الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 13th September,2004 العدد : 76

الأثنين 28 ,رجب 1425

هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات
بقلم/علوي طه الصافي
واحدٌ.. كَأَلْف!!

لم يكن علماً من أعلام المملكة البارزين!!
لكنه كان في مجتمعه الصغير بمنطقة (جازان) معلماً متجذراً من أسرة عريقة في نسبها.
جده كان حاكما يطلق عليه (أبومسمار) كناية عن شدته وصرامته وشجاعته وكرمه، لشخصيته وتركيبته الخَلْقية بفتح الخاء وسكون اللام والخُلُقية بضم الخاء واللام أثرهما وسط عائلته، وتأثيرهما وسط مجتمعه الذي يهابه، ويتحاشى غضبته (المضرية) وصديقنا الغالي شقيق الروح كان عكس جده، لم يمتلك الناس بالشدة والصرامة والحدة، وإنما امتلكهم بقلبه الكبير، وحبه الأكبر، ومما يملك من القليل الذي يأتيه من دخل وظيفته المحدود.
فإذا لم تكن وظيفته كبيرة كان مركز شخصيته كان أرفع وأكبر من الوظيفة، بحيث إذا وجد وسط مجلس كان هو القمر الكبير المضيء، والآخرون مجرد نجوم!!
كان يهرع إذا طلب لنجدة، أو حل مشكل، فلا يتردد الآخرون لسماع رأيه، والأخذ به، لأن الله رزقه الحكمة وبعد النظر، واتساع الأفق.
وكان لا يتوانى عن مساعدة بعض أصحاب الحاجة ممن يعرف أنهم يستحقون المساعدة، وبخاصة الطلبة الفقراء والأيتام النابهين!!
لم أكن أعرف عنه هذا الجانب الإنساني، لكنني لا أستغربه بحكم معرفتي العميقة، ألم أقل عنه: إنه صديق غالٍ، وشقيق الروح؟.
قلت لم أكن أعرف عنه هذا الجانب الإنساني إلا في إحدى المدن الأوروبية حين قابلت أحد طلاب منطقته الذي كان يحضر لنيل شهادة (الدكتوراه) فسألني سؤالاً حاداً جارحاً كأنه طعنني بسكين في القلب، سألني: ما أخبار علي حمود أبوطالب؟
كنا في غرفة فندق في الدور العاشر فأحسست أنني أهوي من ذلك العلو في الفندق لأرتطم بالرصيف، وأتمزق أشلاء دون دماء لأن دمائي جفت، أو تجمدت قبل أن أقع على الرصيف، لكنني تمالكت فسألته: ألم تسمع شيئا عنه؟ رد: لا، ويبدو أنه قرأ سحابة سوداء من الحزن تفترش وجهي، فسألني مرة أخرى: ما به.. وما هذا التغيير الكئيب الذي خيم على وجهك؟
فسألته: لماذا تسألني عن (علي حمود أبوطالب) بالذات لِمَ لَمْ تسألني عن غيره من أصدقائك، فهل وصلتك أخبار عنه قبل أن ألقاك؟
سأل: ومن أين لي سماع شيء عنه، والمسافة بيني وبينه آلاف الأميال؟ ولقد سألتك عنه بالذات لعلمي بصداقتكما المتينة، وترتبطان بالنسب، إضافة الى أن له فضلا عليَّ لن أنساه، وربما لولا وقوفه معي لما واصلت الدراسة!!
سألته: وما نوع الفضل الذي لم تنسه؟
أجاب: أنت تعرف انني نشأت يتيماً فتحملت مسؤولية نفسي، ومسؤولية العائلة، وفضله الذي لن أنساه إنه كان يساعدني مادياً ومعنوياً على قدر ظروفه المحدودة!!
قلت له: إذن، فقد كان أباك الروحي؟
رد: في إمكانك أن تقول ذلك!!
قلت له: ماذا تتوقع أن أقول عنه، بعد الذي سمعته منك، وأعرفه عنه؟
ترددت أن أفاجئه، والأصح أن أفجعه بالخبر فيحدث له ما شعرت أنه حدث لي، فيقع من الدور العاشر، ولأنني كنت أعرف أن نوافذ الغرفة لا تفتح إلا بطريقة خاصة يعرفها العاملون في الفندق، ربما تحسبا منهم أن يلقي أحد النزلاء بنفسه من خلالها فيموت منتحراً، وما أكثر الحمقى في الغرب الذين ينهون حياتهم انتحاراً بشكل أو بآخر، بسبب، أو دون سبب!!
سألني: لم تجبني إلى الآن.. هل حدث له مكروه لا سمح الله؟
وقتها وددت أن أكون في شجاعة (عنترة) أو (شمسون)!! فاستدعيتهما حين تداعى ذكرهما فهجمت عليه بالجواب، نعم، أحسست بذلك فقلت له العبارة التي يقولها الناس في مثل هذه المواقف:
البقية في حياتك!!
فصعق، وأجهش بالبكاء، فواسيته في الوقت الذي أنا بأمس الحاجة لمثل هذه المواساة، وبعد أن هدأ أخبرته أنه انتقل إلى رحمة الله في حادث مرور بين مدينتي جيزان، وأبي عريش، وكان حينها يقوم بخدمة عائلة أحد أصدقائه، فقال لي:
مات في سبيل الوفاء، كما كان وفياً في حياته!!
قلت له لقد رثاه شاعر الجنوب الأستاذ (محمد بن علي السنوسي) بقصيدة مؤثرة نشرها في ديوانه (نفحات الجنوب) بعنوان (دمعة من القلب) هذا نصها:
كيف غاب ابتسامه ومراحه
وخبا وهو شعلة مصباحه
وانطوى وهو في شباب أمانيه
مطل على ذراها جناحه
أكذا؟ تنتهي الحياة سريعاً
كالسنا راح واختفى لماحه
ما حياة الإنسان في هذه الدنيا؟
وماذا شقاؤه وارتياحه؟
رحلة إن تطل تُمل وإن تقصر
تساوي إخفاقه ونجاحه
رأس مال الأديب قلب رقيق
والصدى من شعوره أرباحه
(يا علي يا أبا حمود) لقد أبكيت
قلباً تعصي الدموع جراحه
كيف أنساك يا صديقي وما زال
بقلبي من ذلك اللطف راحه؟
يتلقاك بالبشاشة والبشر
وفي عمق روحه أتراحه
ساخراً بالحياة يضحك حتى
غاظها منه هزله ومزاحه
ضحك الفيلسوف قد عرف الدنيا
فكان المزاح فيها سلاحه
كنتَ في ليلة الوفاة ضحوك السِّنِّ
جذلان قد زهت أفراحه
مرحاً تنثر الدعابة والتنكيت
والبشر مشرق وضاحه
فاذا بالقضاء يفجعنا فيك
صريعاً والموت حمر رماحه
وإذا بالمنى تعود منايا
وإذا بالغناء يعلو نواحه
صدمة زلزلت نفوس محبيك(1)
وأنت الحبيب(2) رقت رياحه
خُلُقٌ كالنسيم يعبق بالريحان
والورد ليله وصباحه
وجبين تطل منه على نهرٍ
وزهرٍ قد رف عطراً أقاحه
يا أخي يا (علي العمير)(3) عزاء
في صديق صفا ورقّ قراحه
كان منك الأخ الشقيق وداداً
نسب الود كالنضار صراحه
رحم الله ذلك الخلق السمح
وفاضت بالعفو عنه بطاحه
(ذو الحجة عام 1398هـ).
وكما صوَّره شاعرنا الكبير (محمد السنوسي) في مرثيته، إنه كان شخصية اجتماعية ظريفة جاذبة، يتسامى عن الضغينة، والحقد، ولم يكن الثراء، وجمع المال في أرصدة بنكية من اهتماماته فقد كان ممن يؤمن بقاعدة (اصرف ما في الجيب يأتك ما في الغيب).
كنت إذا ذهبت الى (جيزان) زائراً في الأعياد يرسل عائلته الى (صامطة) لنقضي الاجازة في مكتبته المنزلية، وتدور بيننا المناقشات والمدارسات، وكنت أحرص أن أجلب له بعض الكتب، والدواوين الجديدة لعدم وجود مكتبات في (جيزان) وأقرأ من مكتبته ما ليس في مكتبتي.
وإذا جاء إلى الرياض يحل في شقتي المتواضعة رغم وجود كثرة من أصدقائه ومحبيه من طلبة الجامعة وأساتذتها الجنوبيين.
في بداية حياتي وإقامتي بالرياض قبل أن أتعرف على المجتمع الأدبي والصحافي فيها شعر إنني أعاني من الوحدة فنصحني بصدق وإخلاص، وكان صائباً فيها، وكنت أثق في نصائحه.. قال لي:
يجب أن تصمد لأنني أحس أن مستقبلك في الرياض كعاصمة سوف يكون أثره على مواهبك كبيراً ومهماً، وسيكون لك شأن ومكانة أفضل من غيرها من مدن المملكة، ومن خلال عصاميتك التي أعرفها فيك سوف تتجاوز مرحلة البداية هذه، وتنطلق الى آفاق واسعة، وستجد كثيراً من طموحاتك تسعى اليك، وستحفر اسمك بجدارة لتكون واحداً من الأسماء التي تسمع عنها، لا أود أن أذكرك بما قاله (شوقي):
وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
تغلَّب على مشاعرك الآنية، واقتحم الحياة والناس عنوة دون تردد، أو تهيب، أو توجس، لا أريد أن أقول لك ما قاله (شكسبير) في عبارته (أن تكون، أولا تكون) بل أقول لك (ستكون) إن شاء الله ولا أزيد.
وقد صدق، لأن الله وفقني في حياتي الدراسية، والاجتماعية، والأدبية، والصحافية، لقد كانت نصيحة من إنسان غالٍ، وهي نصيحة أثمن من كل الجواهر الثمينة!!
وحين قرأ تعييني رئيساً لتحرير مجلة (الفيصل) في الصحف أبرق لي بعد صدورها بأشهر بحرارة:
(أيها الصديق الغالي أهنئ نفسي قبل أن أهنئك، لقد أثبت عن جدارة أنك بهذا المنصب قد تجاوزت نصيحتي، وأصبحت أنا في حاجة الى نصيحتك، وهذه يا عزيزي ليست نهاية الطريق، إن لم أقل بدايتها، إن الشكل والمضمون اللذين ظهرت بهما المجلة جعلت اسمك يتجاوز الحدود الإقليمية، إلى آفاق الوطن العربي الكبير، إنني كلما قرأت عدداً أجد أنه يتجاوز العدد الذي قبله، وهذا مصدر اعتزازي، وإن كنت في الوقت نفسه أخاف عليك، وعلى صحتك، وحقوق أفراد أسرتك، مع قناعتي إنه (من طلب العلا سهر الليالي) وأضيف (والأيام مع أعمق عميق تحياتي، والله يكلأك بتوفيقه).
وحين أنشر نص برقية صديقي الغالي الأستاذ (علي حمود أبوطالب) تغمده الله بواسع رحمته ليس لما فيها من مديح، وإنما لأنها تعكس شفافية روحه، ونبل سلوكه مع أصدقائه الذين يحبهم ويحبونه.
ولأن علاقتي بأسرته ما تزال قائمة حتى بعد وفاته، فقد جاءت أمه إلى الرياض مع والده الشريف حمود أبوطالب رحمه الله الذي أسعد بأن أدعوه بصفة (عم) تقديراً له وللصديق الراحل، وقد جاء الى الرياض للعلاج، وكنت أحرص على زيارته في المستشفى مهما كانت ظروفي، فقد كان يعرف عن علاقتي بالصديق الراحل، فيرى فيَّ ما كان يراه في ابنه البار الراحل.
طلبت من أسرتي أن تدعو أمه إلى المنزل براً بصديقي الراحل، وبعد انتهاء الزيارة حدثتني أم الأولاد بما أثار استغرابها، قالت: هل تصدق ما قالته أم صديقك لي ولبعض الجارات اللاتي دعوتهن على شرفها، لقد قالت حين سألناها عن عدد أولادها قالت (ألف وثلاثة)، ولكبر سنها لم نسألها، مع أن كلامها يثير ألف سؤال، وحين سكتنا قالت:
لماذا لم تسألوني كيف أنجبت (ألفا وثلاثة من الأولاد)، أنا لست مخرِّفة لكبر سني، ولكني أعني ما أقول، لقد أنجبت أربعة، لكن واحداً منهم كألف.. إنه (علي حمود أبوطالب)!!.
قلت لأم الأولاد: لقد صدقت هذه الأم، و(علي) هذا صديقي الذي حدثتك عنه حين توفي في حادث مروري، وسافرت الى (صامطة) لتعزية أسرته.. إنه حقاً واحد كألف كما قالت أمه!!
لقد كان صديقي الغالي (علي حمود أبوطالب) شخصية نموذجية استثنائية يقل مثله في كل زمان، وكل مكان، غالب الحياة فلم تغلبه، لكن أقدار الله أقوى من كل قوة.. لطفك ورحمتك يا رب العالمين.

alawi@alsafi.com
ص.ب (7967) الرياض (11472)
(1) كل الناس كانوا يحبونه ويحترمونه، فقد خلقه الله ليكون محبوباً بأخلاقه الرفيعة وتعامله الأرفع مع الآخرين على كل المستويات.
(2) صفة يخلعها عليه كل من يعرفه.
(3) علي العمير، الأديب المعروف، كان الاثنان كالأشقاء منذ طفولتهما ودراستهما في (المعهد العلمي) بصامطة، وكان الصديق الراحل أديبا مثقفا.

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved