الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 13th November,2006 العدد : 176

الأثنين 22 ,شوال 1427

الشعر بين عيدين
سعد البازعي

مرَّ بنا العيد قبل أيام.. ومع مرور العيد مرَّ بنا المتنبي حاملاً عيده المألوف، عيده الذي نتذكّر كل عيد والذي أشير إليه في العنوان، أحد العيدين اللذين أتحدث عنهما، العيد الذي أقمنا في بيته أو بيوته طويلاً، أقمنا حتى استهلكنا جدران (البيوت) فتهالكت، ونحن لا نمل من العودة والترديد: (عيد بأية حال عدت...) حتى صار من الممكن أن يكون البيت عن البيت نفسه لا عن العيد: (بيت بأية حال عدت يا بيت...). ذلك أن البيت فقد الكثير من طزاجته وجماله من كثرة الترديد، تماماً كما يحصل لشعر جميل وقد استهلكته الاستعادة.
لكن ما هو العيد الثاني، يا ترى؟
إنه عيد بديل وقعت عليه مصادفة في (بيت) مختلف، وسأنقله تمهيداً للتعليق عليه:
ومر العيد بعد العيد مغترباً على الأبوابْ
مسفوحاً على الطرقاتْ
ولم تسمع خطاه البيض لم تسمعْ
وفي الساحاتْ
بريق الضفة الأخرى على الأثوابْ
ومجمرة من التاريخ فوق توهج الأطفالْ
وتجهش حولي الأسوار والمذياع والأقفالْ
(صوت السهارى يوم مروا عليه عصرية العيدْ)
فتنحب في دمي الأكوابْ
وتثلج حولك النيرانْ
وساجٍ أنت كالأكفانْ
إنه عيد حزين بلا شك، تماماً كما هو عيد المتنبي، لكن للحزن شكلاً مختلفاً تماماً هنا، له وجوه أطفال لم يعرفهم المتنبي في كل شعره، بل لم يكد يعرفهم الشعراء العرب منذ الجاهلية وحتى العصر الحديث. واختلاف الحزن من اختلاف العيد، العيد الذي يلبس هنا مجازات مغايرة لما ألفه قراء الشعر العربي، والمغايرة لكي لا يغضب حراس الألفة والعادة غير التفوق، هي مغايرة وحسب. كما أنه عيد مختلف لأن له صوتاً مختلفاً أيضاً، إيقاعاً متميزاً ببعض صفاته الصوتية.
ينطلق النص هنا وهو جزء من قصيدة من التجسيد نفسه الذي نجد لدى المتنبي، العيد الإنسان لكنه يمعن في التجسيد ليتحول العيد إلى إنسان مغترب لا تفتح له الأبواب ولا يعرفه الناس، بل إنه ينسفح على الطرقات مثل الدم المهدور. لكن هذه الصورة المنطلقة من تجسيد المتنبي، من مجاز لافت لكنه ليس مميزاً، سرعان ما تكتسب بعداً أكثر إداهاشاً وبكارة بكثير حين توصف خطى العيد بأنها خطى بيض في إشارة تجمع إلى براءة اللون صعوبة الملاحظة، ومن هنا تأتي الإشارة إلى أن تلك الخطى لم تسمع، فهي خطى أقرب إلى أن تسمع منها إلى أن ترى، كناية عن شدة الاغتراب.
لكن حتى السماع في حالة الاغتراب تلك يغدو مستحيلاً.
لكن أي ضفة أخرى هي التي يتحدث عنها في الصورة التالية: (وفي الساحات بريق الضفة الأخرى على الأثواب)؟ ألا تكون تلك الضفة المختلفة عما هو سائد هنا، الضفة التي للعيد فيها حضور متوهج؟ ضفة الأطفال في الصورة التالية: (ومجمرة من التاريخ فوق توهج الأطفال)؟. أولئك الأطفال هم الذين نتهيأ لحضورهم منذ الخطى البيض والأثواب، حيث يتماهى العيد مع الطفولة التي تفرح وحدها بالعيد. فالأطفال يقفون على الضفة الأخرى بعيداً عن الكبار الذين لم يعودوا يعرفون من العيد سوى اغترابه على الأبواب وانسفاحه على الطرقات. لكن كيف يمكن أن نفهم (مجمرة التاريخ)؟ هل تعني أن التاريخ يستمد وهجه من الأطفال؟ أم أنه يكتم وهج الطفولة؟ يصعب التأكد لكن ضغط الدلالات السابقة ينحو بالمعنى تجاه الاحتمال الثاني، لأن التاريخ أقرب إلى الكبار البالغين الذين يكتبونه ويمارسون الرقابة عليه. في الصورة التالية يرتفع صوت الشاعر معنياً بكل ما قيل، بل مركزاً للأسى، فكل شيء يجهش حوله بغربة العيد: الأسوار والمذياع والأقفال. كل أولئك يجهشون بأغنية (صوت السهارى)، تلك الأغنية (العيدية) بما تحكيه عن أسى العيد أيضاً، حيث ينسجم السهارى (العشاق المغنون) مع الأطفال في بهجة العيد ليبقى الشاعر المستمع وحيداً في عصريته الكئيبة. ثم يا للصدمة الأخرى، صدمة الأقفال وهي تحاول الانسجام مع الأطفال في قافية، فما أسهل الاقتراب لفظاً وأبعده معنى!
لكل ذلك يكون من الطبيعي أن تنحب الأكواب في دم الشاعر لأن لا فضاء ممكناً للبهجة حتى مع الأكواب وفي الدم، فكل شيء منطفئ حتى النيران التي تتحول إلى ثلج (قارن ذلك بتوهج الأطفال). ويكون طبيعياً بعد ذلك أن يحل الموت أو ما يشبه الموت في النهاية حين تأتي الأكفان لتسجي الشاعر وفرحة العيد معاً.
إنه عيد لا يقل أسى عن عيد المتنبي، فالضفة الأخرى هنا، الضفة التي ينأى عليها العيد، هي بيدأ الشاعر العربي القديم: أما الأحبة فالبيداء دونهم. لكن فرقاً واضحاً يقف حين يعلن المتنبي رفضه لعيد بلا أحبة، ويعبِّر الشاعر الحديث الذي ستعرفونه بعد قليل عن حنين إلى عيد يذهب إلى الطفولة والعشاق. إن تعبير الشاعرين عن غصة العيد هي فيصل الاختلاف، وليست الغصة نفسها، فهي مشتركة عبر القرون. وإذا كنت أشرت إلى بعض ملامح ذلك الاختلاف هنا فسأختم بملمح آخر يتمثَّل في إيقاع النص الحديث؛ ذلك أن أسطر النص الحديث، النص الخالي من الأبيات على الرغم من تفعيليته الواضحة، تنتهي على نحو يخالف ما تحبذه الذائقة اللغوية والفنية المتوارثة. فبدلاً من التحريك في أواخر الكلمات يختار الشاعر التسكين ليقف بالموسيقى أو بالإيقاع وقفة جامدة صارمة عند نهاية كل سطر (ربما باستثناء الأول، حيث يمكن التحريك)، لأن التحريك هنا يخل بالوزن، فغيابه مقصود. أما المهم في ذلك فهو أن التسكين أكثر انسجاماً مع جو الحزن الضارب على النص: التسكين غصة أخرى في الحلق، اختناقة بكاء، قفل على باب: الأبواب، الطرقات، لم تسمع، الساحات، الأطفال، الأقفال: كل هذه تتحول إلى وقفات، إلى أقفال صوتية تمنع القارئ من الانزلاق السهل من سطر أو صورة إلى أخرى، لا ليعيش الحزن هو نفسه فحسب وإنما أيضاً ليتأمل ما يقرأ دونما عون من ضم أو كسر يسهل انتقاله فيخفف من تأمله أو يلغيه. ثم تأمل قافية تجمع الأطفال إلى الأقفال، الفرح الطفولي إلى صرامة المنع وقسوة الإغلاق.
أخيراً لا بد من وقفة تعريف وتقدير لشاعر النص، شاعرنا الكبير، الأستاذ محمد العلي، ووقفة تعريف وشكر أخرى لمن استل النص فعرف به في (موسوعة الأدب العربي السعودي)، الناقد الدكتور عبد الله المعيقل، للشاعر لأنه جدد العيد، وللناقد لأنه وقف بنا على ذلك التجديد.
الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved