الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 13th September,2004 العدد : 76

الأثنين 28 ,رجب 1425

أعراف
محمد جبر الحربي
ينابيعُ الذاكرة: حين رواني الراوي
(أخيراً عثرتُ عليك، حسبي منك قلة الوفاء بل عدمه، فو الله ما تمنيت طوال أكثر من عشر سنوات أكثر من أن أزرع كلمات العتاب المرّ بين يديك).
عتابٌ بقدر الحب.
هكذا عاد إليّ، عبر رسالة إلكترونية، أو عدت إليه، بعد غياب دام عمراً، فقدنا فيه الاتصال، ولم نفقد الحنين والدعاء، لم نفقد هويتنا ولا أسماءنا ولا لغتنا ولم نلتحف فيه، أو نلتحق بالمارينز العربي.
هكذا عاد الشاعر الأديب الصافي الوافي، حامد الراوي بعد عمر من العذاب.
التقيت به في بغداد، في مهرجان الأمة الشعري الأول للشباب عام 1983 والحرب الإيرانية العراقية تستعر وتخطف خيرة الشباب، عندما أراد الإيرانيون تصدير ثورتهم إلى الخليج والوصول إلى القدس عبر بغداد!!
فانحاز بأصله إلينا، وكان مرافقنا طوال المهرجان، فاعتدنا عليه واعتاد علينا، وعندما ودّعناه ودّعنا بدموع أصدقاء عاشوا العمر معاً، لا تعارفوا منذ أيام قليلة سريعة فقط.
ثم تكررت لقاءاتنا كلّ عام تقريبا عبر (المرابد) حتى عام 1988 والحرب مستمرة كأن لا نهاية لها.
كان الراوي وما زال، رغم ندرة المشاهدة أو الاتصال، من أقرب الناس لي، ومن أقرب الشعراء إلى قلبي.
وهو يشبهني أو أنا أشبهه شكلاً ومضموناً حتى لكأننا توأم حُكم عليه بالفراق.
وشعر حامد نهرٌ صافٍ يحرك الأرض ويشعلها، بسيط لا نستطيع الإتيان بمثله، وعالٍ كنخل السماوة.
وقد فتنّا حامد بخلقه وشعره، وما زلنا نردّده، ومنه قصيدته الشهيرة التي ألقاها آنذاك، ووجدت صدى كبيراً ورائعاً، وعدنا بها معنا إلى هنا، وكان الأستاذ عبد الله نور ممّن أذاع صيتها بروايته الدائمة لها ومطلعها:
مولاي لا تُطلق كلابك
أتضيق بي وطرقت بابك
إلى أن يقول:
يا من نفخت بمعزفي
لكأن جمجمتي ربابك
وفيها يقول:
مولاي خيلك أفزعتني
وعويل جندك فض أذني
أمحوت عار الذل عنك
فمن ترى يمحوه عني
امّحت الأيام والليالي، ولم تمّح الحروب، بل تتالت، واشتعل الحصار، واحتلت بغداد الرشيد، وانتشر القتل والحرق والسلب والدمار.
هكذا أريد ببغداد.
وكنت لا أسمع منه، ولا يسمع
مني سوى دعوات صادقة كلّ فجر أن يحفظه الله وأهله، ويحفظ العراق من هذه المسعورة الكريهة، ومن أعداء يخططون لهدمه وهدم الحضارة العربية الإسلامية منذ عقود.
وكان أن علقنا نحن الذين قلوبنا على أوطاننا، ومتنا ونحن أحياء.
عمرٌ من الحروب إذاً، مقابل ساعات من الشعر والمحبة جمعتنا.
عمرٌ من الحروب إذاً، وسنون من الترقب والانتظار والحرقة والمرارة.
عمرٌ من الحروب إذاً، كنت أدعو فيها دائماً أن يكون على قيد الحياة، وألا يذهب كمن ذهبوا.
ألا يُقتل على يد محتل، وألا يُغتال على يد مختل.
واليوم عاد، عاد بمرارة العتاب أنْ ما سألنا، ولا انشغلنا.
والمشكلة أننا معاً كنا نبعث بالرسائل مع أناس في رحلة البحث عن بعضنا.
أو عبر شعراء لم يُبلّغوا الأمانة، أو لم يفهموا قيمة هذه العلاقة النبيلة، وهذا التواؤم الفريد.
لكن الرسالة الإلكترونية المُرة هذه، مسحت كلّ غبار السنين، وأعادت حامد إلى قلبي الذي لم يغادره، أعادته صورة جلية واضحة، بدفئه، وصوته الخفيض، وحميميته، وابتسامته المشرقة الطيبة.
بعد أن كان في القلب صوت ناي حزين، وقصيدة شاردة، وجرحٌ كبير.
هكذا روى الراوي القلب بعد غيابٍ.
وهكذا عدنا ليبقى الشعر كما كان عابراً معبِّراً يصلح ما يُفسده الأعداء، ويعيدُ ما يحاولون تقطيعه وتجزئته ولو بحرقه.
فليحيَ الشعر، ولتسقطْ الجحافل المتربّصة بأمتنا شرقاً وغرباً.
وليحيَ الشعر، وليغردْ لساننا المبين.


mjharbi@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved