛ لذلك بدأت النهضة الأدبية الحديثة متأثرة بالتيار العروبي الوطني وفعّلت مضمون الثقافة التحريرية لشعب واحد مشترك في الهوية الحضارية. شعر هؤلاء الرواد بأن التميز المصري هو تميز عربي يشملهم، وقرؤوا قول العقاد وهو يحدد أهداف مدرسة الديوان: (وأقرب ما نميز به مذهبنا أنه مذهب إنساني مصري عربي)، فأيقنوا أن أدبهم في نهاية المطاف هو جزء من الكيان الثقافي الكبير الذي يحتويه عالم واحد سماه العواد (المنتجع الفسيح) كتعبير عن الوحدة العربية الكبرى وتحطيم الحواجز الشكلية القائمة بين أجزائه. وهذا ما حدا بأمين مدني أن ينفي بشدة أن تكون هنالك (فوارق بين أدب الأقطار العربية، وأن لكل منها أدباً مستقلاً له صبغته الخاصة المميزة)، مشيراً إلى أن (اتحاد العرب في الانقلابات السياسية والاجتماعية والأدبية يجعل وحدتهم التي تنتظمها روابط ثقافية متجانسة وحدة وثيقة لها طابع واحد).

لكن هذا التوحد في شخصية عربية مستقلة لم يكن تبادلياً، بل كان يمضي قدماً في طريق الذوبان الحجازي في الطغيان الثقافي المصري، فقد تكرس في نفوس أدباء الحجاز الإحساس بتفوق الكُتاب المصريين؛ ما دفع بالكثير من الرواد إلى المجاهدة في سبيل استرضائهم والحصول على استحسانهم لما ينتجون من أدب، وذلك بوضعه بين أيدي الكُتاب البارزين في مصر لتمحيصه ومعرفة جيده من زائفة، أو بإرساله (إلى أمهات الصحف العربية لمعرفة قيمته وتقدير أثره). شكلت آراء النقاد المصريين في أدبنا هاجساً لدى أدبائنا الذين كانوا يحرصون على عرض مؤلفاتهم عليهم لينالوا شرف تقديمهم لكتبهم كشهادة جودة، فكتب طه حسين مقدمة ديوان الهوى والشباب للعطار، وقدم العقاد لمعجم (الصحاح في العربية) الذي عنى بتحقيقه ونشره العطار، كما قام محمد حسين هيكل بالتقديم لكتاب (من وحي الصحراء) لبلخير وسعيد عبدالمقصود، ومثل أولئك كثيرون ممن قرظوا وأشادوا، وإن لم يستحسنوا تماماً ما اطلعوا عليه من أعمال بدليل أن عبدالله عبدالجبار كتب (كلمة أخيرة) في ختام تياراته يأمل فيها أن يغير أولئك النقاد رأيهم في كتاباتنا: (ونحن نأمل أن تتكفل دراستنا هذه بتغيير آراء النقاد الذين كتبوا عن أدبنا خلال دراساتهم أو عن طريق مقدماتهم لبعض الدواوين.. ونحن إذ نقدر الروح العالية التي دفعت أمثال الدكتور طه حسين وأحمد زكي أبو شادي والأساتذة مصطفى عبداللطيف السحرتي ومحمد عبدالمنعم خفاجة ورضوان إبراهيم وغيرهم، للعناية بإنتاجنا الأدبي فإن لنا عظيم الأمل في أن يقتدي بهم آخرون من الأدباء الدارسين ومؤرخي الأدب الحديث كالدكتور محمد مندور والدكتور إسحق الحسيني وغيرهما من الأعلام).

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة