الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 13th October,2003 العدد : 32

الأثنين 17 ,شعبان 1424

رواية الحصون (ديك الشيبة) وجدلية التغييب «1 2»
في ذكرى المشري رحمه الله

* عثمان جمعان الغامدي:
إرث الأستاذ عبدالعزيز مشري رحمه الله ست روايات هي: الوسمية، والغيوم ومنابت الشجر، وريح الكادي، وفي عشق حتى، والحصون، وصالحة، ومعظمها أخذت على عاتقها هم نقل الأجواء الريفية باهتمام بتفاصيل القرية، وخاصة القرية الجنوبية، فنقلت أشكال التعايش بين أفرادها القرويين، من تعاون في الزراعة والرعي والتآزر الذي يعده الفرد القروي من أهم سبل الحياة في مكان تضن فيه المادة وتشح فيه الموارد الاقتصادية، خاصة إذا ما نزلت بهم نازلة ما، كما اهتمت رواياته بتصوير لجوانب الحياة الحديثة المعاشة في القرية التي امتدت إليها يد التقانة، ودارت في رحى المدنية، ما يشي بإصرار المؤلف على الإيعاز للقارئ بأن تلك القرى أضحت مسخا، فلا هي بالقرية ولا استطاعت أن تخلق المجتمع المدني بداخلها.
وتكاد كل روايات مشري في غالبها تكون روايات تقليدية من حيث البنية القصصية، عندما يؤطر مشاريعه القصصية بأدوات الروائي الذي عاشر القصة فيما قبل نقلتها الحديثة، أي قبل القرن الثامن عشر، ولذلك نجده يميل إلى النصوص الوصفية، كما يطلق عليها جيرارجينيت، خاصة عندما يوافينا برصد دقيق للشخصيات، فينقل الصورة كما ينقلها الفوتوغرافي حتى إننا لو حاولنا جمع كل ذلك الوصف على امتداد الرواية فنكاد نرسم الشخصية كاملة في أذهاننا، مع أن الاتجاه الحديث في الفن الروائي يحط من شأن الشخصية، ويضئِّل من قدرها، ويقلص من دورها عبر النص الروائي، ما حدا ببعضهم إلى إطلاق مجرد رقم على شخصيته أو أسمى شخصياته بحروف هجائية فقط، لكن مشري جعل من وكده وصف ملامح شخوصه وقاماتها، وأصواتها، وملابسها وسحناتها وغير ذلك الكثير من جوانب الشخصية. ولأن العناية الفائقة برسم الشخصية، أو بناءها في العمل الروائي، كان له ارتباط بهيمنة الترعة التاريخية والاجتماعية فإن هذا يتأكد لدينا عند قراءة رواية عبدالعزيز مشري: الحصون (ديك الشيبة).
استخدم المؤلف ضمير الغائب في هذه الرواية ليمكنه من تسجيل النوازع النفسية التي تنطوي عليها الشخصيات، ويمكن إيجاز الرواية بأنها استثمار لبعض الحكايات الشعبية في منطقة الباحة، ومحاولة لتسجيلها في قالب قصصي، فلجأ المؤلف إلى تضمينها ضمن حديث صديقين في قريتين متجاورتين من قرى المنطقة، فكانت شخصية (الصاحب) تزور شخصية أخرى أسماها ب (المحدث) بدافع الاستفادة مما تضمه ذاكرة المحدث من وقائع وأحداث تاريخية أعجب بها الصاحب، فيبقى الحكي مفروطا بدون حبكة ظاهرة، حتى تبدأ إضاءات الراوي العالم بما في نفس الصاحب حول اقتناصه الفرص ليتعشى مع المحدث، بعد أن تذوق عشاءه في مرة من المرات. ولذلك تجد أن تنامي الأحداث يتم ببطء شديد مبطنا بالقصص التي يوردها المحدث، كما أن الشخصيات القصصية تظل سلبية في تحريك السرد باستثناء الصاحب والديوك التي تقطع إنصات الصاحب للمحدث.
عند قراءة الرواية نجدها اتخذت مسارين (مسار الحصون، ومسار ديك الشيبة) المسار الأول تكون علاقته بالسرد علاقة تأطير فقط، بينما المسار الآخر هو الذي يحرك السرد ويطور الأحداث. يتضح المساران لنا منذ قراءتنا للعنوان، فالكاتب عمد إلى عنونة الرواية بعنوانين، العنوان الأول (الحصون) والذي حتى في إخراجه الطباعي أكد الهدف ذاته، إذ نراه من حيث المساحة على الغلاف كبيراً، بينما ينزوي تحت ظله العنوان الآخر (ديك الشيبة) وكأنه عبارة شارحة، حيث حرص الكاتب على أن يجعله بين قوسين صغيرين، بحيث يعكس ذلك الإخراج الفني ما انطوى عليه السرد، ويؤكد ما أخفاه الكاتب بين ثنايا سرده. بل في الصفحة الأولى يدون الكاتب أهزوجة شعبية تقول: «ياهلال.. ياسعيد.. غدني واعشيك.. واقطع لك رأس الديك.. وآكله وأخليك» ص(6) وبهذه الأهزوجة يتكون لدينا نص موازٍ يؤازر مسار الديك، ويكشف من البداية العلاقة القائمة بين العنوان وخواطر الصاحب تجاه الديك، وهذا يعد تأكيداً من الكاتب على أن الخط الدرامي الذي يصنع الرواية هو الديك، وأن البطل الفعلي لها هو نفسه الديك، خاصة عندما تكون نهاية الرواية مفتوحة، وتتوقف وقفة تأكيدية على أن هذا الديك أبقى من شخصية (الصاحب) لتأكيد الراوي على شجاعة ذلك الديك الذي يدرك تماما المصير الذي آل إليه رفاقه من الديوك وهو المبيت في إحدى قدور المحدث: «وتفازع الدجاج تحت مطاردة الأولاد الذين هاجوا في الساحة يحوشونه «الديك» نحو المبيت، وقفز ديك مشحوب الصوت من فوق حجيرة منخفضة وبقي يقاقئ ويكسر من انثناءاته، فيذهب في اليمين، ويعود من الشمال، وكأنما يوجس خيفة من حد سكين، أتت على رقاب إخوته وأبناء جلدته، ولكنه ما لبث أن احتزم بشجاعته وقذف بجناحيه إلى الأرض ثم جرى مع الدجاجات إلى الداخل»ص(108).
مسار الديك يظهر كفاعل في تسلسل السرد، ويؤكد زمننته (وهذا على النقيض من مسار الحصون الذي سنوضحه في حينه). فالضيف الذي كان يحضر في بادئ الأمر إلى مضيفه للاستمتاع فقط بما يرويه من أحداث تلك الحصون ورغبته في الاستزادة مما يحويه من أحداثٍ عن القرى، كانت هي الهم الرئيسي الذي يقطع من أجله الصاحب الوادي الذي كان يفصل بينهما، قبل أن يتذوق عند مضيفه الطعام، ولكنه بعد إصرار المضيف عليه بالبقاء وتناول العشاء معه واستمتع بطعم الديك، بدأ يخالج نفسه هاجس ملازم له اسمه عشاء آخر من لحم الديك، فيمارس عليه ذلك الهاجس سيطرة كاملة، تتداخل مع مسارب تفكيره، وتكاد تطغى في بعض المواقف على الغرض الأصلي لزيارته، فنجده يسأل عن القصيدة التي جاء من أجلها، وهو مازال يفكر في الديك الذي سيطر على رغباته: «سأل الصاحب محدثه، وكان لم يتجرد بعد من هواجس الديك، عن تلك القصيدة التي علقت بكل لسان في القرى» ص(28) ولذلك نجده يرسم من هذه النقطة بالذات بداية هذا المسار الفعلية مع الضيف والديك، فنلفي الضيف يصغي لشقشقة الدجاج، وأذان الديك، ومطارداته لدجاجاته أثناء استماعه لحديث مضيفه، ويبدأ في اقتناص الساعات الملائمة لتوقع دعوة من المحدث في كل مرة سيحل فيها ضيفا على هذه الدار، وتلك الساعات تنحصر بين العصر والمغرب: «وبعد أيام جاء، وكان يقتنص ساعات العصاري ويهيئ لها» ص(37)، وبهذا ندرك أن الصاحب تغيرت مثيرات زيارته لمحدثه، فلم تعد تنطلق من دافع معرفي بقدر ما هو رغبة في اقتناص إصرار (المحدث) على بقائه حتى تناول العشاء معه، وفي بعض الأوقات المبيت في داره.
إن حديث الحصون يأتي كغطاء ينستر تحته المسار الأصلي في الرواية، فالحصن أصلا في الفعل الحربي يتم بناؤه ليستر المحاربين في جوفه من ضربات العدو، ولذلك فإن هذا الستر يسير في كامل الرواية لنجد حديث الحصون ينمي ذلك الاستتار بتطور القص وتتالي الزمن في الرواية. وتكاد تنبني الرواية كلها على تلك الحماية الناتجة عن الحصون وسترها لكل شيء فنجدها تكرر معنا في مواطن عديدة، وإن اختلفت أشكال التحصين من موقع لآخر، ولم يكن حديث الحصون سوى ساتر للمسار الفعلي الذي اتخذته رواية الحصون، ولذلك فقد جاء عرض الأحداث على طريقتين لكل مسار طريقه، فالمسار الأول إذا أطلقنا عليه (مسار الحصون) جاءت الوقائع فيه أشبه بأقصوصات تراثية يسردها (المحدث) على (الصاحب) وهي على مستوى البنية الروائية تعد متذبذبة زمنيا، أي أن الكاتب عمد في هذا المسار إلى تقنية اللاتسلسل الزمني Dechronologe بحيث تصطنع طريقة الارتداد الزمني، فيبدأ الفعل السردي من آخره، وذلك عندما يقوم الصاحب بإلقاء بعض الأسئلة على (المحدث) ليشكل نوعا من الحوار البسيط فيما بينهما، وتلك الأحداث (أعني أحداث الحصون) في ظاهرها مفككة، لا يصل بينها رباط منطقي، وكأنها لا توجد بينها أية لُحمة، بينما هي في الواقع ذات طابع واحد يصبغ أحداثها، وإذا تناولنا تعداد تلك الأحداث التي ألقاها (المحدث) على (الصاحب) سنجدها تنحصر في ثلاث عشرة أحدوثة، تتناثر أخبارها عن بعض الحروب التي دارت في القرى، أو بعض المصالحات التي تمت على أيدي شعراء، أو بعض المخاصمات التي كانت تعج بها تلك القرى، وربما بعضها خرج عن منظومة الخصومة التي اشتملت عليها تلك الأحدوثات، كقصة زفاف أحد مرتادي السوق من ابنة بائعة عن طريق الصدفة التي كان المحرك لها المزاح، أو كقصة بقرة الشريف، ولكنها جميعا ترتبط أولا بأنها تحمل ضمن ما تحمل دلائل الحكمة من أحد شخوصها كما أنها تكون إجابة عن سؤال للصاحب الذي عادة ما تقفز أسئلته من إغراء مَثَلٍ أو بيت شعر أو مقولة يريد السؤال عنها، ثم إنها في نهاية الأمر تكوِّن لبنة تاريخية شغف (الصاحب) بمعرفة قصتها، ولذلك فإننا نجد روابط تربط بين القصص جميعها، وقاسما مشتركا يتكرر فيها جميعا وهي ليست بمعزل عن بعضها البعض.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved