Culture Magazine Monday  13/08/2007 G Issue 211
فضاءات
الأثنين 30 ,رجب 1428   العدد  211
 

ما لم تقله شهرزاد
شهلا العجيلي

 

 

ما زلت على قناعة بأنَّ شهرزاد لم تقل الكثير ممَّا أرادت قوله، وأنَّه ما يزال لديها الكثير لتقوله. لقد حكَت شهرزاد خلال (ألف ليلة وليلة) الكلام المباح فقط، أمّا فيما يخصُّ الكلام غير المباح فقد آثرت الصمت، لأنَّها أدركت أنَّ (الصمت، لا الكلام، مخترع ثقافيّ)، وهي في كلِّ حكاية كانت تؤكِّد ذلك، بل كان الراوي الأوَّل، والمجهول يؤكِّد ذلك، بتكرار العبارة الشهيرة: (... فسكتت عن الكلام المباح).

وإذا كان الكلام في (ألف ليلة وليلة)، الذي كان يخرق بعنف (التابو) الاجتماعي، والسياسي، والديني في كلِّ حكاية تقريباً، مباحاً، فما هو الكلام غير المباح، وكيف يكون ذلك الكلام غير المباح؟! يمكن أن نعتمد على أحد تأويلات النصّ (ألف ليلة وليلة) لنميط اللثام عن شهرزاد، وعن كلامها غير المباح، إذ يقول ذلك التأويل بأنَّ حكايات الليالي وضعت من قبل ذلك المبدع أو مجموعة المبدعين لتحدِّي ثقافة المتن، ولتخفيف وطأة سلطته النسقيَّة، فيُلتفت حينئذ إلى ثقافة الهامش، ومعاناة عناصره، وكوميدياه، وتهكُّميَّته المقذعة، ونصوصه ذات اللغة المختلفة، والأصوات البوليفونيَّة، التي تدلُّ حتماً على اختلاف الرؤية، بل تضاديِّتها. ذلك كلُّه وضعه الواضعون المجهولون على لسان الراوية الرئيسة، وبطلة النصّ، شهرزاد، التي تقوم بتوليد الحكايات حفاظاً على حياتها، كما يقول النصُّ.

ومع كلِّ حكاية يكون لشهرزاد يوم جديد في الحياة.

إنَّ ما أراده الواضعون لشهرزاد هو أن تكون شخصيَّةً مدهشةً، ممتلئةً اجتماعيّاً، ودراميّاً كي تجذب المتلقِّي، فيصغي إليها حتَّى النهاية، لأنَّ للراوي موقعاً إيديولوجيّاً في الرواية، وكلّما كان موقعه أكثر تمايزاً، كان تأثيره في المتلقِّي أشدَّ وطأة.

لقد كانت شهرزاد أداة لتحدِّي ثقافة المتن، وحينما تكون الأداة من صلب المتن، فتتحدَّاه، ستكون مصداقيَّتها أعلى لدى عناصر النسقين المعارض والمسيطر على حدٍّ سواء.

بذلك يسقط الاتِّهام الموجَّه لشهرزاد بأنَّها شخصيَّة براغماتيَّة، حرَّرت نفسها من الموت بإدانة بنات جنسها، عبر رواية حكاياتهن، ووصف أجسادهن، وعلاقاتهنّ، وكشف حيلهنّ، وشرورهنّ، ومكائدهنّ. إنّها على العكس تماماً أداة جاء بها النسق المعارض ليتحدَّى النسق المسيطر من داخله.

أمَّا هي (شهرزاد)، فلم يأبه أحد بها، ولم يهتم بمشاعرها لا النسق المسيطر الذي نبذها كونها خرجت على أعرافه، ولا النسق المعارض الذي أتى بها، ووظَّفها بنفعيَّة مفرطة.

لقد ألقى بها الصراع بين النسقين في أتون شهريار، من غير أن ينتبه أحد إلى أنَّها أغرمت به، وأنَّها كانت تروي كل ليلة لا لتنفّد إستراتيجيَّة الهامش ضدَّ المتن، بل لتستبقي رجلها ليلة أخرى، وأنَّها كانت تستعير أجساد النساء ومعاناتهنّ، وتجمّع حكمة الأمم وعِبَرها، لتتمكّن من الإمساك بتلابيب متلقِّيها المباشر شهريار، وأنَّها كانت تصمت فلا ترمي ما بجعبتها جميعاً، كي تلقاه في الليلة المقبلة، فتجد ما تقوله له. وكان هو أيضاً ينتظر قولاً ما، لم تقله، وكذلك كنَّا، وما زلنا نفعل بوصفنا متلقِّين. فإذا ما اختبر أحدنا مشاعره الأوّليّة عند تلقِّي حكايات شهرزاد، سيدرك أنّه تعلَّق بها منتظراً ما ستقوله شخصياً لشهريار، بعيداً عن الحكاية، وما زلنا ننتظر ما لم تقله شهرزاد، لكنَّ شهرزاد امرأة فائقة الذكاء، إذ جعلتنا ننتظر قولها مئات السنين، هي المرأة النموذج، التي يحكي عنها إبراهيم الكوني في روايته (أنوبيس): المرأة في رأسها. إنّها تخفي في جعبتها دائماً قولاً نفيساً لم تقله.

بل المرأة لا تقول أبداً ما تريد أن تقوله، لا تقول أبداً ما يجب أن تقوله، لأنّها تعلم أنّ القول الذي تكتنزه دائماً أنفس بما لا يقاس من القول الذي تقوله. لهذا السبب لا نملُّ الاستماع إلى المرأة، لأنّنا ننتظر أن تقول لنا في النهاية ذلك القول الذي تخفيه، ولكنَّ المرأة أذكى من أن تتنازل لتقول سرَّها، عكس الرجل.

إذن، بالصمت عن الكلام غير المباح، وليس عن الكلام المباح تمكَّنت شهرزاد من استبقاء شهريار، فبالصمت عن مشاعرها الشخصيَّة، لا عن حكاياتها تمكَّنت من الإيقاع به.

لقد انتظر منها كلمة حبٍّ، لا حكاية، وانتظرت هي أن تقول بأنَّها تحبُّه، لا أن تتحرَّر من أسره، وأرادت أن تواجهه بمشاعرها من غير أن تستعير حكايات الآخرين ولغاتهم، لكنَّها توقَّفت لأنَّها أدركت أنَّها بالصمت فقط تستبقي رجلها إلى الأبد.

- حلب


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة