الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 13th December,2004 العدد : 87

الأثنين 1 ,ذو القعدة 1425

قراءة في رواية(سفينة وأميرة الظلال) «5»
اللغة الصوفية.. عبر كوننة الرؤية
سهام القحطاني
(الأديب يستطيع أن يقول اللغة في النص الأدبي أكثر مما تعلمت أن تقول)
أدونيس
الحديث عن لغة النص الأدبي، هو حديث معقد إلى حد ما، لأنك لا تستطيع أن تناقش هذا الجانب من تحليل أي خطاب ابداعي، دون المرور على اشكاليات البنيوية تجاه لغة النص، فنحن لا ننكر أن النص الأدبي هو تكوين لغوي في أساسه، أقول: لا ننكر أصل التكوين، لكن لا يعني هذا، أن يظل ذلك التكوين مقياساً أوحد للمفاضلة والتفكيك والتشريح، كما ذهبت البنيوية، لأن التكوين اللغوي للنص الأدبي لا ينمو إلا في ظل وعي المبدع، الممثل لوعي الجماعة بكل حمولاتها المختلفة، أي من خلال (رؤية العالم)، وهذا ما استدركته البنيوية فيما بعد.
النص الأدبي عبارة عن (بنية) مكونة من اللغة، أي نظام من العلاقات المتشابكة فيما بينها هي المنتجة للمعنى، وبذلك يتحول النص إلى سلسلة متعاقبة من العلاقات الظاهرة والمضمرة، التي نستطيع أن نسميها أقصد المضمّرة خلفية العلاقة الظاهرة المعينة على استنتاج المعنى مصدر التأويل الخاص بالنص، واللغة في ذاتها ساكنة، لأنها تمثل مجموع الملفوظات في ذهن المتكلم أو السامع، وتظهر هذه الملفوظات من خلال أسلوب ما عن طريق الصوت أو الكتابة الممثل لاحتياجات الفرد لتنفيذ الاتصال، أو التعبير، أي عبر مستويين مستوى ذهني، ومستوى تعبيري، أو ما يسمى (التعبير اللساني) إذا اجتمعا, وهكذا نلاحظ أن اللغة لا تتحرك من سكونها إلا عبر وعي المبدع، الذي يمثل بدوره وعي الجماعة عبر التعبير عن رؤية العالم، وهذا ما يطلق عليه عملية (فهم النص الأدبي) الذي يرتبط بالبنية الدلالية لعلاقات اللغة المتشابكة، وعملية الفهم تلك تيسر لنا عملية أخرى أثناء قراءة النص الأدبي وهي عملية (التفسير) وهذا يعيدنا إلى موقف البنيويين إلى أن الأشياء وجود مسبق، وأن اللغة هي وسيلة التعبير عن هذه الأشياء بصورة تختلف عن وجودها المسبق، وإن اعتمدت على خلفيتها الماضويّة، وهكذا يتجلى لنا الفارق بين لغة الأدب واللغة العادية، فلغة الأدب وسيلة تعبير، في حين أن اللغة العادية هي وسيلة اتصال.
تظل اللغة هي جسر التواصل بين فكرة الخطاب الإبداعي والمتلقي، كون النص الإبداعي في ذاته (بنية) منظومة علامات موّحدة ومعقدة، وهي ناتج الاستخدام الفني للغة، ولطبيعة الجنس الأدبي الذي يختلف عن آخر وفق مركزية اللغة ومقدار نسبة تشحينها بالدلالات، لا نوع اللغة، وهكذا تصبح اللغة عبر البنية (مجموع مركب من مكونات مترابطة ومتحققة بصورة عملية وجمالية في سلسلة متصاعدة ومعقدة، يربط بينها على التوالي عنصر مهيمن على هذه المكونات موكاروفسكي
وهذا لا يعني أن اللغة تظل قادرة وفق قدرة فردية واحدة أن ترشح كل الدلالات المحتملة للنص المضمرة والظاهرة، لكن بالضرورة أن تخلق فاعلية (ما) قد نتفق عليها أن نختلف، وفق حركية العلاقات المتعددة والمتشابكة داخل عالم النص من خلال فاعلية الأحداث وفاعلية الشخصيات وفاعلية السرد بتقنياته المختلفة.
للغة النص الإبداعي ست وظائف كما قسمها (ياكوبسون) هي:
وظيفة (مرجعية، تعبيرية، افهامية، شعرية، انتباهية، ما وراء لغوية)، ويقسم النص الأدبي كونه رسالة إلى: (سياق، مرسل، رسالة، مرسل إليه)، وتصنف الوظائف الست وفق تقسيم النص الأدبي كما في الجدول رقم «1»:
و(حسبما أعتقد) أن هذه الوظائف لا تجتمع خلال نص واحد، ولكني أظنها تجتمع في ثنائيات محددة كما في الجدول رقم «2»:
إذن نلاحظ، تكرار الوظيفة الشعرية، (لغة النص) مع تغير وسيلة التعبير خلال تلك اللغة سواء الشخصيات، الممثلة في المرسل، أو الأحداث
الممثلة في الرسالة، فاللغة تظل الوظيفة الثابتة للنص الأدبي.
ذكرت عندما تناولت تحليل الشخصية الحكائية في هذا النص، أن النص المعتمد على الحكي المتخيل، يعتمد على عنصر الأحداث ويهمش غالباً الشخصيات، أو قل: بطولة السرد للحدث لا لانفعالات الشخصيات، أي سيعتمد هذا النص على وظيفتي (الافهامية، المتعلقة بالرسالة والمرسل إليه، والشعرية المتعلقة، باختيار اللغة).
عندما تريد تحليل لغة أي نص أدبي، فأنت تضبط مقاييسه بقاعدة النسبة والتناسبية وفق مخصوصية الزمان والمكان والحالة وطبيعة الشخصيات، أو (هكذا أظن)، وضبط الاحتمال بفرضية التحديد تلك، هي التي تعينك على تحليل بناء الشخصية الحكائية ولغة الرواية وفق قاعدة النسبة والتناسبية، وهكذا فغياب هذا المنطق، أي قدر تمثيل أو عدم تمثيل اللغة لخصوصية احتمال معين أوشخصية معينة أو واقع معين، كي تستطيع حينها أن تحكم على قدرة اللغة على التمثيل والتصوير والتعبير للموجود ومدى مناسبتها أو عدمه للشكل المكلفة بمسؤولية التعبير عنه وتمثيله في كافة المستويات والحالات والمشاهد، تصاعداً وتنازلاً، تعيق عملية التحليل اللغوي للنص، لأنها تقطع لغة المحكي عن خصوصية شكلانية لواقع ما ليدور في فضاء مفتوح غير موصوف الحالة لشخصيات ذات أبعاد اجتماعية ونفسية وجسدية مختلفة، مكتفياً برؤية تكامل لموجود عام، وهذا يجعل اللغة تبتعد عن الأسلوب المشخص، وتنزوي داخل أسلوب تراثي، حينها، تصبح اللغة شكلاً واحداً يسير وفق خطية موحدة لا تعتريها اضطرابات وشد أو تداخلات أو صراع، وبذا تظل اللغة في هذا النوع من المحكي، تعبيرية أكثر من كونها دلالية خيالية من أي انفعالات.
بطبيعة الحال تتصف اللغة المعتمدة على الحكي المتخيل، بأنها لغة ذات توصيف خارجي بصري أكثر من كونها فكرية، وذات صوت واحد، وذات أسلوب زخرفي، تعتمد على الصور الفنية والمحسنات البديعية، ومفردات الصور والتصور والتخيل، والبعد الميتافيزيقي لمرجعية الأشياء وعادة هذا النوع من الأساليب يناسب الطريقة التعبيرية لوصف الأحداث والمشاهد أكثر من كونه أسلوب تشريح يقوم على استنباط الانفعالات الداخلية، والأسلوب التعبيري هو أسلوب يعتمد على الملفوظات أكثر من الانزياحات، فالمفردة تعبر عن حجم المساحة المكلفة بمسؤولية تنفيذها، دون أن تتمدد خارج هذه المساحة، فنجدها تلائم الزمن المخصوص والشخوص الذين يتحركون داخل عالمه المتخيل العجائبي، وبطبيعة الحالة بما أن اللغة تعبيرية فهي تميل إلى الصياغة الشعرية الغنية بالايحاءات والصور والألوان والأصوات المتعددة.. نتوقف عند بعض المقاطع.. لأن الخيال
في اللغة الصوفية، يساعد في الكشف عن نوع من المعرفة، وينير الطريق لادراك الحقائق المتعالية (ما شدني أكثر كان وشمة حزن معلقة كنجمة متلألئة بين العين والنجمة، يكسر فؤاديهما العامرين,.. كانا كلما تلاقيا وتذكرا طول الشوق وقسوة البعد، تنهمر دموعهما مطراً يملأ الأودية والآبار.. كان في قديم الزمان جميلة اسمها نعمة كانت هذه الصدفة تسكن أعمق مكان في البحر، أتت إلى هذا المكان البعيد العميق من شاطئها الضحل، حتى تبقى بقرب حبيبها الحوت الأزرق (نون).. الفتاة اللطيفة سهى التي كانت تسكن في طرف السماء الشرقي المحاط بسحب فضية وذهبية.. كانت تسير بين الأفلاك فتسدل شعرها الطويل فتسحب معها النجوم التي تناثرت وتعلقت بين خصلات شعرها المسبولة.. امرأة تغني وتدور، فتدور معها الأنجم من فوقها.. امرأة تغني وترفع يدها فتتبعها الأفلاك.. أترى هذا الليل يا سفينة؟ أنا اكتحل به كله ردائي ألقته يد الشمس علي،.. ما يكسوني إلا الهناء) وهكذا تظل لغة الرواية تسير وفق خطية الزخرف من صور فنية ومحسنات بديعية.
يمكن تقسيم لغة هذا النص إلى قسمين، لغة المشهد، ولغة الشخصية الحكائية، (لغة المشهد) نذكر مقاطعاً منها.. (تجلس على بساط ممتد مارأت عيني قط أحسن من هذا البساط.. كان البساط مختلف الألوان دائم التجديد.. لا يظهر من منازلها إلا القباب وجدران تحمل هذه القباب لونت أبواب هذه البيوت الدائرية بأزهى الألوان.. من شدة الحرارة تشققت الأرض وابيضت الرمال فصارت كالرماد الذي دك على سطحها.. فتاة تحمل إناء ماء صغير تغترف منه وترش الأرض هنا وهناك تسير يميناً ويساراً منحنية الظهر..)، ولغة الفرد تنقسم إلى لغة النفس، الحوار الداخلي (المناجاة أو المنولوج).. مثال ذلك قول سهل.. (فكرت في أعز ما لدي ما يساوي كسر قلب صاحبي هذا لأفتديه به، قلت: ليتني الذي أحببت هوى بدلاً منه، ليتني أحببتها.. ومت.. جعلت أقيس عمري بعمره، لأجد بماذا يمكنني أن أفديه، ثم أيقنت أنني لو لملمت أحسن ما كان في حياتي لم يساو لحظة صفاء قضاها سفينة مع هوى.. أحسست بضيق شديد وأنا عائد إلى المدينة فلم أعد أبالي بخلاص نفسي من الموت الذي حذرتني منه أميرة الظلال، تغير الموت فبدا غير ما أعرفه).
والحوار الخارجي أو الديالوج مثال ذلك.. (..يا حسونة إن صاحبك لا يحسن السباحة في الجحيم، أو الغوص في بحور العجائب، فما العمل الآن؟ أجابت حسونة: لعله لا يكون بحراً، قلت غاضباً: وماذا يكون إذاً؟ قالت حسونة: لعله وهم؟ استفتِ قلبك يا سهل، فقد ضاقت بك السبل وانحسر عنك المأمن..) ومن مقطع آخر: (أخذ سفينة برأسه وقال: سبحان الله من يحيط علمه بكل شيء، سألت: يا سفينة ما بالك أمسكت
برأسك، قال يا سهل هو ما كتب على المشكاة، سألت، وأي مشكاة، خطر في نفسي: قد جن الرجل!، أجاب: أما تذكر ما وجدته بين صفحات (كاتب النسيان) في مسجد قرية دخان)، الجملة المركبة تغلب على البناء اللغوي للنص، وأعطي مثالاً لذلك.. (.. فيطحنونه ويخلطونه بطريق خاصة ثم يترك هذا المداد لألف عام، فإن كتب به بعد ذلك، ونظرت إلى الكتابة رأيت المداد أسود وإن رفعت الورقة إليك صار لونه ذهبياً، وان نظرت إليها من احدى جوانبها صار لونه فضياً وإن قلبت الورقة اختفت الكتابة وكأنها لم تخط).. (من جيبها حصاتين صغيرتين جعلت تدق أحداهما على الآخر حتى خرج شرر ازرق من بينهما ثم انساب هذا الشرر فصار مثل ينبوع لهب أزرق.. امتد نهراً من نار، ثم بحراً ملأ الأفق سعيراً..).
لغة المشهد (الوصف)
لغة الفرد (حوار داخلي + حوار خارجي).
أول مانطالع النص، يفتح بحالة استرجاع ماضوية تمثلها أفعال مقرونة بزمن مخصوص، الزمن الماضي (وجدتها، رأت، كانت، تعجبت، قالت، قلت، همست، أخطأت، سألت) وهي أفعال حركية، سواء الحركة ظاهرة (قالت، قلت، همست، أكملت، حاولت، اقتربت)، أو مضمرة (وجدت، رأت، تعجبت) وإن كانت هذه الأفعال تحوي على حركة ذهنية داخلية كاستقراء للحظة حدث وتقيمها، والاعتماد الأولي على الفعل الماضوي، وهذا يشير إلى طبيعة المحكي المتخيل الذي يعتمد على هذا النوع من الأفعال، باعتباره تقيم لحالة أو تجربة مكتملة، وباعتبار الفعل الماضي بؤرة الهدف التي تصدر منه الأحداث.
في هذا النص لانكاد نسمع صوت السارد، بل يكاد يتناسخ مع الشخصية الثانية (سهل) وهذا بدوره فتت سلطوية السارد لتوزع على شخوص النص، فمثل كل منها سارد منفصل عن السارد الأصلي عبر ما يسرده من حكايات مختلفة، وهذا بدوره أضعف لغة التحليل واكتشاف دلالاتها، واحاطتها بوظيفة اشارية، تخضع لقوانين الحدث وتحولاته الخاصة، فلا تتجاوز فيه اللفظة حدود المعنى الظاهر، أو المعتادة في تمثيله فتتحرك فيه نحو مركزية الرؤية الافهامية التي يقصدها النص، لابراز سمة التطهير الذاتي، وتنقية النفس، مما جعل النص يسقط في تقريرية مركزة الهدف الوجداني المقصود.. اما عبر الشواهد القرآنية والأدبية، أو العبارات الارشادية التي أحاطت اللغة بشيء من التوالي والتراثية (فما من دابة في حجر أو طائر في سماء إلا ويبعث الله برزقه، وأنت لست بأهون على الله منهم يا ابن آدم.. الكنوز ما تحفظه صدور الورى لاما تخفيه قبور الثرى.. إن أردت أن تبني لك قصراً، فاعرف إن البناء الحقيقي لا يكون إلا بعمارة القلب.. منبت العلم الصدق ومتابعة الخير.. وقد أيقنت أن القلب ان صدق هو أوسع مدائن العلم، وأن حياته لا تكون إلا بتواتر الرحمات) وبذلك لا تنفصل الحياة المعاشة عن الحياة في اللغة وهي من أهم سمات اللغة الصوفية الأدب الكوني، لأن اللغة الصوفية تقيم الأشياء وفق منطق الذوق والحس، والبحث عن اللذة الروحية، (.. تركت وجهتي والتفت إلى رغبتي في البقاء بالقرب من هوى.. أبعدني هوى نفسي عن هوى قلبي.. فلم تقبل هوى بأقل من الكمال قدراً.. عجباً لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربه..).
وبذلك تكون حركة اللغة الصوفية في النص هي حركة دائرية يحاول الانسان، من خلالها التحقق والوجود في الرحلة المعرفية، بهدف العودة إلى حقائق الأشياء في العالم المثالي، لذا اعتمد النص على البناء الدائري، فالنص افتتح بفعل (وجدتها) فعل ماض متعد لمفعولين، ليترك الحرية الكافية لمساحات الرحلة التي بدأها سهل للتعرف على الحقائق، وختم النص بفعل (خرجت) وهو ماض لازم، يشير إلى تحقيق الوصول إلى الحقيقة النسبية التي تؤهل سهل للبدء من النقطة الصحية للحقائق.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved