الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 13th October,2003 العدد : 32

الأثنين 17 ,شعبان 1424

استراحة داخل صومعة الفكر
السفر في ذاكرة الزمن
عبد الله الحميد
سعد البواردي

الإبحار في ذاكرة الواحد منها ليست بالسهلة ولا بالميسورة.. إنها تغرق حين لا يكون لها القارب.. والمجداف.. والسواعد التي تساعد على تحريك دفته وتصحيح مساره.. هذا عن الإبحار في بحر الذاكرة المحدودة التي تختزن فيها حركة حياتنا العادية بعد أن تتحول إلى مجرد ذكريات. أما الزمن وذاكرته فمغامرة أشد مراساً وأبعد عمقاً.. وأوسع تجربة.. ذلك أن الزمن يحتوي في تجاديفه كل الأسرار، والخبايا النفسية الإنسانية بكل ما لها وما عليها من تداخلات وتداعيات ترتهن كل الحركات والسكنات من حولها..
وشاعرنا عبد الله الحميد اختار لنفسه هذا المسلك من المغامرة.. فهل انه نجح؟ وأي سفر أوصله..؟ وأية حصيلة توصل إليها؟ وأي زاد اعطاه لنا من خلال ديوانه «السفر في ذاكرة الزمن»؟.. آه يا زمن.!
هوى وطنه كان الزاد الذي استزاد به في بداية السفر.. هل كان مشبعاً لروحه وطموحه ولنا أيضاً؟
«أسافر فيك، ومنك إليك
ويحضنني الشوق في مقلتيك
أسافر عنك، وفي غربتي
أحن حنين الحزين اليك»
لماذا الحزن يا صديقي.. ألست القائل بأن سفرك منه وفيه وإليه.. انك بهذا المعنى لم تبرحه وانما تتحرك داخل أعماقه.
ألست كالذي زرعت شتلة نماء على شاطئك؟ وطوفت بحثاً عن متعة حياة الغيتها فيه وحده دون غيره..
ليتك انك استعضت بمفردة «الحزين» كلمة «المشوق» أو «الحبيب» انها أكثر التصاقا ًبالموقف.
والموطن في خاطره تراث، وتراب.. الصحراء واحدة من مكوناته الجغرافية التي تثير النشوة حين يغازلها المطر..
«لهفي على تلك الطموس الجاثيات
توشحت حلل الندى.. وتناغمت
حبات لؤلؤ.. ماطر..
الشوق يحضن صدرها المتنهدا
الحلم قبلها..
على شفة الصباح توددا»
ويمضي في توصيفه وهو يطوف بعينيه الوالهتين فيما حوله.. المطر الذي انفطر قلبه عشقاً له بعد مرحلة انتظار..
وهل أجمل من زخاته وايقاعاته على وجه ارض ظامئة لوعها العطش.. وصهرتها شمس القيظ الحارقه؟!
لقد جلس شاعرنا داخل فناء خيمته يرقب الغيث وهو يروي الكثبان العطاش ويوقع عليها أجمل معزوفة وأروع ألحان.. وفي النهاية تورق الأرض.. وتتهادى الأغصان ويتمنى أن يكون طيراً متفلتاً يرتاد أنديتها.
«وددت أني طائر.. متفلت بين الغصون
يرتاد أندية الهوى»
«متفلت» كلمة جافة في ميزان الشعر.. هلا أبدلتها بأخرى مثلاً «متنقل» بين الغصون.. أما أندية الهوى فقد نقلتنا بعيداً عن زخات المطر.. عن الصحراء.. إلى عالم تراكمت بعده ملامح الصور «الروتين» «المنحدر» «الخطر» «دوائر الأضواء».. لقد عاد إلى نفسه يعاتبها، يحاسبها لماذا لا تكون مطراً كالسحابة.. وليته أمطر في نهاية قصيدته بأفضل مما نثر من كلمات تقديرية مباشرة اخذتنا بعيداً عن سحر الصحراء.. وايقاع زخات المطر وهي تعزف سيمفونيتها على وجد الشعاب الظامئة.
ومع انطلاقة سفره نتحرك، نتأمل، نرصد حركات شاعرنا من خلال أخيلته ومخيلته.. إلى أين سيقودنا في تطوافه؟.
بسرعة تشبه الصرعة.. من مطر السماء المتدفق الى مطر الصواريخ المحرق.. إلى عناقيد الغضب التي صبها مجرم حرب اسمه شارون على أجساد أطفال ونساء وشيوخ في جنوب لبنان.. إلى «قانا» كان لقانا مع وجعه الشعري.
«صرخت طفلة..
ضجت الدنيا لصوت الصرخة الملأى
بأحزان الفجيعة..
عبرت طفلة تتهاوى دون أن تدري المصير
بين أشلاء من القتلى.. وأكوام الخراب
ذلك البيت التراب كان ظلاً
كان داراً عامرة»
نعم كان داراً عامرة تحولت إلى خراب.. ولكن يا صديقي الشاعر أين هي الدنيا التي ضجت؟ الدنيا بدناءة أهلها ورداءة ضمائرهم أشبه بالنيام.. وبالنعام التي تدس رأسها في التراب كي لا ترى على ما تظن..
الجريمة اسرائيلية والضحايا عرب مسلمون.. لا يهم.. هذا ما أكدته قانا.. ومن قبلها صبرا وشاتيلا.. ومن بعدها جنين وألف ألف جنين ما زالوا عرضة للإبادة الجماعية دون أن يستيقظ ضمير.. انها دنيا متوحشة.. لا تحركها «دان» في شعرك ولا «غان» في شعر غيرك.. يحركها فقط دم الاستشهاد وحده.
ومن سفر شاعرنا الأرضي أخذنا معه نحو رحلة سماوية لا أدري إلى أين؟ ملامحها ستدلنا عليها..
«رحلة غنت على رتم الوفاق
كل ما فيها ارتقاء واتفاق
شجن الإلف على آفاقها..
نسي الضغط.. تجلى واستفاق»
هل انه ضغط الجاذبية..؟ أم ضغط نفسي ملازم للصعود؟ لا أدري!
الآن اكتشفت أي سحاب يعني في رحلته.. انه ذلك السحاب الذي يلامس قمم الجبال الشاهقة في عسير..
«وتهادى بين أبها والذرى
في جبال السودة العليا وراق»
ركبه لم يتوقف.. حضن الشذى وصل إليه.. وربما أيضاً حضن الشفى استوعبه، الروابي عانقها شعراً.. تنومة.. والاودية الخضراء كانت على جادة ركبه وركب رفاقه الذين شدتهم معاً مفاتن الطبيعة وراحو يتساءلون مع بعضهم.. «هل شهدتم مثل هذا يا رفاق»؟
«الخطى.. والصمت الحزين» محطة تنتظرنا، وتستحث خطانا ربما مشاركة في احزانها معه.. أو مواساة يخفف عن الصمت غلواء حزنه.. لا أدري!
«أربعون! ماذا بعد سن الأربعين؟
ألمنى تمضي شمالاً.. وخطى خطى يمين»
إذا أنت سعيد بمينيك وبأربعينك الأشد قوة.. وقدرة على مواجهة الصعاب.. أليس كذلك؟! لا أصدق يا صديقي ما ترويه عنها.. انها الاستباق لمرحلة بعيدة يسمونها الكهولة.. أما أنت بأربعينك الربيعة فذروة الرجولة لا يهمك ما تتوهمه.. نسج القحط لم تغزل خيوطه بعد حتى في شعر الغزل.. والطموحات قائمة.. والشماعات السراب لن تتسرب على عيون الشباب فأنت شاب.. حتى ضغط الخلايا مجرد وهم.. دع هذه الوساوس لمثلي ممن شارفوا على الثمانين.. ومع هذا نحاول أن ننتصر عليها في معركة الأمل حتى ولو أوجعتنا ببعض من الألم.. عد بخيالك الرحب المتفتح إلى الحياة بعيداً عن الشباب.. بل الى الطفولة إن أمكن.. وأحسب انك عدت إلى طفولتك في شخص طفلة اسميتها «لمياء» حدثنا عنها:
«لمياء.. أم وردة هذه البنية؟
أم تراها خفقة القلب الندية؟
وردة في القلب.. حاكت نبضه
شفتيها.. همسات عبقرية»
اتوقف مع صديقي الحميد عند كلمة شفتيها.. لا أدري لماذا نصبها.. إذا كان النبض هو المحاكي فالصحيح «حاكى نبضه» وان لم يكن فلتكن «شفتاها» لأنها مبتدأ، والمبتدأ مرفوع بالألف.. أليس كذلك؟
يختتم قصيدته الوجدانية بهذا البيت الذي يخاطب به نفسه مشيراً إلى لمياء طفلته.. أو قريبته.. أو أية طفلة أخرى.
«زينة الدنيا.. وعمري بهجة
إن تراءى طيف لمياء البهية»
العيد جافاه، كما جافى أولئك المعدمين، والمشردين، والبؤساء من البشر.. انه حلم لا يلمسه إلا المحظوظون:
«يا عيد، يا حلم البراءة والمنى
إني افتقدتك في الحياة
وكم انتظرتك في الحياة، ولا حياه
ناجيت طيفك، لم أجد غير السراب
فتشت عنك بغربتي..
في يقظتي.. وسألت عنك:
فلم أجد.. حتى الجواب»
ماذا تريد ان يعمل لك العيد.. انه بالنسبة للكثيرين عيد بلا معنى.. سبق إلى عتبة قبلك أبو الطيب المتنبي «عيد بأية حال عدت يا عيد»..
وكثيرون قبلك، ومعك. ومن بعدك سوف يطرحون نفس السؤال دون اجابة:
«مناقشة» «سراب فراخ رحيل» تجاوزهما حيث «صوت الجرح وصدى الهوان» بعد ان اتخمنا الصمت..
«شمس على لبنان ظل اعلى قلبي
يكتظ بالأحزان.. والغيرة الجرح
شهقت ذرى الحمراء من رجفة القصف
وهوت على كهفي بنوازل دهماء!
ويلاه من ضعفي»
ضعفك يا صديقي استبانت ملامحه.. لعلك فيما سيأتي تكون اقوى:
«لبنان صوت الجراح
وصدى الهوان المر
انشقت الاحزان
واهتزت الارجاء
بركان نار ثار
فتفجر البنيان
واغتيلت الشكوى»
لا اكتمك.. لم تعط لصورة المأساة ما تستحق وانت القادر على ان تعطي افضل وافضل مما اعطيت.. ليتك قرأتها بحسك المرهف.. ومن لبنان وشمسه وظله. واحزان التي تعجز الكلمات عن رسم صورتها يوم ان اهتز ضحية لأبنائه المتخاصمين.. المتصارعين.. من حرب لبنان الى «مرايا الحب» نقلة موضوعية تعيد الينا انفاس الامل بحياة اجمل.
«اتهيجك المشاعر والشجون
ويبهج قلبك الشعر المهتوى
وتشتعل العواطف فيك شجا
من الانداء تغسلها المزون
يتيه خيالك الفطري زهوا
وتسرح فيه ما تهوى العيون»
هكذا اريدك بهذه الجزالة في اللفظ والمقدرة على الطرح فارسا يمسك بناصية الكلمة توصيفاً وتوظيفاً لمفرداتها.. حنينها مع الشكوى نسيج.. وشعرها صاغه قلب حنون لا يؤذي ولا يتعسف أن يأسف في النهاية ويعتذر:
«فمعذرة اذا انتفضت حروفي
فان القلب خفاق حزين»
شاعرنا في شعره يتعشق الغربة لا ادري لماذا؟ ويهوى النزوح من فرح الى ذلك بهواجسه:
«صديق العمران لي النزوح
وارقني التلون والجموح
زرعت الشوق في دربي رحيقا
فصارت قافه كافا تنوح»
هكذا تحولت اشواق الى اشواك غرست مشقتها في كيان ووجدان محصلتها قروح لا تندمل كما هي حال كل المتيمين بحبهم.. المستسلمين في حربهم.. حب الضعف الذي لا يهوى المتمرد حتى ولو كان له ضرورة موقف لابد منه.. الا ان اخيرا يتمالك ما بقي له من شجاعة.. ويصرخ في وجه من جافاه..
«حبيب العمر منتجعي سيمضي
بعيدا.. عل قلبي يستريح
ولن تقف العوائق في طريقي
لتقتله.. ويرفضها الطموح
شجوني لن يعوقها انين
ولن يغتالني الأمل الجريح»
هكذا حب الاقوياء بكرامة كما يجب ان يكون يا صديقي كي يحترمك من تحب ومن لا تحب.. وتمضي بنا قافلة المرحلة على درب قافلة الشعر سريعة الخطى متجاوزة بضع محطات «عاشق العليا».. «سيد رأس البر» «تحت شجرة الوداح» الى ما بعدها.. الى «خيال سلمى» بماذا اوحى له؟ ومعظم شعره يتصيد الخيال دون ان يخترق الى الأصل كمن يتعامل مع الظل دون غيره:
«خيال.. وخيال..
وليل حزين طويل..
وصوت شجي كصوت ابي في انسياب الأصيل
وطيف نبيل..
وعينان منها البراءة تنسج معنى الهديل
وغصن توشح ثوب الطفولة.. وهو عليل»
كلنا كالأشجار لا نهوى شيخوخة الاعمار لو قدرنا.. التجاعيد تخيفنا .. ترهقنا.. تديننا من النهاية.. وتقربنا الى الافول تماما كما في زنبقتك:
«يسكننا الموت منذ سنين
نغص بالانين
نرتاح مثلما الشياه ترتاع من عقور
نرتاد في الصباح بسمة البكور
ونكره المساء اذ يعود بالانين
ويرفض الحنين.. نبكي»
لماذا.. الصباح شمس وتوجه واشراق يجسد الامل.. اما الليل فغروب.. وارتياع يمثل الالم.. رغم ان الليل فيه عشق الشعراء.. وطرب المطربين.. آه لو انهم ابصروا معنى النهار لأتخموه شعرا وطربا..
«اسألها سلمى.. حبيبتي
ماذا؟ بماذا تشعرين
تجيني كوردة تكتظ بالذبول..
لا شيء..
وامي الحنون تئن من انينها
وتسكن الذهول»
الذهول على حد علمي هو الذي يسكن ولا يسكن.. حسنا لو جاء، الشطر على النحو التالي «يسكنها الذهول»
ويبدو ان سلمى غالية غالية على قلبه لم يتسع لها صدر قصيدة واحدة بل افرغ لها اخرى تحت عنوان:
«محطات للحزن. والبراءة. والرحيل»
«منذ الطفولة سلمى
كنتِ في البيت نشيدا
والعصافير لديك يملأون الكوخ تغريدا فريدا
والفراشات تناجيك. وتهديك الورود»
كانت فرحة. وبهجة امل. ونور بيت. وعنوان سعد.. ما الذي حدث لسلمى؟ اي لذلك الطيف الحالم؟
«وردة فرت من البستان
حين قطعت الوريدا
عيدنا انتِ.. وان ما
هل نسمي العيد عيدا»
سؤال لشاعرنا المجيد.. من قطع الوريد؟ على من يعود الضمير؟ لن يكون ابدا ولا هي ذلك المفاعل هل نستدل عليه في سياق القصيدة الجميلة؟
«تصارع سلمى شيظايا الحياة
ونحن نريد لسلمى الحياة
فتعجز كل خيوط النجاة
وتبسم رمز البراءة ومض ضياء
وتشرق تلك العيون الحزينة
وامي بين الرجاء مؤملة مستكينة
تقلب بين الرضى والدعاء حروف السكينة
وتغرس سلمى خلال الوداع.. الرحيل الحزين
فيهتز في خافقي الانين.. وابكي»
ولبكائك بكت عيون اخرى بللت اوراق شعرك ومشاعرك.. ورسمت حولها صورة درامية اطارها بناء جيد.. وظلالها حبكة فنية يحسب لك رصيدها كشاعر عاش المعاناة قلباً.. وقلماً.. اما النهاية وبوح الوداع الحزين فان النهاية التي لا تسترجعها دموع بقدر ما تخفف من اوجاعها.. وهكذا بكيت انت.. وغيرك بكى وكلنا سنبكي وسيبكى علينا.
محطات عمر كمحطات رحلتنا ديوان شعرك «السفر في ذاكرة الوطن.. تنتهي بنهاية.. الا ان محطات العمر تنتهي بعنوان آخر اسمه «السفر الى عالم آخر» كلنا في انتظاره.. واليقظ من يجمع لرحلته زادا يتزود به يوم لقاء ربه.. وليس أفضل من زاد التقوى.
وبعد لشاعرنا عبدالله الحميد التحية.. وقد اسعدنا برحلتنا معه.. ورحلتنا مع شعره المشبع كثيراً بمشاعره التي لا ينتقص منها بعض هنات هنا.. أو هناك .. إنها تجربة لشاعر مجرب لا يهاب التجربة.


الرياض ص.ب 231185
الرمز 11321 فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved