الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 13th September,2004 العدد : 76

الأثنين 28 ,رجب 1425

الغذامي والثقافة التلفزيونية.. سقوط النخبة وبروز الشعبي
الصورة ديوان البشرية الجديد.. وأميركا المحبوبة المكروهة..والغزو الثقافي مقولة واهمة
* الثقافية عبدالله السمطي:

تتوزع اهتمامات الناقد الدكتور عبدالله الغذامي حسب اصداراته النقدية الخمسة عشر الصادرة ما بين عامي 1985 2004م بين ثلاثة مجالات ثقافية:
الأول: المجال الأدبي، بما يشمله من قراءات ومقاربات تعالج الشعر، والقصة القصيرة، والكتابة الأدبية النقدية.
الثاني: المجال النظري، ويتعلق بأدوات العلم النقدي النظري وآلياته الممنهجة، ومفاهيمه وتقنياته.
الثالث: المجال الثقافي، الذي يبرز في قراءة الانساق الثقافية الشاملة، واستشراف دلالاتها المضمرة، عبر اعادة النظر في المسلمات وتقييمها من وجهة الدراسة الثقافية الفاحصة.
هذه المجالات تتلاقى بالضرورة، إن متجلية أو مضمرة، في أحدث كتاب للغذامي وهو الكتاب السادس عشر في مسيرته النقدية الذي يحمل عنواناً ملفتاً هو:(الثقافة التلفزيونية.. سقوط النخبة وبروز الشعبي)
(المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2004م). يبحث الكتاب في مجال جديد هو الثقافة البصرية، التي تمثل فيما يرى الغذامي في المقدمة مرحلة ثقافية بشرية تغيرت معها مقاييس الثقافة كلها، ارسالاً واستقبالاً وفهماً وتأويلاً، مثلما تغيرت قوانين التذوق والتصور ص 7.
تبرز مقدمة الكتاب (ص.ص 521) التي جاءت بعنوان (الصورة والثقافة البصرية) الصورة بوصفها قيمة ثقافية تقع في مرحلة تالية بعد الشفاهية والتدوين والكتابية باعتبارها تمثل مع هذه المراحل الصيغ التعبيرية في الثقافة البشرية، ومن نتيجة تجلي الصورة بوصفها علامة ثقافية، ومصدر استقبال وتأويل، دخول فئات بشرية عريضة إلى عالم الاستقبال الثقافي، وهي تلك الفئات التي كانت مهمشة في السابق، كذلك كما يجزم الغذامي (جاءت الصورة لتكسر ذلك الحاجز الثقافي والتمييز الطبقي بين الفئات، فوسعت من دوائر الاستقبال وشمل ذلك كل البشر فتوسعت القاعدة الشعبية للثقافة وهذا دور خطير تحقق مع الصورة.
ويرى الغذامي أن آية هذا الدور تتمثل أيضاً في (زعزعة مفهوم النخبة) بحيث (صار الجميع سواسية في التعرف على العالم واكتساب معارف جديدة، والتواصل مع الوقائع والثقافات).
ويرى الغذامي تبعاً لذلك أن النخبة قد سقطت، بمعنى أنها فقدت دورها في القيادة والوصاية وتلاشت تبعاً لذلك رمزيتها التي كانت تملكها من قبل، ولم تعد الثقافة تقدم رموزاً فريدة لا في السياسة ولا في الاجتماع ولا في الفن والفكر وتلاشت الرمزية وحلت محلها (النجومية).
ويتحدث الغذامي عن النقد الثقافي والثقافة البصرية، وبروز الدراسات التي تهتم بالخطاب الاعلامي عند تشوميسكي وادوارد سعيد، وريتشارد رورتي وميتشل، وتعدد مجالات الصورة الحديثة في الأفلام والتلفزيون والوسائل الرقمية، كما يشير إلى أن هناك دراستين بالعربية في هذا المجال هما:
حصار الثقافة بين القنوات الفضائية والدعوة الاصولية لمصطفى حجازي، والعدد الخاص من مجلة (فصول) عن ثقافة الصورة. ولم يشر إلى أن هناك دراستين أيضاً في هذا المجال هما:(الكلمة والصورة) للمرحوم الدكتور عبدالقادر القط (القاهرة 1988) وقراءة الصورة وصور القراءة للدكتور صلاح فضل (دار الشروق، القاهرة ط1 1997).
ثقافات وصور
يتضمن الكتاب ثمانية فصول تأخذ العناوين التالية:
ثقافة الصورة، الثقافي التفاهي، الخوف من الصورة، اللباس بوصفه لغة، التلفزيون والتأنيث، أيديولوجيا الصورة، الارهاب بوصفه صورة، الصورة بوصفها نسقاً ثقافياً، وبذا تندرج كل فصول الكتاب في مجال الصورة والثقافة البصرية، فيما عدا الفصل الخاص ب(اللباس بوصفه لغة) ذلك لأن اللباس مهما كان ارتباطه بالصورة إنما يمثل أمرين، الأول:
تعبير عن التقاليد الاجتماعية وثقافتها والارتباط بما هو فولكلوري
والثاني: التأكيد على الهوية، أما كونه يمثل ثقافة للصورة، فهذا يجعلنا نستحضر قيماً أخرى للباس المتخيل، وللباس طقوس الدفن، وللباس المآتم والأعياد والأعراس وهي كلها أمور تندرج في الدراسات الفولكلورية،
ولا تندرج بالضرورة في هذا المبحث الثقافي، حتى لو ارتبط ذلك بأزياء مذيعات التلفزيون، أو حجاب المذيعة خديجة بن قنة على قناة الجزيرة التي يستشهد بها الغذامي.
ويؤسس الفصل المعنون ب(ثقافة الصورة) لماهية هذه الثقافة وتلك الصورة، حيث انتقل التعبير من الخطاب الأدبي لدى الشعوب الى خطاب الصورة مع ظهور السينما ثم التلفزيون ثم ظهور البث الفضائي التلفزيوني حيث
(عمت الصورة البشرية كلها وتساوت العيون في رؤية المادة المصورة مبثوثة على البشر كل البشر دون رقيب أو وسيط), وكل ذلك يمثل (علامة على التحول من ثقافة النخبة إلى ثقافة
الذي تلعبه الصورة بوصفها نصاً متحركاً، قابلاً للتصديق باعتبار أن الخبر المصور مثلا يحول المشاهد إلى شاهد عيان، بيد أن الغذامي يشير إلى نقطة مهمة وهي تدخل (الاخراج والمونتاج) في العمل التلفزيوني حيث أثبتت الدراسات أن جمهور المشاهدين لم يعد يصدق الصور، ولم يعد يأخذها كما هي، وإنما يتراوح بين تكذيب ساخر إلى تصديق أعمى.
وبأسلوب ممتع يأخذنا الغذامي إلى سرد بعض نماذج الصور التاريخية التي
لا تنسى منها مثلاً صور الصعود إلى القمر التي تعرض (نيل آرمسترونج) وهو يخطو خطواته الأولى على سطح القمر، وصور حرب الخليج 1991، والدعاية الاعلامية لخطر صدام حسين على أمريكا والعالم، حيث جرى تصوير صدام على أنه جبار قادر على تدمير البشر وان جاهزيته التدميرية ممكنة في غضون خمس وأربعين دقيقة، وصور الهجوم على برجي نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر 2001 وغيرها من الصورة التاريخية الشهيرة.
سيدة الثقافة البصرية
يؤكد الدكتور الغذامي، ونحن معه، أن أمريكا هي سيدة الثقافة البصرية وهي
الوطن الأكبر للصورة كانتاج وكثقافة وكاستهلاك أيضاً، والعالم كله من حوله أمريكا هو مضمار عريض للاستقبال.. ويتساءل: هل هو استقبال سلبي يؤدي الى أمركة العالم ثقافياً وذوقياً وعقلياً؟
إن الأمر يكشف عن غير ذلك، فيما يرى الغذامي، ولنأخذ فكرة (أمريكا المحبوبة المكروهة) إن ما يحبه الناس في أمريكا هو بالضبط ما يحبونه في أنفسهم، مثل المتعة والمنافسة ومثل معاني الحرية وانتصار الارادة البشرية، وهذه كلها معان انسانية مشتركة إن ما هو محبوب في أمريكا هو ما نراه بشرياً كلياً وخلاصة نسقية للبشر بخيرهم وشرهم، أما ما هو مكروه فهو ما يمس الفروق القومية والدينية والثقافية الذاتية بين الناس وأمريكا.
لكن هل يكفي تأويل هذه الثنائية (المحبوبة المكروهة) للكشف عن خواص الصورة التي تبثها أمريكا للعالم أم أن قيم هذه الصورة قد تكون دعائية وموجهة ومغرضة في بعض الأحيان لتشويه قومية أو جنسية أو ديانة أو طمس ثقافة كما حدث معنا نحن العرب والمسلمين، وكما حدث سابقاً مع الهنود الحمر، إن الأمر يحتاج لأكثر من ثنائية.
وخاصة أن الصورة النمطية لديانات وأجناس وقوميات لم تتغير في الاعلام الأمريكي المتلفز، بل وفي السينما الأمريكية المتجسدة في هوليوود، وهي صورة تتعمد الانتقاص من الآخر (نتذكر هنا الأفلام التي عرضت عن الهنود الحمر ورعاة البقر، والأفلام التي استلهمت حرب الخليج 1991، وسلسلة أفلام رامبو التي جسدها الممثل سلفستر ستالون) والتي تبين مدى الجهل المتعمد المقصود بثقافات العالم الأخرى خارج الامبراطورية الأمريكية.
الارهاب والصورة
من الفصول المهمة بالكتاب فصل يقرأ الأحداث الراهنة التي نحياها بألمها ونزقها وأبرزها الصورة الارهابية التي
طغت على أحداث العالم بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 التي تحل ذكراها الثالثة هذه الأيام، لقد صار الحادي عشر من سبتمبر علامة ثقافية عالمية، وهو اليوم الذي أفاق فيه الناس على صورة طائرتين تخترقان برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، واحدة تلو
الأخرى في تعاقب لا يزيد على عشرين دقيقة، كانت الصورة وهي تبث تلفزيونياً تحمل كل مقومات الاخراج السينمائي، وتضاهي أدق فنيات السينما لقد كانت صورة ناسخة لكل ما سواها من صور كما يلفت الغذامي، وبلغت قوتها النسخية أن ألغت كل سابقتها وصارت المصدر التأويلي لكل ما بعدها. وأول هذه المصطلحات التي نجمت عن صورة هذا الحدث هو مصطلح (الارهاب) في تلك اللحظة وأمام تلك الصورة انهزمت الفلسفة وانهزمت الليبرالية وانهزم العقل، إننا هنا أمام مرحلة مختلفة من التفكير السياسي والاعلامي والثقافي في كافة أرجاء المعمورة، وإن سعى الارهابيون إلى تفجير صورة كونية مدوية وخططوا لمعنى خاص بهم في ضرب خصمهم ضربة موجعة عبر التهويل في الصورة وجعلها صورة صارخة في وقعها حيث اختاروا أبرز المعالم وأدق الأوقات، فإن الخصم أيضاً قد لعب لعبته في استغلال الصورة المدوية هذه إلى أقصى مدى ممكن في تحقيق التأثير المطلوب له لكي يتمكن من كتابة نصه السياسي ورسم مصطلحه المناسب، ولم يبق على الانسانية إلا أن تسلم بشروط هذه اللعبة، بعد أن انهزمت كل مصطلحات الفكر الذي صار في تلك اللحظة تقليدياً وغير عملي، وغير مقبول.
إن الصورة المبثوثة لتهشم البرجين عملت فعلاً على تهشيم قوانين التأويل في الثقافة البشرية، ويبرز الغذامي خمسة أسس تمثل ما يدعوه ب(نحو الصورة) وهي: إلغاء السياق الذهني للحدث، السرعة اللحظوية، التلوين التقنني، تفعيل النجومية وتحويل الحدث إلى نجومية ملونة، القابلية السريعة للنسيان
(إلغاء الذاكرة).
الكتاب ممتع، ويشمل تأملات جديدة في عصر الصورة والاتصال، ويبرز أحداثاً راهنة يقدم فيها التلفزيون نسقه الخاص المهيمن، من الموضة إلى الأغاني إلى مشاهد العنف في أمثلة متنوعة يستطيع جهاز التحكم التلفزيوني أن ينتقل بالعيوب المشاهدة ما بين صور لصواريخ تقصف بغداد وما بين أغنية من نوع الفيديو كليب، حيث تشترك الصور كلها سواء الصواريخ أو الرقصات في صيغة ثقافية واحدة من حيث الألوان والومضات والأصوات والسرعة الخاطفة وفي صيغ الإثارة والتحريك البدني والنفسي. وعلى صدى هذه الثقافة الطاغية يرى الغذامي أن مقولة (الغزو الثقافي) ليست سوى مقولة واهمة هدفها المبالغة في تخويف الذات.
كتاب (الثقافة التلفزيونية)، يحمل رؤية جديدة وطريفة وخصبة في توجه الغذامي النقدي الثقافي، ويحتاج إلى الكثير من التحديق والتأمل المتسائل في تجلياته وتأويلاته.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved