Culture Magazine Monday  13/08/2007 G Issue 211
فضاءات
الأثنين 30 ,رجب 1428   العدد  211
 
قصاصات من ذاكرة حصة «3»
(الوظيفة)
أميرة القحطاني*

 

 

تقول صديقتي حصة:

كانت علامات الإرهاق بادية على وجهي بوضوح لذا اقتصر الحديث بيني وبين المدرب أحمد على التعارف ثم طلب مني الحضور بانتظام اعتبارا من اليوم التالي واخبرني بأنني سوف أتدرب لمدة أسبوعين مع مجموعة من الموظفين الجدد.

أخذني أخي إلى البيت وفي الطريق اخبرني بأنه وأمي قد أخبروا بقية إخوتي وأقنعوهم بضرورة عملي وأنهم أي إخوتي قد وافقوا على مضض، لن أصف لكم فرحتي بسماع هذا الخبر فعدم موافقتهم كانت ستتسبب لي في انهيارات نفسية لا حد لها.

سألني أخي: شو انطباعك الأول عن العمل؟ أجبته بعد تنهيدة طويلة: والله تعب.. ما فيه مجال أتقاعد؟! لم يتوقف أخي عن الضحك حتى وصلنا إلى البيت وأثناء دخولي تجنبت النظر إلى وجوه إخوتي الذين كانوا يجلسون في الصالة. دخلت إلى غرفتي أغلقت الباب وذهبتُ في سبات عظيم لم أفق منه إلا بعد أن سكبت أمي كأسا من الماء البارد على وجهي: قومي وش ها النوم؟ لا صلاة ولا أكل.

- تعبانة يمة الدوام تعب!!

- تستاهلين التعب.

بعد الصلاة والأكل أخذتني أمي على جنب وأخذت تحذرني تارة وتنصحني تارة أخرى ثم وبين كل فقرة وفقرة تهز رأسها وتقول: وش تبين بالشغل؟ ناقصك شي؟ وفي كل مرة أجيبها نفس الإجابة: نعم ينقصني أن أرى الناس أن أتحدث معهم أن اشغل وقتي بشيء مفيد. وكعادتها والدتي تختم حديثها معي ب (لا حول ولا قوة إلا بالله) دليل الوصول إلى طريق مسدود.

كان أحمد كوميدياناً بالدرجة الأولى وشعبي ما إن يبدأ في التحدث حتى تشعر بأنك تعرفه ومنذ الأزل كان طيارا سابقا في سلاح الجو تعرض لحادث أثناء قيادته لطائرة حربية ثم أحيل إلى التقاعد المبكر وعمل مدربا للموظفين الجدد لدى هذه الدائرة. غريب هذا الأمر لكنه يحدث فكم موظف يحمل شهادات في تخصص ويعمل في تخصص آخر إنها مهازل التوظيف في الوطن العربي. المهم دخلت متأخرة بعض الشيء إلى غرفة التدريب كانت هناك مجموعة من الموظفين والموظفات الجدد (مثلي) وكان عددنا يقارب الأربعة والعشرين اصطفت الموظفات في جهة وفي الجهة المقابلة اصطف الموظفون كانت هناك شاشة كبير وبروجكت وكمبيوتر لاب توب وميكرفون أمسك به أحمد وسألنا: صوتي واضح بالميكرفون؟ قلنا: لا. ألقى به وقال: أدري.

رحب بنا وطلب منا أن نعرفّ بأنفسنا ثم سألنا كل على حدة: لماذا اخترنا أن نعمل؟

إجاباتنا كانت متفاوتة كل الموظفين الرجال كانت إجاباتهم صادقة ومباشرة (من اجل الراتب وتكوين النفس - من اجل الزواج - من اجل تعمير منزل أو شراء سيارة) أما الموظفات فقد تفنن في الكذب (اخدم بلدي - أحد من العمالة الوافدة - ابحث عن الاستغلال النفسي - اثبت قدراتي) وغيره من الكلام الفاضي والحقيقة إنهن دون استثناء كن يبحثن عن الراتب الشهري أي (الفلوس) أما أنا فقد كان وضعي مختلفا بعض الشيء لذلك وعندما سألني أحمد أجبته دون رتوش (أود التخلص من الجلوس بالبيت طوال النهار) نظر إليّ بدهشة ثم رفع بصره إلى الآخرين وقال: الأخت حصة تقصد أنها تود استثمار وقت فراغها في خدمة بلدها. أردت التعقيب على عملية التجميل التي أجراها على صراحتي لكنه لم يمنحني فرصة. انتقل مباشرة إلى الحديث عن إستراتيجية العمل في الدائرة.

خليط عجيب كن تلك الموظفات المستجدات اللواتي جمعتني بهن غرفة التدريب إحداهن وهي إيرانية تجيد اللغة العربية تزوجت من مواطن وبعد أن أنجبت منه بنتا حصلت على الجنسية ثم تطلقت منه واستقلت في شقة مع طفلتها. كان وجهها كتلة ألوان ماكياج صارخ وضع بطريقة غير متقنة وقد كانت طويلة ونحيفة وكانت هبلا بعض الشيء.. اسمها ياسمين كاظم.

أما مريم فقد كانت بلوشية تحمل الجنسية الكويتية بعد زواجها جاءت لتستقر مع زوجها هنا وكانت قبيحة الشكل والمعدن.

عائشة فتاة سمراء غير متزوجة فشّارة تكذب كثيرا وقد اختارتني أنا لتكذب عليّ كذبتها الأولى: أنا كل سنة أسافر مع صديقاتي سويسرا.

- فقط أنت وصديقاتك دون الأهل؟

- طبعا

- يابختك

اقتربت مني مريم وهمست في أذني: وهل صدقتِ؟ هذه حافية ليس لديها ما يوصلها إلى العاصمة.

- وكيف عرفتِ؟

- انظري إلى حذائها!!

اشششش.. صحيح حريم ألا تستطعن السكون ولو لدقيقة واحدة؟. كان أحمد يقطع محاضرته كل عشر دقائق تقريبا ليطلب منا السكوت والانتباه.

عفراء فتاة مملوحة لكنها ليست جميلة من أب مواطن وأم هندية ذكية طموحة وجادة وقد لاحظت أن بعض الموظفين المصطفين أمامنا كانوا يحاولون ترقيمها رغم قلة جمالها. حيرني هذا الأمر وشغل بالي لفترة طويلة.

سماهر من أم لبنانية وأب عراقي أسلوبها في الحديث بذيء مشيتها وجلستها وطريقتها في التعامل تدل على أنها - ساقطة - تحاول تقليد اللهجة الخليجية فتخرج الكلمات من بين شفتيها كالأكل الذي طبخ لمريض بالضغط. بداية الأسبوع تكون على سنجة عشرة أما باقي الأسبوع فتكون قذرة ولا أبالغ في هذا فملابسها مبهدلة وغير مكوية وشعرها غير مصفف ومزّيت ورائحتها كريهة. تعلق زميلتي مريم على هذا الأمر وهي ضاحكة: مؤكد لا يوجد لديها وقت لتهندم نفسها فأول الأسبوع (تصيد) وباقي الأسبوع تعمل أعمالا شاقة لزوم المصروفات.

فاطمة الزهراء علي محمد أصغرنا سنا وجسما شابة لها وجه جميل باسم بيضاء لطيفة، الوحيدة التي تضع العباءة على رأسها وتحاول دائما تغطية يديها.. متدينة جدا مشكلتها الوحيدة أنها وعندما يحين وقت الصلاة تخرج دون استئذان وفي كل مرة يقول لها أحمد: يا فاطمة نحن جميعنا مسلمون وجميعنا نود الصلاة لكن لا يجوز أن تخرجي قبل أن انهي حديثي. وفي كل مرة تخرج!.

أما زملاؤنا الموظفون فقد كان عددهم يفوق عددنا بكثير كانوا خريجي جامعات جدد صغاراً بالسن لم أكن أنا اهتم لأمرهم عمل منهم اثنان في إدارتي احدهما أصبح مديرا والآخر أطلق لحيته وأصبح متدينا بعد أن عمل في قسم جميع موظفيه متدينين. كانت علاقتي بهم جيدة رغم ابتعادي عن مظاهر التدين وقد كنت أتعاطف معهم كثيرا خصوصا بعد أن عرفت أن مديري يكرههم كره العمى وقد حاولت طوال عملي معه معرفة السبب لكنني فشلت.

لاحظ أحمد ومنذ البداية بأنني لا أهتم لأمر التدريب وأتعامل مع زملائي في قاعة التدريب بفوقية واستهتار وعندما يتحدث عن نظام الترقيات والعمل والاجتهاد أعلق أنا بشيء من السخرية: (ما فيه شي أفضل من فيتمين - و - مفيد ويعطي نتائج مبهرة)!.

في إحدى المرات وبينما كنا في استراحة الإفطار أخذني أحمد إلى مكتبه. جلس قبالتي وقد كان جادا على غير العادة ويبدو عليه الغضب نظر إلى نظرة حادة ثم قال: هل أنت هنا لتعملي أم لتستعرضي؟!.

.... يتبع

- قاصة من الإمارات العربية المتحدة amerahj@yahoo.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة