الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 13th December,2004 العدد : 87

الأثنين 1 ,ذو القعدة 1425

عن الإنسان أتحدث
أمل زاهد
يدهشني بقدر ما يحيرني ذلك الكائن الساحر: الإنسان.. تلك التوليفة العجيبة من المتناقضات، قبضة الطين ونفخة الروح، الخير الذي يعمر به داخله والشر الذي يناوئه ويغازله كي يمتثل لأمره. تلك الرغبة الشديدة في التسامي والعلو والرفعة والتحرر من أسر الجسد وشهواته والنفس ورغباتها، وذلك الانحدار والإسفاف إلى أدنى الغرائز وأحط الشهوات. ذلك الحنين إلى الانعتاق والرغبة في التحرر من قيود الجسد والزمان والمكان، وذلك العجز الذي يكبله ويشد قدميه إلى الأرض ويطوق ذراعيه ويمنعهما من التحليق ويكتم صوته بين جوانحه ويخرس أغانيه على شفتيه. تلك الرغبة في الكمال والتوق إلى المثالية وتحقيق أرفع الأخلاق والتمسك بأعلى القيم كالحق والخير والعدالة والمساواة والحرية وذلك الانحطاط إلى رغبات القتل والتدمير والتكالب على تحقيق شهوة الامتلاك والسلطة.. ذلك الكم الهائل من الدوافع والحوافز المختبئة في دواخله والمدفونة في أعماقه والتي تسوقه وتدفعه لسلوكيات معينة.. تلك المجاهدة والمكابدة التي يبذلها كي يقهر نفسه ويقومها، فيقهرها مرات وتقهره أخرى، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}.
ومنذ أن ارتكب الإنسان خطيئته الأولى في القتل عندما قتل قابيل أخاه هابيل، ولعنة القتل والدم تطارد الجنس البشري، وتقوده إلى حافة التدمير والهلاك وإلى هاوية هدر الأرواح وتبديد الأنفس وتمزيقها دون وجه حق. والوحش الذي يسكنه يخرج على رغبة منه أحياناً وفي غفلة منه أحياناً أخرى، ليمارس شهوة القتل وليقترف جرائم الإبادة والمحو ولينتشي بخمر السلطة ويتربع على عرشها العالي ويضع على هامته صولجانها الساحر. ولا أرى أمراً قادراً على تدمير الإنسان وفنائه أكثر من تبني الأيدلوجيات، فيصبح المرء عبدا لها وخاضعاً لهيمنتها، فتعصب عينيه عن رؤية الحقيقة ويفشل نظره في استراق البصيرة وتلمسها خارج أطرها، فيقتل من أجلها ويبيد في سبيل رفع رايتها. وقد ثار كثير من مريدي الحقيقة وطلابها على الأيدلوجية التي سجنتهم في أصفادها، فخرجوا عليها ناقمين ولمبادئها محطمين فراحوا يحاولون كشف الأغطية وتمزيق الأحجبة عن حقيقتها، رافضين أن تستعبدهم تلك الأيدلوجية بعد أن تفتحت أعينهم على أخطارها، تؤرقهم مسؤولية المعرفة ويقض مضاجعهم حمل أمانتها فدقوا نواقيس الخطر كي يقولوا للعالم إن الإنسان هو الأهم، وأنه ليس هناك أيدلوجية تستحق أن
تزهق روح من أجلها.
وقد حاول جورج أوريل في رواية قاتمة الأجواء كئيبة الملامح متخيلة الأحداث أسماها (العالم سنة 1984)، أن يفضح حقيقة الحكم الشمولي وأخطاره وامتهانه لإنسانية الإنسان، وأساليب القمع والإرهاب التي تنتهك آدميته وتسحق فرديته وتقضي على حريته. وبنظرة ممعنة في التشاؤم تخيل أوريل أنه لن تكون في العالم سنة 1984 إلا ثلاث دول يحكمها النظام الشيوعي بالحديد والنار ويمارس فيها على الأفراد أبشع صنوف التعذيب والقهر والاستلاب. وبوصف مفعم بالسوداوية لتفاصيل التعذيب وأفانين التنكيل وطرق التجسس تستمر أحداث الرواية التي تحاول قرع أجراس الإنذار وتشعر العالم بالخوف على مصير الإنسان. وكان أوريل قد تبنى الأفكار الاشتراكية لمدة من الزمن، قبل أن تنكشف أمام ناظريه بشاعة وخواء هذا الفكر، فانطلق يكتب الرواية تلو الأخرى فاضحاً هذه الأفكار وكاشفاً لعفنها، وذلك بعد أن اصطلى بنارها وانقلبت المبادئ التي آمن بها لتصبح سلاحاً ضده إبان اشتراكه في الحرب الأهلية بإسبانيا.
ورغم أن تكهنات أوريل بالنسبة لاكتساح الحكم الشيوعي للعالم لم تتحقق وشهد أواخر القرن العشرين انهيار الاتحاد السوفيتي وانحسار المد اليساري، فقد اكتوت بقع كثيرة من العالم بويلات أنظمة الحكم الشمولي، وناءت بما تحمله من قهر وقمع وشنق وسحل وتمزيق وتعذيب، وشهد العراق على سبيل المثال محو قرى من على وجه خارطته وإبادات جماعية للأكراد وظلم شامل أطبق على أنفاس الشعب وجثم على صدورهم في عهد طاغيته صدام. وها نحن نشهد الآن العالم يموج وينصهر تحت سطوة المد الأصولي بأوجهه المختلفة البنلادنية القاعدية منها والمسيحية البوشية، ليخرج علينا الرئيس الأمريكي بوش بعد أحداث سبتمبر قائلاً: من ليس معنا فهو ضدنا!!!
ومع كل هذه الأنباء عن الدمار التي نحتسيها مع قهوة الصباح ونتغمس بها مع وجباتنا اليومية، ومع رائحة الدم
التي ما عادت تزكم أنوفنا لأننا تعودنا على كراهية رائحتها واعتادت نفوسنا على بشاعتها، أتساءل بقلب واجف ونفس قلقة عن مصير الإنسان؟! أتساءل عن خليفة الله في الأرض والذي خلقه الله سبحانه وتعالى كي يعمرها؟! فإذا به يعيث فيها فساداً وإفساداً؟! أتساءل هل فهم هذا الكائن جوهر الرسالات السماوية وروحها؟! أم أنه حاول منذ القدم إخضاعها لشهوة السلطة والسيطرة ولرغبة الامتلاك مستخدماً الكهنوت الديني كغطاء وسقف لمطامحه؟! وهل لا يزال هذا الكائن رهين مرحلة الطفولة الغرة التي لا تدرك ما يضرها وما ينفعها ولا تستوعب الهدف من خلقها؟!! وهل سيبقى طويلاً كارهاً جاحداً لأخيه الإنسان ساحقاً قيم الإنسانية تحت قدميه؟!
وفي رؤية استشرافية لمستقبل الانسان يأخذنا برتانرد رسل إلى مشارف الأمل والتفاؤل في كتابه (هل للإنسان مستقبل؟)، فيقول: إن الانسان لم يصل بعد إلى ما يستطيع تحقيقه فعلاً، وإن ما يمكن تحقيقه يفوق قدرتنا على التخيل، وإن الفقر والوحدة والمرض يمكن أن تصبح مصائب نادرة، ولكنه يؤكد على ضرورة القضاء على الحروب والتخلص من حمى التسلح، وتوجيه حوافز الأفراد والجماعات التنازعية إلى التنافس في التقنية العلمية وتحقيق الرخاء للإنسان والإنجازات الحضارية سواء كانت تتعلق بالمعرفة أو الفن أو الاكتشاف والمغامرة، وأن تحقيق ذلك سيتم بالقضاء على الكراهية والاهتمام بالتربية والتعليم حتى تساعد على القضاء على الشعور الشوفيني، والتركيز في تدريس التاريخ والمواد الاجتماعية حول الإنسان، ويؤكد أن تحرر الإنسان من مخاوف الحروب والفقر والحاجة الاقتصادية سينقله إلى عوالم لم يكن يحلم يوماً في الوصول إليها.
ومع أنباء الحروب والدمار وحوادث التفجير والتدمير وأصوات القنابل التي تصم آذاننا، لا يسعني إلا أن أتساءل هل كان رسل حالماً وهو يكتب كتابه ذلك في الستينات من القرن الماضي؟! أم أنه كان يحاول بث روح التفاؤل والأمل وخلق وصنع الحلم؟.. فتحقيق الأحلام يبدأ دائماً بتصديقها والإيمان بها والحقيقة موجودة داخلنا قبل أن تكون موجودة فيما حولنا. وأتساءل أيضاً هل بالإمكان التنبؤ والتكهن بأحداث العام المقبل فقط في عالم يعصف به الجنون، وتهب عليه رياح التقلب فيصفعنا كل يوم بما هو غير متوقع؟!


amal_zahid@hotmailcom

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved