Culture Magazine Monday  13/08/2007 G Issue 211
فضاءات
الأثنين 30 ,رجب 1428   العدد  211
 
في الثقافة العربية السائدة
د. أسامة عثمان *

 

 

يحلو لبعض مثقفينا أن يحطّ من شأن العرب والثقافة العربية، أو يستهين بالعقلية العربية، ويطعن فيها، وهي ظاهرة تتناص و(الشعوبية)، وإن اختلفت عنها في الدوافع والظروف؛ فالشعوبيون فريق من العجم لم يكونوا يرون للعرب فضلا على غيرهم، ويبالغون في ذلك إلى تنقصهم والحط من قدرهم؛ ذلك أنهم لم يستطيعوا نسيان ما حل بدولهم وحضاراتهم الآفلة؛ فحقدوا على العربية والعرب؛ فتعمدوا الإساءة والازدراء...

أما (شعوبيو) هذا العصر فإنهم على العكس من ذلك؛ إذ دفعهم الشعور بتفوق الآخرين علينا إلى المبالغة في جلد الذات وتجريد العربي وعقليته وثقافته من كل فضيلة.

ولا ينكر أحد أن العرب اليوم يعانون أعراض التخلف؛ الفكرية والاجتماعية والأخلاقية وغيره، وهذا طبيعي عند من أصيب باضطراب في الهوية.

ولو أراد باحث أن يرسم صورة للشخصية العربية اليوم، وتقصد الصدق لأعياه ذلك؛ لأنها ليست نمطا بسيطا موحدا، فمنها الحالمة والواقعية، ومنها المعتدلة والمغالية المتطرفة، ومنها العقلانية والعاطفية، وهذا مايفسر الانقسامات الحادة التي تتشكل وفقها المجتمعات العربية اليوم على رجع السياسة والأدب والفن، فما زلنا على مفترق طرق، وإن كان التجاذب قد زادت حدته.

ومع ذلك فإننا نستطيع أن نتحدث عن ثقافة سائدة، تحدد الأنماط السلوكية المقبولة والمتوقعة، وتلك الشائنة المنتقدة المستهجنة. وهي ثقافة يغلب عليها الهجنة، فلم تلق عن كاهلها وشاح التخلف والانهزامية بعد؛ إذ هي إفراز للحالة العربية العامة... وهي مع ذلك متفاوتة في الدرجة والنوع، وأجلى مثال لذلك التفاوت: المرأة العربية، فالمتعلمة المثقفة الفاعلة، ليست كنقيضتها في مستوى الاهتمامات والتطلعات... وأيضا فإن أهل المدن المشغولين بالأعباء والمشتبكين مع الحياة بزخمها وتسارعها ليسوا كأهل القرى التي لم يحظ أهلها بعد بذاك الاشتباك، وهذا في الأعم الأغلب.

والفريقان ينصاعان لمشترك من الثقافة يتمثل في إعلاء الصراخ على العقل، والعنف على الرفق، والمبالغة والتهويل على الواقعية والحقيقة؛ فلا تستهويهم إلا النماذج التي تدغدغ مشاعرهم وتراقص أحلامهم، دون جدية، وكأن ثمة تواطؤا وتناغما من الطرفين؛ أصحاب المطامح والمآرب، من جهة، والمتلقين لخطابهم، من جهة أخرى، على هذا الخداع المتبادل.

ولو نظرنا في القيادات السياسية التي استطاعت أن تحظى بجماهيرية واسعة فإننا نلحظ أنها في معظمها، قد استندت إلى خطاب شعبوي في المقام الأول، فالنداء الشعبوي يتوجه إلى الجميع، إلى كل من يعانون بصمت من الظلم والبؤس، وفي هذا النداء إشارات قد لا تكون جدية إلى الإنجازات الجماعية الكبرى التي يأملها العرب، وللقيم المشتركة بينهم، وهنا تكمن قدرته العاطفية وبعده الاستقطابي، والمفارقة أن تلك القيادات لم تحق اختراقا قوميا حقيقيا، أو نهضة تنموية شاملة كالتي شهدتها دول مماثلة، أو أقل شأناً.

ودائماً ظلت تلك القيادات السياسية تجد مثقفين يروجون لها، ويتناغمون معها في شعبويتها، بدلا من أن ينهض المثقف بدوره الطليعي التنويري، يقول جوليا بوندا في كتابه (خيانة المثقفين) (إن ما يعيب مثقفي العصر الحاضر هو تنازلهم عن سلطاتهم المعنوية، أو الأدبية في مقابل ما يسميه (تنظيم المشاعر الجارفة). وما زالت تلك العبارة التي قالها عام 1927م تنطبق على كثير من (المثقفين العرب). وتتسم العقلية العربية المعاصرة بعد ذلك بالتعميم السلبي، ولعله نتيجة مزيج من الكسل الذهني والعدوانية المتأصلة، منذ داحس والغبراء؛ فلو زلّ أحد الناس بهفوة، أو ارتكب يوما خطأ، فإن الألسن تسرع إلى تسويد صفحته، وتجريده من كل فضيلة؛ وتنسى أو تجحد كل فضائله السابقة وحتى الراهنة؛ وكأنهم كانوا ينتظرون منه ذلك ويتمنونه؛ فما إن يقع حتى يُنحر على مذبح الفضيلة والمثل التي كأنها أعدت للتباهي والإدانة أكثر مما هو للتمثل العملي؛ فلِمَ كل هذه العدوانية والجحود؟! هل هي فظاظة فطرية، أم هي إحدى إفرازات التراجع؟!

القرآن الكريم لا يجرد الإنسان من كل فضيلة حتى لو كان أبعد الناس عن نظرته، وهو غير المسلم؛ فتجد أن تعبيرات القرآن لا تعمم...{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا} (75) سورة آل عمران.

والإنصاف الكامل يدعو الرسول محمدا -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يذكر النجاشي بالرغم من كونه على غير دين الإسلام بما فيه (لا يُظلم عنده أحد) فيوجه أصحابه إلى اللجوء إليه فرارا من أذى قريش واضطهادها. وحتى المخالف للأحكام فإنه يبقى في دائرة الإسلام، فلا يجيز الإسلام تجريده من حقوقه، أو هدر دمه، أو الاعتداء على حرمة ماله.

يبلغ ببعضها من قلة التفهم، و(قلّة) هنا تعني العَدَم، أن يزدري حتى ذوي الاحتياجات الخاصة؟ هكذا ينظر إلى من ليس له خيار فيما أصابه؛ وفي (الأيام) لطه حسين، بعض الأمثلة لما يتعرض له كل ذي حاجة خاصة. فكيف تكون نظرتهم إلى المواقف الاختيارية التي قد لا تعجبهم من الآخرين؟! ولعلنا نردد مع صلاح عبدالصبور: (الناس في بلادي جارحون كالصقور!!).

يتعمد العربي (النموذج) أن يطبع سلوكه بالفظاظة! فهل السبب مفهومه عن القوة والغلبة... بالرغم من أن القرآن الكريم قد ذم رفع الصوت عن قدر الحاجة {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} سورة لقمان(19) وفي كليلة ودمنة (زعموا أن ثعلبا أتى أجمة فيها طبل معلق على شجرة، وكلما هبت الريح على قضبان الشجرة حركتها، فضربت الطبل، فسُمع له صوت عظيم باهر... فأيقن (الثعلب) في نفسه بكثرة الشحم واللحم، فعالجه حتى شفه، فلما رآه أجوف لا شيء فيه قال: لا أدري لعل أفشل الأشياء أجهرها صوتا، وأعظمها جثة).

وفي المقابل يعجب ويتعجب كثير منا من سلوكات الغربيين ودرجة تهذيبهم -وأقصد الأفراد- والإنسانية الراقية في تعاملهم بصفة عامة. والفرق هو فرق النهضة والتخلف، فالأخير يطبع أهله وأفراد المجتمع بطبائعه التي تأتي تعويضا سلبيا عن فقدان الإنجاز خلافا لهم زمن التفوق والتمكن؛ حيث الخطاب الواثق والتعامل الإنساني مع الآخرين الذي كان يتيح لهم كامل الحقوق الإنسانية، والمشاركة المتساوية في الإبداع والإضافة إلى التراث الإنساني المشترك، كما كان اليهود في الأندلس، مثلا.

*باحث وأكاديمي - فلسطين O_shaawar@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة