Culture Magazine Monday  13/08/2007 G Issue 211
نصوص
الأثنين 30 ,رجب 1428   العدد  211
 
قصة قصرة
أنامل المطر!!
بدور الأحيدب

 

 

(هل من المحتم علينا أن نفتقد الأشياء الجميلة كي نشتاقها ونعرف قيمتها ومدى احتياجنا إليها!!؟)

ها هو الليل يسحب أقدامه متجها إليّ... أنا التي أسكب كل دموع نهاراتي غير المتناهية في صدره.. حاجتي للوحدة جعلتني أهرب من كل الوجوه.. خبأت مرآتي كي لا أرى وجهي.. فأنا لا أود مطلقاً أن تلمح عيني أي سلالة بشرية حتى أنا.. بدأ الصمت رهيباً بيني وبين الليل.. لم أكن أطيق تلك الليلة أن أحبس نظراتي بين جدران غرفتي كيف لا و أنامل المطر لا تفتر تطرق نافذتي بلطف.. كنت أحتاج شيئاً واحداً فقط تلك اللحظة .. السماء وحضن المطر.....

تلك الليلة لم تكن أبداً ليلة عادية.. كانت وديعة.. صادقة.. وفيه.. هكذا شعرتها.. وهكذا أشعر كل الليالي الماطرة.. المطر وحده يجعل الأرض أكثر دفء وحنان وأقدر على امتصاص هموم النفس وأوجاعها.....

لا أعلم ما سر تلك العجوز التي تزورني كل المطر.. ولماذا تعجز ذاكرتي عن نسيانها حين قصدتني من بين حشود النساء؛ لتطبق على يدي بكفها المجعدة المرتعشة بعد صلاة العيد، منذ سنين مضت وهي تهمس بدموعها المتوسلة: بنيتي لا تتركيني إلا وقد أودعت يدي في يد ابني.. ولا أعلم كذلك لماذا كانت يدي دافئة رغم برودة الجو؟ هل كانت تعد نفسها لاستقبال تلك الكف المرتعشة؟ لتدخل دفء الطمأنينة إلى جسدها!؟

لا أعلم صدق سر انفلات الدموع من عيني كلما تذكرت الحدث!!

احتضنت يدها بحنو وعاهدتها أني لن أترك يدها إلا في يد ابنها.. دعوة صادقة لهجت بها لم أستطع تمييز كينونة أبجديتها المسكونة بالبرد ورهبة الموقف لكن فرحة سرت في روحي واستوطنت صدري حين صافحته.. هذه اللحظة بي رغبة ملحة إلى رؤيتها بيْد أن الحياة لم تمهلني في أن أعرف عنها سوى كفٍ يسكنه الصقيع وعيونٍ يتكثّف فيها الخوف والهلع.. أتمنى لو التقيتها مرة أخرى.. فبعض الأرواح نتوق إليها حتى وإلّم يجمعنا بها سوى نصف دورة لعقرب الدقائق!!

بي يقين تام أن الذكرى التي تصاحب المطر هي الأكثر طهراً.. ربما يكون هذا المشهد لا يثير أكثر من الملل بالنسبة إليكم، بيْد أنه يعني لي دهشة لا زالت تعتمل في نفسي كلما زارني!! تلك الذكرى ما زالت تقول أشياء كثيرة تشدني إليها.. وما زال رحم محبرتي عاجزاً عن ولادتها!!

حين تمر أشعر برغبة لا تقاوم إلى البكاء!!... صدقاً أعشق المطر.. فهو حكاية يطول سرد تفاصيلها.. لا شيء يشبهه إلا زقزقة ضحكات الأطفال وقلوبهم البيضاء وحلاوة أرواحهم.. تصير الأرض بعده كعيونهم نقية.. سخية البهجة.. يحفها الطهر.. لكنه - ذلك الأروع والأقدر على إسعادنا - لا يمهلنا كثيراً.. يرحل بعد أن يودع عبقه في رئة الحياة.. نتنفسه في سكون واطمئنان... لا شعور سيئ يعترينا بعده.. لا وجع ولا ألم ولا حزن ولا ضيق!!

يظل الشعور الوحيد هو التوق للقائه مرة أخرى.. يغسلنا من كل شيء؛ لنولد من جديد كأطفال نرغب بالركض والعبث بالتراب الذي احتسى قطراته.. نغرس أقدامنا في الطين ونبني بيوت أحلامنا.. نرغب أن نمارس طفولتنا بكل مباهجها، لكننا وفي كل مرة نقمع ذلك الشعور خوفاً من أن تباغتنا عين تجهض فرحتنا.. لذا نخبئ كل مشاعرنا في آمن مساحة - صدورنا - ونمضي..


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة