Culture Magazine Monday  13/08/2007 G Issue 211
فضاءات
الأثنين 30 ,رجب 1428   العدد  211
 

الديكتاتور كما رسمه حسيب كيالي «1»
نبيل سليمان

 

 

بعد ثلاثة عشر عاماً من وفاة الكاتب السوري حسيب كيالي (1921-1993) أحيت مدينته إدلب ذكراه في شهر تموز يوليو الماضي، وهي المرة الأولى التي تحيي فيها سورية ذكرى هذا الكاتب الكبير الذي رحل إلى دبي منذ أكثر من ربع قرن، ودُفن فيها. ولعل إحياء ذكراه ما كان ليكون لولا أن وزير الثقافة السوري الجديد رياض نعسان آغا هو ابن مدينة حسيب كيالي نفسها. وبالطبع، لا ينبغي أن تُغْفَلَ جهود الكتاب من أبناء إدلب: خطيب بدلة ونجم الدين السمان وتاج الدين الموسى...

ترك حسيب كيالي كما تؤكد أسرته ومراسلاته مع أصدقائه الكتّاب أكثر من عشرين مخطوطة. وكان قد بدأ ينشر قصصه القصيرة منذ أكثر من نصف قرن، ثم كتب الرواية والمسرحية والمقالة، كما ترجم عدداً من الأعمال المميزة. وقد أصدرت وزارة الثقافة السورية في احتفاليته المجلد الأول من أعماله، ليضمّ مجموعاته القصصية (مع الناس - أخبار من البلد - رحلة جدارية - حكاية بسيطة - الحضور في أكثر من مكان).

وذكر كاتب مقدمة هذا المجلد أن مجموعة (حكايات ابن العام) والصادرة عام 1992، قد استثنيت من المجلد لأسباب لم يشأ ذكرها، وليس يخفى أنها أسباب رقابية لا توفّر حتى من رحلوا. وكان وزير الثقافة نفسه قد أشار في كلمته في الاحتفالية المذكورة إلى أن بين مخطوطات حسيب كيالي التي وعد بنشرها، ما لا يمكن نشره للأسباب نفسها. لعب حسيب كيالي مع رعيله في مطلع خمسينيات القرن الماضي دوراً حاسماً في الحياة الثقافية السورية، ومن أولاء شقيقه مواهب كيالي وحنا مينة وشوقي بغدادي وسعيد حورانية وعبد المعين الملوحي وآخرين.

وقد أسس ذلك الرعيل رابطة الكتاب السوريين عام 1951، التي عقدت الاجتماعات التمهيدية لها في بيت حسيب كيالي وشقيقه. وكانت تلك الرابطة قد أسفرت عن تأسيس رابطة الكتاب العرب عام 1954، ومن هذه ولد الاتحاد العام للأدباء العرب الذي آلت إليه ولايته إلى علي عقلة عرسان قرابة ربع قرن، مثلما آلت إليه ولاية اتحاد الكتاب العرب (السوري) لأكثر من ربع قرن. وقد كانت لحسيب كيالي مع عرسان صولات انتهت بفصل حسيب من اتحاد الكتاب العرب، وأورثته جرحاً لا يندمل. كان الراحل يرى أن القصة (مهما يكن نوعها، يجب أن تكون قطعة، جزءاً دافئاً نابضاً من الحياة، والبراعة في أن يجعل القاص (الكل) يتراءى من خلال هذا الجزء).

وبهذه الرؤية متحت قصص وروايات ومسرحيات ومقالات حسيب كيالي من الواقع الذي كان يراه (أعمق من كل خيال، وأبعث على العجب). فالحياة اليومية بخاصة هي ما تعلقت به كتابة كيالي، سواء في المدينة، أم في فضاء (إدلب) التي كانت لا تزال بلدة صغيرة أقرب إلى الريف منها إلى المدينة. وقد استأثر عالم الموظفين بخاصة بكتابة كيالي الإبداعية، كما كان للمثقفين وللساسة نصيب.

واشتهرت تلك الكتابة بالسخرية التي تنكأ الجراح وتهتك العورات، فيما تلتقط أو تؤسس عليه من الوقائع، فتصوغها في خلق فني مضحك ومبكٍ. ولا ريب أن التجربة اللغوية للكاتب قد عززت السمة الخاصة التي عرفت بها سخريته، بل لعلها هي ما جعل سخريته خاصة به وحده. ففي لغة الكاتب تتفاعل كنوز الفصحى مع كنوز العامية، فتتهجّن لغة القصة أو الرواية بصيغ ومفردات وأمثال وعبارات. أما الأس الانتقادي في السخرية، فهو علامة فارقة لشخصية وكتابة حسيب كيالي، تعززت بثقافته العريضة والعميقة، وبنزوعه العارم إلى التحرر من القيود، ثقافية كانت أم اجتماعية أم سياسية. ولعل ما خص به شخصية الديكتاتور، على قلّته، أن يجلو كل ذلك. ففي قصة (الرياض السندسية) من مجموعة (أخبار من البلد) الصادرة عام 1955، يعود الكاتب إلى الانقلاب العسكري الأول الذي قاده في سورية حسني الزعيم عام 1949، ليرصد وقع الانقلاب في قرية (قطنا) القريبة من دمشق، وذلك في صيدلية سامي زين العابدين، حيث التأم شمل الصيدلي مع مدير البريد والبرق منيب العطار وإمام الجامع الشيخ عبد الفتاح السلطي الذي يستنكر الانقلاب ويستذكر العهد العثماني: (كل يوم حاكم جديد! على زماننا كان السلطان يظل يحكم حتى يموت. ويكون لا يزال سخناً لمن يدفنه عندما يصيح الياوران: مات السلطان عاش السلطان، وإذا على العرش سلطان جديد، وكل أرض شربت ماءها). لكن منيب العطار يحكّ ذاكرته متسائلاً: (هذا حسني الزعيم أليس هو القومندان حسني الذي كان يأتي عندي في المركز أيام الفرنساويين ويستريح بعد المناورة؟).

وكان حسني الزعيم قد سجن رئيس الجمهورية السابق شكري القوتلي، فتساءل الشيخ عبد الفتاح مستنكراً: (إي معقول؟ قومندان يحبس رئيس الجمهورية؟). أما ذكريات منيب فتمضي إلى ما كان يدور من حار بينه وبين الزعيم إذ يخاطبه: (ولكْ منيب أوصِ على فنجان قهوة، سكر زيادة بالعجل، وإلا أمرت بإعدامك) فيرد منيب: (أنت يا عجل؟) ويتابع الزعيم متوعداً: (الأيام بيننا. والله ما في أحد سيملك هالبلاد غيري أنا. أنا ه تلر، موسوليني، فرانكو)، فيضربه منيب براحة يده على نقرته قائلاً: (ما بقي علينا غيرك يا...). هنا يعجل السؤال عما إن كان كل ذلك قد حدث حقاً. لكن الجواب يُناط بما يحلو للذاكرة والمخيلة أن تقرب به واحداً من الرعية إلى من غدا (بطل الانقلاب) و(البطل الوطني).

وقد دفع ذلك بمنيب العطار إلى أن يطلب من الشيخ أن يكتب رسالة باسمه إلى حسني الزعيم، تصفه بأنه أعظم رجل في العالم، وتوصيه بألا ينسى صديقه الوفي منيب العطار. وقد جاء عنوان القصة مما ابتدأ به الشيخ الرسالة مستذكراً ما حفظ من رسالة قرأها قبل دهر في كتاب أصفر: (بعد إهدائكم السلام كفيض الغمام، وإبداء التحية كالرياض السندسية..).

قبل ذلك كان السارد قد تولى في القصة تأثيل الزعيم بالوصول بنسبه إلى الخليفة الثاني، كما تولى سرد الاستفتاء الذي وصل بالزعيم إلى رئاسة الجمهورية، فنقرأ أن: (إحدى الصحف الكبرى في العاصمة عثرت على مخطوط أثري قديم مكتوب فيه أن الزعيم يتصل نسبه بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأن منجماً مغربياً فتح له في صغره فألاً وجد فيه أموراً عجيبة، وقيل إن المنجم همس في أذن المرحوم أبي الزعيم قائلاً: (هذا كنز، بالكم عليه.. سيحكم من البحر إلى البحر)، ثم إن حسني الزعيم يستفتي الأمة في انقلابه، فيتزاحم الناس على أبواب اللجنة الانتخابية، حتى إن الموتى والمهاجرين والمشلولين والخرس والطرش يشتركون في الاستفتاء.

ومن ألطف ما حدث أن بعض الدوائر الانتخابية وجدت بعد فرز الأصوات، أن عدد المقترعين يزيد مئات كثيرة عن عدد المسجلين في اللوائح. وقد علل أحد رجال الدين الوقورين هذه العجيبة بأن العناية الصمدانية قد دعمت هذا المخلص، بروح من عندها، وأسهمت هي أيضاً بإعلاء شأنه رحمة ببلادنا المسكينة. إلى رسالته، أضاف منيب العطار مما يحفظ، بيتين من الشعر ليخاطب الزعيم بما ينطويان عليه من السذاجة والمكر، وهما:

(سألت الله أن تسمو وتعلو

كالقمر المصور في كبد السماءِ

فلما علوتَ وجدت نفسي

وما عليّ سوى ردائي)

وكانت المفاجأة الكبرى ببرقية من رقّى نفسه إلى رتبة المشير إلى منيب العطار تطلب لقاءه، فاحتشدت القرية في الكراج تودعه. ولما بلغ الرجل القصر الجمهوري هاله احتشاد الناس فتساءل: (ما هذا؟ محشر؟ فرن يبيع خبز الوثيقة؟ جبل عرفات؟ صلاة الجمعة؟ كانت حدائق القصر محشوكة بشتى أنماط البشر: حرس، شرطة، جيش، بدو، حضر.. وفتح منيب العطار فمه مدهوشاً، وشعر بأنه ينضغط وينكمش ويصغر رويداً رويداً. أين يذهب في هذا البحر المتلاطم؟).

- اللاذقية Soleman@scs-net.org


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة